شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة - حديث 238-241


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

ليلة الأربعاء (24) من شهر الله المحرم لعام (1411) للهجرة، ورقم هذا الدرس هو: (86)، وهو الحصة الأخيرة فيما يتعلق بأحاديث شروط الصلاة.

عندنا في هذه الليلة أربعة أحاديث، وهي آخر أحاديث أربعة نسمعها:

بالنسبة للحديث الأول حديث علي رضي الله عنه قال: ( كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي )، ونسبه المصنف للنسائي وابن ماجه .

الحديث رواه النسائي في كتاب السهو، باب: التنحنح في الصلاة، ولفظه فيه قال: ( كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان: مدخل بالليل، ومدخل بالنهار، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي ).

وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده وزاد: ( فأتيته صلى الله وعليه وسلم ذات ليلة فقال لي: أتدري ما أحدث الملك الليلة؟ قال صلى الله عليه وسلم: سمعت خشفاً فخرجت، فإذا جبريل فقال لي: ما زلت أنتظرك منذ الليلة، إن في بيتك جرو كلب، وإنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا تمثال ولا جنب )، والحديث رواه أيضاً البيهقي في سننه وابن السكن وصححه.

تخريج الحديث

الحديث رواه النسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وابن السكن، وأحمد وغيرهم، وقال الإمام البيهقي عن هذا الحديث: إنه مختلف في سنده ومتنه، فقيل: تنحنح، وقيل: سبح، يعني: مرة جاء في الحديث: ( كنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي )، ومرة قال: ( إذا أتيته وهو يصلي سبح لي )، ولا شك أن الشاهد في التنحنح، أما التسبيح فقد سبق ما يدل على أن التسبيح لمن أراد الإذن ثابت في أحاديث صحيحة ولا شك فيه.

وكذلك قال الإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في التلخيص، قال: إن مدار الحديث على عبد الله بن نجي . بضم النون وفتح الجيم بالتصغير، نون ثم جيم ثم ياء مشددة، وقد اختلف على عبد الله بن نجي في هذا الحديث، فمرة يرويه عن علي رضي الله عنه ومرة يرويه عن أبيه عن علي .

وقال الإمام يحيى بن معين : إن عبد الله بن نجي لم يسمع من علي مباشرة، وإنما سمع من أبيه عن علي رضي الله عنه، وبناءً عليه فإن الحديث الذي فيه (عن عبد الله بن نجي عن علي ) يكون حديثاً منقطعاً؛ لأن ابن نجي لم يسمع من علي، أما أبوه نجي فكان على وضوء علي رضي الله عنه، فقد سمع منه دون شك.

وقال الإمام النووي أيضاً في المجموع : إن هذا الحديث ضعيف في سنده، وضعيف لضعف سنده واضطراب راويه، واضطراب متنه أيضاً، وضعفه ظاهر يقول الإمام النووي .

إذاً: ضعف الإمام النووي والبيهقي وغيرهما هذا الحديث، وكأن تضعيفه جاء من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: تضعيفه من جهة الإسناد؛ فإن في سنده عبد الله بن نجي، وعبد الله بن نجي هذا فيه مقال، وثقه الإمام النسائي وابن حبان، قال النسائي : ثقة. وكذلك وثقه ابن حبان وضعفه آخرون، حتى قال فيه الإمام البخاري : فيه نظر، وهي كلمة لا يقولها البخاري إلا في شديد الضعف، قال: فيه نظر.

وكذلك قال أبو أحمد بن عدي في الكامل : فيه نظر. وقال الإمام الشافعي : مجهول. وقال الإمام الدارقطني : ليس بالقوي في الحديث.

وعده الذهبي في ديوان الضعفاء والمتروكين من الضعفاء، وإن لم يصرح بضعفه، لكن مجرد إيراده في الكتاب كاف في تضعيفه له.

وبالمقابل ابن حجر في التقريب قال: صدوق، ولكن الذين ضعفوه أكثر من الذين وثقوه، خاصة أنه ليس بكثير الرواية، وفي روايته لهذا الحديث اضطراب كما هو ظاهر.

