خطب ومحاضرات
الروض المربع - كتاب الصلاة [89]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فالمؤلف ذكر هذا الفصل؛ لبيان شروط صحة الجمعة، وأما ما سبق فهي شروط من تجب عليه الجمعة.
قال المؤلف رحمه الله: [ يشترط لصحتها أي صحة صلاة الجمعة أربعة شروط، ليس منها إذن الإمام ] يعني: لا يشترط أن يستأذن الإمام لإقامة الجمعة في المسجد، وهذا هو مذهب جماهير أهل العلم، وهو مذهب مالك و الشافعي ، خلافاً لـأبي حنيفة ، فإنه قال: لا بد فيها من إذن الإمام.
واستدل الجمهور على ذلك بقول المؤلف: [ لأن علياً صلى بالناس و عثمان محصور فلم ينكره أحد وصوبه عثمان ] زمن الفتنة كان علي رضي الله عنه قد صلى بالناس صلاة الجمعة و عثمان رضي الله عنه محصور في بيته لم يستطع أن يخرج؛ لأن أهل الفتنة قد حبسوه، ولم يستأذن عثمان رضي الله عنه في ذلك، وكان ذلك في ملأ كثير من الصحابة، ولم ينكر أحد ذلك، والأثر عن علي رضي الله عنه إسناده جيد، رواه عبد الرزاق وغيره وإسناده لا بأس به، ومما يدل على ذلك: أن إذن الإمام خارج عن الأصل؛ لأن الأصل في العبادات أن تصلى وتفعل بلا إذن أحد، فمن خرج عن هذا الأصل لا بد له من دليل، ولأن الإذن إنما يتأتى فيما لا يتكرر، كصلاة الاستسقاء، فإن تكررها إنما يكون بأمر يحتاجه المسلمون، فلا بد فيه من إذن الإمام، حتى يجتمع الناس للمقصود منه، وأما صلاة الجمعة فهي تخالف ذلك، فهي تتكرر وليس خروجها لأجل حصول مقصود دنيوي، وإنما لأجل إقامة شعيرة من شعائر الدين؛ ولأن إذن الإمام إنما يصار إليه إذا كان ذلك لأجل حاجة المسلمين؛ ولأجل حصول الاجتماع فيما لا يتكرر، كصلاة الاستسقاء؛ هب أن كل واحد خرج لوحده لصلاة الاستسقاء، هل يحصل المقصود؟ لا، المقصود خروج الناس كلهم تضرعاً وانكساراً بين يدي الله، أما صلاة الجمعة فليس فيها هذا الأمر، فهي تتكرر، وليس المقصود من إقامتها حصول أمر يحتاجه المسلمون، إنما لأجل إقامة هذه الشعيرة.
قال المؤلف رحمه الله: [ رواه البخاري بمعناه ] البخاري روى الحديث في قصة عثمان رضي الله عنه، وليس فيها هذا التفصيل، ولكن حينما قيل لـعثمان رضي الله عنه: إنه يصلي بنا أمير فتنة، وأنت كما ترى، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) وهذا يدل على أنهم كانوا يصلون الصلوات من غير إذن عثمان فكانت الجمعة من ضمنها، فكان علي رضي الله عنه هو الذي يقوم بالإمامة والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ أحدها: أي أحد الشروط ] وهو أولها، قال: [ الوقت ] وقد سبق أن ذكرنا أن الجمعة فرض الوقت، ومعنى قولنا: (فرض الوقت) أنها لا تقضى بعد انتهاء الوقت، فكان فرضها وقتها، بخلاف سائر العبادات، فإنها تقضى لأي عذر بالإجماع، وتقضى حتى لو تركها الإنسان تعمداً وهو قول الأئمة الأربعة، وقد حكى بعضهم ذلك إجماعاً، وإن كان في المسألة خلاف فقد خالف في ذلك الحسن البصري وهو اختيار أبي العباس بن تيمية، وقلنا: إن الراجح هو مذهب الأئمة الأربعة، على أن القضاء يحكي الأداء ولا يلزم أمر آخر لأجل أن يقضيها الإنسان الذي تركها متعمداً.