إذاً: الوجه الأول في تضعيفه: أن في سنده عبد الله بن نجي، والأكثرون على ضعفه .

الوجه الثاني: أن سنده مضطرب، فـعبد الله هذا مرة يقول: عن علي بن أبي طالب، ومرة يقول: عن أبي عن علي بن أبي طالب .

الوجه الثالث: اضطراب متنه، فإن فيه مرة أنه قال: ( إذا أتيته وهو يصلي سبح )، ومرة قال: ( إذا أتيته وهو يصلي تنحنح )، وفي المتن اضطراب آخر أيضاً لاحظته، وهو ظاهر في رواية النسائي وابن ماجه : أنه مرة اعتبر النحنحة إذناً بالدخول كما في سياق المصنف، ومرة أخرى اعتبر النحنحة أمراً بالانصراف، وهذا اضطراب أيضاً؛ ولذلك فإنني أميل إلى تضعيف الحديث تبعاً للبيهقي والنووي وكذلك الألباني في ضعيف ابن ماجه والنسائي، فإنه مال إلى ضعف الحديث، هذا فيما يتعلق بسند الحديث ودرجته من حيث الصحة أو غيرها.

البكاء والتأوه في الصلاة

في الحديثين: حديث علي والذي قبله، حديث عبد الله بن الشخير، مسائل:

أولها: مسألة البكاء والتأوه في الصلاة: إذا بكى الإنسان في صلاته أو تأوه، فهل تبطل صلاته بذلك أو لا تبطل؟

خلاصة الكلام في هذه المسألة: أن البكاء والتأوه في الصلاة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يبكي أو يتأوه وهو مغلوب على أمره لا يملك دفعه، مثل: إنسان إذا سمع القرآن خشع وبكى بكاءً لا يستطيع رده ولا دفعه، فهو مغلوب عليه.

أو بكى لأمر آخر غير الخشوع لكنه بكاء لا يستطيع دفعه، كمن أخبر بوفاة قريب أو حبيب وهو يصلي فانفجر يبكي لا يستطيع أن يدفع نفسه، وأظهر ما يكون هذا في مثل صلاة الجنازة، فإننا كثيراً ما نسمع البكاء والعويل والصراخ من أناس لا يملكون رد ذلك ولا دفعه، فهذا المغلوب على أمره في البكاء والصلاة، فإن صلاته صحيحة ولا تبطل بالبكاء أو التأوه أو الأنين .. أو ما أشبه ذلك.

وهذا نص عليه الإمام أحمد كما ذكر ابن قدامة، واحتج بفعل عمر رضي الله عنه كما سبق ذكره في درس الأسبوع قبل الماضي، فإنه رضي الله عنه كان يبكي حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف، كما قال عبد الله بن شداد -ورواه البخاري تعليقاً- [ أنه كان يبكي حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف ].

وقال الإمام ابن تيمية : إن ما يغلب الإنسان عليه من عطاس أو بكاء أو تثاؤب أو غيرها؛ فالصحيح عند الجمهور أنها لا تبطل الصلاة؛ لأن هذه أمور معتادة لا يمكن دفعها .

قال الشيخ ابن تيمية -رحمه الله-: والقول بأن هذه الأشياء مبطلة للصلاة هو قول عند المتأخرين متكلف، لا يعرف له أصل عن السلف رضي الله عنهم.

فذكر الشيخ -رحمه الله- في هذه الكلمة أن كل ما غلب عليه الإنسان من بكاء أو تثاؤب أو عطاس أو غيره في الصلاة فإنه لا تبطل به الصلاة، ولا دليل على بطلانها به، والقول ببطلانها بذلك قول -كما ذكر- متكلف لم يعرف عن السلف، وإنما اشتهر عند متأخري الفقهاء، هذا هو النوع الأول من البكاء والتأوه.

النوع الثاني: البكاء من خشية الله، أن يبكي من خشية الله تعالى، ولو لم يكن مغلوباً على ذلك، وليس معنى هذا أنه يتكلف البكاء، ويحاول أن يظهره، لا، ولكن المقصود أنه أتاه البكاء ولو أراد أن يدفعه لدفعه، فليس أمراً غالباً له، ولكنه لم يدفعه واستسلم لهذا البكاء الذي ورد عليه من خشية الله عز وجل وخوف النار والرغبة في الجنة، أو التأثر عند وعد أو وعيد أو قراءة آية أو ما أشبه ذلك؛ فهذا أيضاً لا بأس به ولا يضر بالصلاة عند مالك وأبي حنيفة وصاحبيه محمد وأبي يوسف وكثير من الحنابلة.

قال ابن بطة من فقهاء الحنابلة: إن تأوه في الصلاة من النار فلا بأس، وكذلك قال القاضي من الحنابلة: قال: التأوه ذكر مدح الله تبارك وتعالى به إبراهيم فقال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، والبكاء من خشية الله تعالى مدح الله به قوماً فقال: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ [الإسراء:109]، فأشار إلى أن التأوه والبكاء والأنين من خشية الله تعالى ذكر، والذكر لا تبطل به الصلاة بحال.

إذاً: الجمهور على أن البكاء من خشية الله في الصلاة لا تبطل به الصلاة.

أما الشافعية فقالوا: إن تأوه أو بكى فبان حرفان من حروف الهجاء بطلت صلاته، وهذا القول مصير منهم إلى أن الحرفين كلام، فإذا تكلم المصلي بحرفين من غير جنس الصلاة بطلت صلاته؛ لأن هذا من الكلام الممنوع، وهم ينازعون في كل ذلك، ينازعون في كون الحرفين كلاماً، فقد يكون الكلام حرفاً واحداً، وقد لا يكون إلا أحرفاً عديدة، أرأيت لو قال إنسان لآخر في الصلاة: (قِ) أليس هذا كلاماً؟ بلى؛ لأنه فعل أمر من الوقاية، أو قال له: (شِ) هذا فعل أمر من الوشاية، أو (عِ) هذا فعل أمر من الوعي، ومثل ذلك كثير، مع أنه قد يعتبر حرفاً واحداً، وقد ينظر إليه على أنه حرفان أيضاً، كما أن اعتبار البكاء والأنين والتأوه كلاماً ليس معروفاً، لا عند أهل اللغة ولا في الشرع، فلذلك القول الصحيح هو أنه إذا بكى من خشية الله تعالى أو تأوه أو أنّ؛ فإن صلاته صحيحة.

القسم الثالث من أقسام الأنين والبكاء في الصلاة: هو البكاء من غير خشية الله تعالى ولغير غلبة، مثل أن يبكي الإنسان في الصلاة لحدث حدث وهو يستطيع دفع هذا البكاء، لم يكن بكاؤه من خشية الله ولم يكن غالباً له، فمثل هذا البكاء مفسد للصلاة ولا شك.

هذه أقسام البكاء في الصلاة، ثلاثة:

الأول: غلبة البكاء لا تفسد، سواءٌ من خشية الله أو من غير ذلك.

الثاني: من خشية الله، لا يفسد على الصحيح.

الثالث: ما عداهما فهو مفسد.

التنحنح في الصلاة

المسألة الثانية في الحديثين هي مسألة: التنحنح والسعال ونحوهما في الصلاة ما حكمها؟ وهذه يكثر السؤال عنها: مسألة التنحنح في الصلاة أو السعال ما حكمها؟

وهذه أيضاً لها أقسام وأنواع:

النوع الأول: المغلوب على ذلك.

مثل إنسان اضطر إلى أن يتنحنح للقراءة، أو صار بحلقه شيء فاحتاج إلى إزالته، أو أصابه سعال لابد له منه، فهذا لا شك أنه لا يضره وصلاته صحيحة؛ ولذلك قال الإمام النووي في المجموع لما تكلم عن بطلان الصلاة بالنحنحة، قال: وحيث أبطلنا الصلاة بالتنحنح فهو إن كان مختاراً بلا حاجة، أما إن كان مغلوباً فإن الصلاة لا تبطل قطعاً.