وعلى هذا فقول المؤلف: (الوقت) ولم يقل: دخول الوقت؛ لأن دخول الوقت يلزم منه أن تقضى بعدها، والجمعة لا تفعل بعد وقتها بخلاف بقية الصلوات؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [ لأنها صلاة مفروضة فاشترط لها الوقت كبقية الصلوات، فلا تصح قبل الوقت ولا بعده ]، فهي لها وقت محدد، لا تصح قبله ولا تصح بعده، على الخلاف عندهم متى يبدأ وقت الجمعة، مع إجماعهم على أن آخر وقت الجمعة هو أول وقت العصر، أو آخر وقت الظهر؛ لأن هناك خلافاً بين الظهر والعصر هل بينهما فرق أو لا؟ هناك خلاف عند بعض الحنفية وغيرهم.
أول وقت الجمعة عند الحنابلة
قال المؤلف رحمه الله: [ إجماعاً قاله في المبدع، وأوله أول وقت صلاة العيد لقول عبد الله بن سيدان: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره، رواه الدارقطني و أحمد واحتج به ].
المؤلف رحمه الله يرى أن صلاة الجمعة تبدأ من ارتفاع الشمس قيد رمح، وإنما لم يقل ذلك؛ لأنه قال: كعيد، والعيد إنما يبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، واستدل المؤلف بما رواه عبد الله بن سيدان السلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، وجه الدلالة من ذلك: أن أبا بكر رضي الله عنه صلاها قبل دخول وقت الظهر، وأن عمر رضي الله عنه صلاها قبل دخول وقت الظهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن يطيعوا
وهذا الحديث يقول المؤلف: (رواه الدارقطني و أحمد واحتج به)، أولاً: الحديث في سنده عبد الله بن سيدان لا يتابع على حديثه، كما يقول البخاري ، وإذا قال العلماء: لا يتابع على حديثه يعني أنه لم يأت ما يعضده من الأحاديث، وأن هذا الراوي قد تفرد، وأنتم تعلمون أن الراوي إذا كان حسن الحديث وأتى بما يخالف حكماً شرعياً لم يأت به الثقات أن العلماء يتوقفون بشأنه، فما بالك إذا كان الرجل يروي قصة يشهدها عامة الصحابة وكبار التابعين، فيذكر أن أبا بكر صلى قبل دخول وقت الظهر بعد منتصف النهار، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا فيمن يشتهر ذكره وروايته وخبره، وأن الراوي إذا نقل مثل ذلك لا بد أن يكون مشهوراً بالقرب من الصحابة، مشهور الرواية في العلم، و عبد الله بن سيدان ليس له من ذلك شيء.
وعلى هذا فالحديث ضعيف، ضعفه البخاري و ابن عدي و أكثر أهل العلم، والمعروف عن أبي بكر و عمر خلاف ذلك، ولهذا روى ابن أبي شيبة من حديث سويد بن غفلة رحمه الله قال: صليت مع أبي بكر و عمر حين زالت الشمس، وهذا الحديث إسناده صحيح، وهو يفيد أن المعروف عن أبي بكر و عمر أنهما كانا يصليان الجمعة بعد زوال الشمس.
قال المؤلف رحمه الله: [ وكذلك روي عن ابن مسعود و جابر و سعيد و معاوية أنهم صلوا قبل الزوال ولم ينكر ].
أحسن ما جاء عن الصحابة في ذلك عن معاوية رضي الله عنه، فإنه صلى بالناس الجمعة ضحى، كما روى ذلك ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن سويد ، وإسناده جيد، وأما ما جاء عن جابر فإنه حديث ضعيف، وأما ابن مسعود فقد جاء من طريقين، كلاهما لا يخلوان من ضعف.
وأما قول المؤلف: ( سعيد ) فإن المعروف عن سعيد من الصحابة هو سعيد بن زيد ، ولم يعرف أنه رضي الله عنه عرف بالفقه أو نقل الفقه، ولهذا استشكل كثير من الشراح من هو سعيد ؟ ولعل الذي يظهر والله أعلم أنه سعد وليس سعيد ، ففي بعض النسخ سعيد وبعضها سعد ، فبعضهم يقول: إنه سعيد بن زيد ، وبعضهم يقول: سعيد بن المسيب وهذا بعيد؛ لأن الإمام أحمد إنما أراد أن يذكر الصحابة فيبعد أن يقول: سعيد بن المسيب ثم يقول: معاوية ! ولهذا فإن المعروف أنه سعد بن أبي وقاص ، والرواية عنه ضعيفة والله أعلم.