فصرح بأن المغلوب بتنحنح أو سعال أو نحوهما لا تبطل صلاته بذلك، وقد سبق ذكر كلام الشيخ الإمام ابن تيمية في المغلوب بالبكاء أو غيره.

إذاً: القسم الأول: المغلوب، وصلاته أيضاً صحيحة لا إشكال فيها.

القسم الثاني: أن يتنحنح لحاجة، وهذا أيضاً لا تبطل صلاته؛ ولذلك الحنابلة مع أنه مشهور عند فقهائهم إبطال الصلاة بالتنحنح، يقولون: إن تنحنح لغير حاجة بطلت، كما قال صاحب زاد المستقنع: قال: أو تنحنح لغير حاجة فبان حرفان بطلت.

وقد روى المروزي أنه كان يستأذن على الإمام أحمد فيتنحنح ليخبره أنه في صلاة، روى أنه كان يستأذن على الإمام أحمد فيتنحنح ليخبره أنه في صلاة، فدل فعل الإمام أحمد على أنه لا يرى بالتنحنح بأساً، خاصة إن كان لحاجة، وقد يكون لا يرى بذلك بأساً مطلقاً.

الثالث: أن يكون التنحنح لغير حاجة بحيث يبين حرفان.

إنسان يتنحنح لغير حاجة، ليس له حاجة بالتنحنح ويبين من خلال تنحنحه حرفان، كأن يقول مثلاً: أحّ.. أحَّ، فهذه ثلاثة حروف، بانت الهمزة، وبانت الحاء المشددة التي هي عبارة عن حرفين، فهذا عندهم مبطل -أقصد فقهاء الحنابلة المتأخرين- مبطل للصلاة كما هو ظاهر في كلام صاحب الزاد وغيره.

وهو أيضاً وجه عند الشافعية ذكره النووي وغيره، أنه إن تنحنح فبان حرفان بطلت صلاته.

والصحيح أيضاً أن صلاته لا تبطل بذلك، لعدم الدليل؛ ولهذا قال الموفق في المغني : إن النحنحة ليست كلاماً، وتدعو الحاجة إليها، وكذلك قال ابن تيمية رحمه الله: إن النحنحة ليست من مسمى الكلام، فلا يصح اعتبارها كلاماً مبطلاً للصلاة، واعتبار أنها تبطل الصلاة بالقياس فاسد أيضاً؛ لأنه لا يمكن قياسها على الكلام، فالكلام شيء يقوله الإنسان للتعبير عن معنى في نفسه، وهذا ليس موجوداً في النحنحة، والنحنحة ليست كلاماً عند العرب، بل هي طبيعة كالتنفس وغيرها، وإبطال الصلاة -والكلام لا يزال لـابن تيمية رحمه الله- يقول: إبطال الصلاة بمجرد الصوت هو مما لا أصل له ولا نظير له ولا دليل عليه، ليس له أصل أو نظير يقاس عليه، وليس له دليل يدل على المسألة بخصوصها، ثم ذكر: أن التنحنح والسعال ثبت في السنة، ويعني بثبوته في السنة حديث الباب، وقد ذكرت لكم ما فيه.

أما السعال فكما سيأتي دليله.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالصلاة صحيحة بيقين، ولا يجوز إبطالها بالشك.

إذاً: رجح ابن قدامة وابن تيمية وجماعة من الفقهاء -وهو رواية أيضاً عن الإمام أحمد - ومالك أن الصلاة صحيحة، وأنها لا تبطل بالتنحنح ولو كان لغير حاجة، وذلك لأن اعتبار النحنحة كلاماً ليس عليه دليل من الشرع ولا من لغة العرب ولا من القياس الصحيح.

النفخ في الصلاة

ومثل النحنحة النفخ في الصلاة، إذا نفخ الإنسان في الصلاة، وما معنى النفخ؟

هو إخراج الهواء من الفم، مثل أن يقول الإنسان: (أف) فينطق بالهمزة مع الفاء، فهذا نفخ ليس بقصد التأفف والتضجر، لكن نفخ أخرج الهواء من بين شفتيه، فهذا هو النفخ، فالنفخ لا يبطل الصلاة أيضاً كالتنحنح.

وقد جاء عند أبي داود، والنسائي، وأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -وقد ذكره فيما سبق في صلاة الكسوف- أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( قام حتى لم يكد يركع، ثم ركع حتى لم يكد يقم، ثم قام حتى لم يكد يركع، ثم ركع حتى لم يكد يقم، ثم قام حتى لم يكد يسجد، ثم سجد حتى لم يكد يقم، ثم قعد حتى لم يكد يسجد، ثم سجد حتى لم يكد يقعد، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده -وهذا هو الشاهد- وقال: اللهم! ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟! اللهم! ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون؟! ) والحديث صحيح، وهو دليل -نص- على أن النفخ لا يبطل الصلاة.

وأما ما روي عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما من قولهما: [ من نفخ في الصلاة فقد تكلم ] فهذا الأثر عنهما لا يثبت، كما قال ذلك ابن المنذر وغيره، لا يثبت هذا الأثر عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما.

وبناءً عليه نقول: إن النفخ أيضاً لا يبطل الصلاة، وليس بكلام، ولا يمكن قياسه على الكلام.

السعال في الصلاة

ومثله السعال أيضاً، إذا أصاب الإنسان سعال أو كحة أو نحو ذلك؛ فإنه لا يبطل الصلاة، وقد ورد فيه نص صحيح صريح، وهو ما رواه مسلم وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، ورواه البخاري تعليقاً -أيضاً- عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الفجر بـمكة، فقرأ سورة المؤمنون (قد أفلح المؤمنون) حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى -شك الراوي- أصابته سعلة فركع )، والحديث يمكن أن نقول: رواه السبعة إلا البخاري والترمذي، البخاري رواه تعليقاً -كما أسلفت- من غير جزم، ورواه مسلم، وسنده صحيح.

رواه مسلم وإن ذكره البخاري تعليقاً من دون جزم، فلعل ذلك لأمر آخر لا يتعلق بضعف الإسناد، فإن الإسناد -كما ذكرت- صحيح، بل هو في صحيح مسلم .

إذاً: خلاصة الكلام في هذه المسائل: أنه تبين أنها لا تبطل الصلاة ولا يمكن قياسها على الكلام.

الضحك والقهقهة والتبسم في الصلاة

بقي أن نقول: سبق أن ذكرت أن العلماء أجمعوا على أن القهقهة مفسدة للصلاة، أما التبسم فليس مفسداً لها.

فالقهقهة مفسدة للصلاة ليس لأنها كلام، بل لأنها أشد من الكلام، القهقهة مبطلة للصلاة من باب أولى، يعني: نقول: إذا كان الكلام مبطلاً للصلاة فالقهقهة مبطلة للصلاة من باب أولى.

ولهذا نقول: إنه لا يليق بالإنسان ولا يسوغ له -وهو في صلاته- أن يكثر من التنحنح أو التأفف أو النفخ أو تكلف السعال أو الكحة أو غير ذلك وهو لا يحتاج إليه في صلاته، فإن هذا مما لا يليق ولا يسوغ في الصلاة بحال من الأحوال.

الحديث رواه النسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وابن السكن، وأحمد وغيرهم، وقال الإمام البيهقي عن هذا الحديث: إنه مختلف في سنده ومتنه، فقيل: تنحنح، وقيل: سبح، يعني: مرة جاء في الحديث: ( كنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي )، ومرة قال: ( إذا أتيته وهو يصلي سبح لي )، ولا شك أن الشاهد في التنحنح، أما التسبيح فقد سبق ما يدل على أن التسبيح لمن أراد الإذن ثابت في أحاديث صحيحة ولا شك فيه.

وكذلك قال الإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في التلخيص، قال: إن مدار الحديث على عبد الله بن نجي . بضم النون وفتح الجيم بالتصغير، نون ثم جيم ثم ياء مشددة، وقد اختلف على عبد الله بن نجي في هذا الحديث، فمرة يرويه عن علي رضي الله عنه ومرة يرويه عن أبيه عن علي .