اختلاف العلماء في بداية وقت الجمعة
ومما يدل على ذلك أن الإمام أحمد لم يحتج بحديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم!
فعلى هذا الذي يظهر والله أعلم أنه لا تصح الخطبة ولا الصلاة إلا بعد دخول وقت الظهر، ولا ينبغي للإمام أن يدخل قبل ذلك؛ لأن جماهير أهل العلم وفقهاء الأمصار لا يرون صحة الخطبة قبل الوقت، وبعضهم يقدمها ربع ساعة قبل الأذان فيخطب بحيث يصلي صلاة الجمعة في الوقت، وهذا عند جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية وبعض الحنفية؛ لأنه لا بد أن تكون الجمعة أيضاً خطبتها في الوقت؛ لأنها بدل عن الركعتين كما يقول الفقهاء رحمهم الله.
وهناك ثالث: اختاره الخرقي وقواه ابن قدامة : أنها لا بأس أن تفعل في الساعة السادسة، ومعنى الساعة السادسة: أي من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس، ينظر كم ساعة بينهما، ثم تقسم إلى ست ساعات، ومعنى الساعة: الجزء من الوقت، وليس الساعة التي هي ستون دقيقة، فالساعة السادسة يجوز فيها إقامة صلاة الجمعة.
قالوا: لحديث جابر : (كنا نصلي صلاة الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا، وليس للحيطان ظل يستظل به)، قالوا: فإنه يبعد أن تكون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته ثم ذهابهم إلى الجمال وليس للحيطان ظل فيدل على أنها قد فعلت قبل الوقت بقليل، وهذا ليس فيه دلالة صريحة؛ لأنه قال: (ثم نذهب إلى جمالنا) لعل جمالهم قد أنيخت قريباً من المسجد، خاصة أن الصحابة كانوا إذا صلوا الجمعة يخرجون، لا يجلسون مثل جلوس الناس اليوم، ولهذا يقول الراوي: (فخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة)، وذكر البخاري : (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينتظر قليلاً)، قال الزهري: وكنا نرى والله أعلم أن ذلك لأجل أن يخرج النساء، فهذا يدل على أنه لم يكن هذا الجلوس معتاداً، وإن كانوا يذكرون الله سبحانه وتعالى بعد أدبار الصلوات، وما كنا نعرف انقضاء صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير، والله أعلم.
وهذا محتمل، ولكن البقاء على النصوص الظاهرة أولى، والله أعلم.
وقول جابرهذا لا يلزم منه أنه وقت الزوال؛ لأن الحينية في لغة العرب تقتضي القرب ليس إلا، ولا تقتضي الوصول إلى هذه الحالة، تقتضي القرب؛ ولهذا قال جابر ذلك، وهذا إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الصلاة والخطبة مثل فعلنا في هذا الزمان، والله أعلم.
آخر وقت صلاة الجمعة
أجمع أهل العلم على أن صلاة الجمعة وفعلها بعد زوال الشمس أفضل؛ لكثرة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، والصحابة كذلك؛ ولأن في ذلك خروجاً من الخلاف.
تأخير صلاة الجمعة إلى آخر الوقت عند اشتداد الحر
وذهب بعض الشافعية إلى أنها تؤخر إذا اشتد الحر؛ لعموم الأحاديث، والذي يظهر والله أعلم أنها لا تؤخر، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أبي بكر و عمر أنهم يؤخرون، وهذا الفعل يخصص عموم النص، على قاعدة: فعل الصحابة أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم يقيد عموم النص، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) علم أنه يستحب إذا كان وقت شدة الحر أن يصلي الإنسان آخر الوقت، فهذا يدل على عموم الصلوات.
لكن لما رأينا فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصليها حين تزول الشمس، ورأينا أبا بكر يصنع ذلك و عمر يصنع ذلك، دل ذلك على أن هذا مخصص من عموم النص، وقد ذكر الشاطبي في الاعتصام، وكذلك علماء الأصول: أن فعل الصحابة يخصص عموم النص الشرعي، كما ذكروا ذلك في مسألة القبضة وغيرها، والله أعلم.