وقال الإمام يحيى بن معين : إن عبد الله بن نجي لم يسمع من علي مباشرة، وإنما سمع من أبيه عن علي رضي الله عنه، وبناءً عليه فإن الحديث الذي فيه (عن عبد الله بن نجي عن علي ) يكون حديثاً منقطعاً؛ لأن ابن نجي لم يسمع من علي، أما أبوه نجي فكان على وضوء علي رضي الله عنه، فقد سمع منه دون شك.

وقال الإمام النووي أيضاً في المجموع : إن هذا الحديث ضعيف في سنده، وضعيف لضعف سنده واضطراب راويه، واضطراب متنه أيضاً، وضعفه ظاهر يقول الإمام النووي .

إذاً: ضعف الإمام النووي والبيهقي وغيرهما هذا الحديث، وكأن تضعيفه جاء من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: تضعيفه من جهة الإسناد؛ فإن في سنده عبد الله بن نجي، وعبد الله بن نجي هذا فيه مقال، وثقه الإمام النسائي وابن حبان، قال النسائي : ثقة. وكذلك وثقه ابن حبان وضعفه آخرون، حتى قال فيه الإمام البخاري : فيه نظر، وهي كلمة لا يقولها البخاري إلا في شديد الضعف، قال: فيه نظر.

وكذلك قال أبو أحمد بن عدي في الكامل : فيه نظر. وقال الإمام الشافعي : مجهول. وقال الإمام الدارقطني : ليس بالقوي في الحديث.

وعده الذهبي في ديوان الضعفاء والمتروكين من الضعفاء، وإن لم يصرح بضعفه، لكن مجرد إيراده في الكتاب كاف في تضعيفه له.

وبالمقابل ابن حجر في التقريب قال: صدوق، ولكن الذين ضعفوه أكثر من الذين وثقوه، خاصة أنه ليس بكثير الرواية، وفي روايته لهذا الحديث اضطراب كما هو ظاهر.

إذاً: الوجه الأول في تضعيفه: أن في سنده عبد الله بن نجي، والأكثرون على ضعفه .

الوجه الثاني: أن سنده مضطرب، فـعبد الله هذا مرة يقول: عن علي بن أبي طالب، ومرة يقول: عن أبي عن علي بن أبي طالب .

الوجه الثالث: اضطراب متنه، فإن فيه مرة أنه قال: ( إذا أتيته وهو يصلي سبح )، ومرة قال: ( إذا أتيته وهو يصلي تنحنح )، وفي المتن اضطراب آخر أيضاً لاحظته، وهو ظاهر في رواية النسائي وابن ماجه : أنه مرة اعتبر النحنحة إذناً بالدخول كما في سياق المصنف، ومرة أخرى اعتبر النحنحة أمراً بالانصراف، وهذا اضطراب أيضاً؛ ولذلك فإنني أميل إلى تضعيف الحديث تبعاً للبيهقي والنووي وكذلك الألباني في ضعيف ابن ماجه والنسائي، فإنه مال إلى ضعف الحديث، هذا فيما يتعلق بسند الحديث ودرجته من حيث الصحة أو غيرها.

في الحديثين: حديث علي والذي قبله، حديث عبد الله بن الشخير، مسائل:

أولها: مسألة البكاء والتأوه في الصلاة: إذا بكى الإنسان في صلاته أو تأوه، فهل تبطل صلاته بذلك أو لا تبطل؟

خلاصة الكلام في هذه المسألة: أن البكاء والتأوه في الصلاة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يبكي أو يتأوه وهو مغلوب على أمره لا يملك دفعه، مثل: إنسان إذا سمع القرآن خشع وبكى بكاءً لا يستطيع رده ولا دفعه، فهو مغلوب عليه.

أو بكى لأمر آخر غير الخشوع لكنه بكاء لا يستطيع دفعه، كمن أخبر بوفاة قريب أو حبيب وهو يصلي فانفجر يبكي لا يستطيع أن يدفع نفسه، وأظهر ما يكون هذا في مثل صلاة الجنازة، فإننا كثيراً ما نسمع البكاء والعويل والصراخ من أناس لا يملكون رد ذلك ولا دفعه، فهذا المغلوب على أمره في البكاء والصلاة، فإن صلاته صحيحة ولا تبطل بالبكاء أو التأوه أو الأنين .. أو ما أشبه ذلك.

وهذا نص عليه الإمام أحمد كما ذكر ابن قدامة، واحتج بفعل عمر رضي الله عنه كما سبق ذكره في درس الأسبوع قبل الماضي، فإنه رضي الله عنه كان يبكي حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف، كما قال عبد الله بن شداد -ورواه البخاري تعليقاً- [ أنه كان يبكي حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف ].

وقال الإمام ابن تيمية : إن ما يغلب الإنسان عليه من عطاس أو بكاء أو تثاؤب أو غيرها؛ فالصحيح عند الجمهور أنها لا تبطل الصلاة؛ لأن هذه أمور معتادة لا يمكن دفعها .

قال الشيخ ابن تيمية -رحمه الله-: والقول بأن هذه الأشياء مبطلة للصلاة هو قول عند المتأخرين متكلف، لا يعرف له أصل عن السلف رضي الله عنهم.

فذكر الشيخ -رحمه الله- في هذه الكلمة أن كل ما غلب عليه الإنسان من بكاء أو تثاؤب أو عطاس أو غيره في الصلاة فإنه لا تبطل به الصلاة، ولا دليل على بطلانها به، والقول ببطلانها بذلك قول -كما ذكر- متكلف لم يعرف عن السلف، وإنما اشتهر عند متأخري الفقهاء، هذا هو النوع الأول من البكاء والتأوه.

النوع الثاني: البكاء من خشية الله، أن يبكي من خشية الله تعالى، ولو لم يكن مغلوباً على ذلك، وليس معنى هذا أنه يتكلف البكاء، ويحاول أن يظهره، لا، ولكن المقصود أنه أتاه البكاء ولو أراد أن يدفعه لدفعه، فليس أمراً غالباً له، ولكنه لم يدفعه واستسلم لهذا البكاء الذي ورد عليه من خشية الله عز وجل وخوف النار والرغبة في الجنة، أو التأثر عند وعد أو وعيد أو قراءة آية أو ما أشبه ذلك؛ فهذا أيضاً لا بأس به ولا يضر بالصلاة عند مالك وأبي حنيفة وصاحبيه محمد وأبي يوسف وكثير من الحنابلة.

قال ابن بطة من فقهاء الحنابلة: إن تأوه في الصلاة من النار فلا بأس، وكذلك قال القاضي من الحنابلة: قال: التأوه ذكر مدح الله تبارك وتعالى به إبراهيم فقال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، والبكاء من خشية الله تعالى مدح الله به قوماً فقال: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ [الإسراء:109]، فأشار إلى أن التأوه والبكاء والأنين من خشية الله تعالى ذكر، والذكر لا تبطل به الصلاة بحال.

إذاً: الجمهور على أن البكاء من خشية الله في الصلاة لا تبطل به الصلاة.

أما الشافعية فقالوا: إن تأوه أو بكى فبان حرفان من حروف الهجاء بطلت صلاته، وهذا القول مصير منهم إلى أن الحرفين كلام، فإذا تكلم المصلي بحرفين من غير جنس الصلاة بطلت صلاته؛ لأن هذا من الكلام الممنوع، وهم ينازعون في كل ذلك، ينازعون في كون الحرفين كلاماً، فقد يكون الكلام حرفاً واحداً، وقد لا يكون إلا أحرفاً عديدة، أرأيت لو قال إنسان لآخر في الصلاة: (قِ) أليس هذا كلاماً؟ بلى؛ لأنه فعل أمر من الوقاية، أو قال له: (شِ) هذا فعل أمر من الوشاية، أو (عِ) هذا فعل أمر من الوعي، ومثل ذلك كثير، مع أنه قد يعتبر حرفاً واحداً، وقد ينظر إليه على أنه حرفان أيضاً، كما أن اعتبار البكاء والأنين والتأوه كلاماً ليس معروفاً، لا عند أهل اللغة ولا في الشرع، فلذلك القول الصحيح هو أنه إذا بكى من خشية الله تعالى أو تأوه أو أنّ؛ فإن صلاته صحيحة.