وعلى هذا فالمستحب يوم الجمعة أن تصلى في أول وقت صلاة الظهر، ولا تؤخر ولو كان ذلك في شدة الحر، وهو مذهب الجمهور والله أعلم.
الابتداء بصلاة الجمعة قبل خروج وقتها والخلاف في إتمامها جمعة أو ظهراً
لو أن الناس انتظروا الإمام ولم يأت إلا قريباً من العصر، فلا يخلو الأمر من أحوال:
الحال الأولى: ألا يدرك الإمام ركعة قبل الوقت، مثل أن يكبر تكبيرة الإحرام وقبل أن يركع أو حال الركوع قبل أن يتم قائماً خرج وقتها، فإنهم يتمونها ظهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) والذي لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة، وهذا كما يقول المؤلف: (لا نعلم فيه خلافاً).
وأما لو أدرك ركعة بركوعها بحيث عندما استتم قائماً من الركعة إلى الركعة الثانية خرج وقت الظهر، فإنه يتمها جمعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وهذه المسألة أقصد بها بعد التحريمة هو مذهب جمهور أهل العلم الذين قالوا: لا بد فيها من إدراك ركعة، وأما إذا لم يدرك إلا أقل من ركعة فإن الحنابلة رحمهم الله يرون أن إدراك تكبيرة الإحرام كافية في إقامة الجمعة.
واستدلوا على ذلك بما روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة: ( من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) قالوا: فهذا يدل على أن المقصود جزء من الصلاة.
والراجح هو مذهب جمهور أهل العلم، وأن حديث: ( من أدرك سجدة من الصلاة ) المقصود بذلك ركوعها وسجودها كاملة، وليس المقصود هو جزء من مقدار السجدة.
وعلى هذا فالحنابلة يرون أن الإمام إذا كبر لصلاة الجمعة قبل خروج وقتها أنه يصليها، وأنه إن لم يكبر حتى خرج وقتها فإنه يصليها ظهراً، وهذا محل إجماع عند أهل العلم فيما إذا خرج الوقت قبل أن يكبر، إنما الخلاف إذا كبر قبل خروج الوقت، ولم يصل حتى ركعة، فالحنابلة يقولون: يدرك الجمعة فيصلي ركعتين، والجمهور يقولون: لا يدرك الجمعة حتى يدرك ركعة، وهذا هو المعروف من مذهب مالك و الشافعي وغيرهم.
قال المؤلف رحمه الله: [ وإلا بأن أحرموا بها في الوقت فجمعة ].
إن أحرموا بها في وقت الجمعة ولو لم يصلوا ركعة، فإنهم يصلونها جمعة، هذا مذهب الحنابلة، والراجح خلاف ذلك، وأن مقصوده هو إدراك ركعة بركوعها وسجودها، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ كسائر الصلوات تدرك بتكبيرة الإحرام في الوقت ].
مر معنا الخلاف في ذلك، وقلنا: إن الراجح خلاف ذلك والله أعلم.
الشك في خروج وقت الجمعة
قول المؤلف رحمه الله: (ولا تسقط الجمعة بشك في خروج الوقت) لأن الأصل بقاء وقت الجمعة، واليقين لا يزول بالشك، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن بقي من الوقت قدر الخطبة والتحريمة لزمهم فعلها وإلا لم تجز ].
وعلى القول الراجح نقول: فإن بقي من الوقت قدر الخطبة ومقدار ركعة لزمهم فعلها، وإلا لم تجز، وسوف يذكر المؤلف شروط الخطبة بعد ذلك؛ لأنه جائز أن تكون الخطبة طويلة، وجائز أن تكون قصيرة.
ثم شرع المؤلف في بيان أول وقت الجمعة مع خلاف بين الحنابلة وجمهور أهل العلم فإن الحنابلة سيخالفون جماهير أهل العلم وفقهاء الأمصار كما يقول أبو عمر بن عبد البر ، فأول الوقت الجمعة عند الحنابلة في المذهب هو: أول وقت صلاة العيد، وهو من ارتفاع الشمس قيد رمح.
قال المؤلف رحمه الله: [ إجماعاً قاله في المبدع، وأوله أول وقت صلاة العيد لقول عبد الله بن سيدان: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره، رواه الدارقطني و أحمد واحتج به ].
المؤلف رحمه الله يرى أن صلاة الجمعة تبدأ من ارتفاع الشمس قيد رمح، وإنما لم يقل ذلك؛ لأنه قال: كعيد، والعيد إنما يبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، واستدل المؤلف بما رواه عبد الله بن سيدان السلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، وجه الدلالة من ذلك: أن أبا بكر رضي الله عنه صلاها قبل دخول وقت الظهر، وأن عمر رضي الله عنه صلاها قبل دخول وقت الظهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن يطيعوا
وهذا الحديث يقول المؤلف: (رواه الدارقطني و أحمد واحتج به)، أولاً: الحديث في سنده عبد الله بن سيدان لا يتابع على حديثه، كما يقول البخاري ، وإذا قال العلماء: لا يتابع على حديثه يعني أنه لم يأت ما يعضده من الأحاديث، وأن هذا الراوي قد تفرد، وأنتم تعلمون أن الراوي إذا كان حسن الحديث وأتى بما يخالف حكماً شرعياً لم يأت به الثقات أن العلماء يتوقفون بشأنه، فما بالك إذا كان الرجل يروي قصة يشهدها عامة الصحابة وكبار التابعين، فيذكر أن أبا بكر صلى قبل دخول وقت الظهر بعد منتصف النهار، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا فيمن يشتهر ذكره وروايته وخبره، وأن الراوي إذا نقل مثل ذلك لا بد أن يكون مشهوراً بالقرب من الصحابة، مشهور الرواية في العلم، و عبد الله بن سيدان ليس له من ذلك شيء.
وعلى هذا فالحديث ضعيف، ضعفه البخاري و ابن عدي و أكثر أهل العلم، والمعروف عن أبي بكر و عمر خلاف ذلك، ولهذا روى ابن أبي شيبة من حديث سويد بن غفلة رحمه الله قال: صليت مع أبي بكر و عمر حين زالت الشمس، وهذا الحديث إسناده صحيح، وهو يفيد أن المعروف عن أبي بكر و عمر أنهما كانا يصليان الجمعة بعد زوال الشمس.
قال المؤلف رحمه الله: [ وكذلك روي عن ابن مسعود و جابر و سعيد و معاوية أنهم صلوا قبل الزوال ولم ينكر ].
أحسن ما جاء عن الصحابة في ذلك عن معاوية رضي الله عنه، فإنه صلى بالناس الجمعة ضحى، كما روى ذلك ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن سويد ، وإسناده جيد، وأما ما جاء عن جابر فإنه حديث ضعيف، وأما ابن مسعود فقد جاء من طريقين، كلاهما لا يخلوان من ضعف.
وأما قول المؤلف: ( سعيد ) فإن المعروف عن سعيد من الصحابة هو سعيد بن زيد ، ولم يعرف أنه رضي الله عنه عرف بالفقه أو نقل الفقه، ولهذا استشكل كثير من الشراح من هو سعيد ؟ ولعل الذي يظهر والله أعلم أنه سعد وليس سعيد ، ففي بعض النسخ سعيد وبعضها سعد ، فبعضهم يقول: إنه سعيد بن زيد ، وبعضهم يقول: سعيد بن المسيب وهذا بعيد؛ لأن الإمام أحمد إنما أراد أن يذكر الصحابة فيبعد أن يقول: سعيد بن المسيب ثم يقول: معاوية ! ولهذا فإن المعروف أنه سعد بن أبي وقاص ، والرواية عنه ضعيفة والله أعلم.
وقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة الجمعة قبل الزوال، فذهب الحنابلة إلى جواز ذلك في المشهور عنهم، واستدلوا بأحاديث مرفوعة، ولكنها ليست ظاهرة، من ذلك: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) قالوا: والقيلولة لا تكون إلا قبل الزوال، كما ذكر ذلك ابن قتيبة ، وهذا ليس فيه ما يدل على المراد؛ لأن المراد والله أعلم أن قيلولتنا يوم الجمعة لم تكن إلا بعد صلاة الجمعة، فكأن هذا نوع من انتقال، ليس إلا، وأحسن شيء في الباب: أنه جاء عند مسلم من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عن الجميع: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ) يقول جابر : ( ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس ) وهذا يدل على أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته لم تكن طويلة، ولهذا يقول: ( ثم نذهب إلى الحيطان، وليس للحيطان ظل يستظل به ) وأنتم تعرفون إذا زالت الشمس يكون فيء الزوال قصيراً؛ لأن الشمس ما زالت في كبد السماء، فهم يقولون: ( وليس للحيطان ظل يستظل به ) دليل على أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته كانت قصيرة، أو ليست طويلة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمار : ( أن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ) من حديث عمار بن ياسر ، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الخطبة، وليس فيها ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الوقت، ولهذا روى البخاري من حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمع حين تميل الشمس) فعندنا أنس و جابر وسلمة بن الأكوع وغيرهم ينقلون لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس، ولم ينقل واحد منهم أنه كان يصليها أحياناً قبل ذلك، فدل ذلك على أنه لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها قبل ذلك.
ومما يدل على ذلك أن الإمام أحمد لم يحتج بحديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم!
فعلى هذا الذي يظهر والله أعلم أنه لا تصح الخطبة ولا الصلاة إلا بعد دخول وقت الظهر، ولا ينبغي للإمام أن يدخل قبل ذلك؛ لأن جماهير أهل العلم وفقهاء الأمصار لا يرون صحة الخطبة قبل الوقت، وبعضهم يقدمها ربع ساعة قبل الأذان فيخطب بحيث يصلي صلاة الجمعة في الوقت، وهذا عند جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية وبعض الحنفية؛ لأنه لا بد أن تكون الجمعة أيضاً خطبتها في الوقت؛ لأنها بدل عن الركعتين كما يقول الفقهاء رحمهم الله.
وهناك ثالث: اختاره الخرقي وقواه ابن قدامة : أنها لا بأس أن تفعل في الساعة السادسة، ومعنى الساعة السادسة: أي من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس، ينظر كم ساعة بينهما، ثم تقسم إلى ست ساعات، ومعنى الساعة: الجزء من الوقت، وليس الساعة التي هي ستون دقيقة، فالساعة السادسة يجوز فيها إقامة صلاة الجمعة.
قالوا: لحديث جابر : (كنا نصلي صلاة الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا، وليس للحيطان ظل يستظل به)، قالوا: فإنه يبعد أن تكون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته ثم ذهابهم إلى الجمال وليس للحيطان ظل فيدل على أنها قد فعلت قبل الوقت بقليل، وهذا ليس فيه دلالة صريحة؛ لأنه قال: (ثم نذهب إلى جمالنا) لعل جمالهم قد أنيخت قريباً من المسجد، خاصة أن الصحابة كانوا إذا صلوا الجمعة يخرجون، لا يجلسون مثل جلوس الناس اليوم، ولهذا يقول الراوي: (فخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة)، وذكر البخاري : (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينتظر قليلاً)، قال الزهري: وكنا نرى والله أعلم أن ذلك لأجل أن يخرج النساء، فهذا يدل على أنه لم يكن هذا الجلوس معتاداً، وإن كانوا يذكرون الله سبحانه وتعالى بعد أدبار الصلوات، وما كنا نعرف انقضاء صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير، والله أعلم.
وهذا محتمل، ولكن البقاء على النصوص الظاهرة أولى، والله أعلم.
وقول جابرهذا لا يلزم منه أنه وقت الزوال؛ لأن الحينية في لغة العرب تقتضي القرب ليس إلا، ولا تقتضي الوصول إلى هذه الحالة، تقتضي القرب؛ ولهذا قال جابر ذلك، وهذا إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الصلاة والخطبة مثل فعلنا في هذا الزمان، والله أعلم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] | 2631 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] | 2588 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] | 2547 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] | 2544 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] | 2525 استماع |
الروض المربع - كتاب البيع [22] | 2453 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] | 2388 استماع |
الروض المربع - كتاب البيع [20] | 2375 استماع |
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] | 2359 استماع |
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] | 2356 استماع |