القسم الثالث من أقسام الأنين والبكاء في الصلاة: هو البكاء من غير خشية الله تعالى ولغير غلبة، مثل أن يبكي الإنسان في الصلاة لحدث حدث وهو يستطيع دفع هذا البكاء، لم يكن بكاؤه من خشية الله ولم يكن غالباً له، فمثل هذا البكاء مفسد للصلاة ولا شك.

هذه أقسام البكاء في الصلاة، ثلاثة:

الأول: غلبة البكاء لا تفسد، سواءٌ من خشية الله أو من غير ذلك.

الثاني: من خشية الله، لا يفسد على الصحيح.

الثالث: ما عداهما فهو مفسد.

المسألة الثانية في الحديثين هي مسألة: التنحنح والسعال ونحوهما في الصلاة ما حكمها؟ وهذه يكثر السؤال عنها: مسألة التنحنح في الصلاة أو السعال ما حكمها؟

وهذه أيضاً لها أقسام وأنواع:

النوع الأول: المغلوب على ذلك.

مثل إنسان اضطر إلى أن يتنحنح للقراءة، أو صار بحلقه شيء فاحتاج إلى إزالته، أو أصابه سعال لابد له منه، فهذا لا شك أنه لا يضره وصلاته صحيحة؛ ولذلك قال الإمام النووي في المجموع لما تكلم عن بطلان الصلاة بالنحنحة، قال: وحيث أبطلنا الصلاة بالتنحنح فهو إن كان مختاراً بلا حاجة، أما إن كان مغلوباً فإن الصلاة لا تبطل قطعاً.

فصرح بأن المغلوب بتنحنح أو سعال أو نحوهما لا تبطل صلاته بذلك، وقد سبق ذكر كلام الشيخ الإمام ابن تيمية في المغلوب بالبكاء أو غيره.

إذاً: القسم الأول: المغلوب، وصلاته أيضاً صحيحة لا إشكال فيها.

القسم الثاني: أن يتنحنح لحاجة، وهذا أيضاً لا تبطل صلاته؛ ولذلك الحنابلة مع أنه مشهور عند فقهائهم إبطال الصلاة بالتنحنح، يقولون: إن تنحنح لغير حاجة بطلت، كما قال صاحب زاد المستقنع: قال: أو تنحنح لغير حاجة فبان حرفان بطلت.

وقد روى المروزي أنه كان يستأذن على الإمام أحمد فيتنحنح ليخبره أنه في صلاة، روى أنه كان يستأذن على الإمام أحمد فيتنحنح ليخبره أنه في صلاة، فدل فعل الإمام أحمد على أنه لا يرى بالتنحنح بأساً، خاصة إن كان لحاجة، وقد يكون لا يرى بذلك بأساً مطلقاً.

الثالث: أن يكون التنحنح لغير حاجة بحيث يبين حرفان.

إنسان يتنحنح لغير حاجة، ليس له حاجة بالتنحنح ويبين من خلال تنحنحه حرفان، كأن يقول مثلاً: أحّ.. أحَّ، فهذه ثلاثة حروف، بانت الهمزة، وبانت الحاء المشددة التي هي عبارة عن حرفين، فهذا عندهم مبطل -أقصد فقهاء الحنابلة المتأخرين- مبطل للصلاة كما هو ظاهر في كلام صاحب الزاد وغيره.

وهو أيضاً وجه عند الشافعية ذكره النووي وغيره، أنه إن تنحنح فبان حرفان بطلت صلاته.

والصحيح أيضاً أن صلاته لا تبطل بذلك، لعدم الدليل؛ ولهذا قال الموفق في المغني : إن النحنحة ليست كلاماً، وتدعو الحاجة إليها، وكذلك قال ابن تيمية رحمه الله: إن النحنحة ليست من مسمى الكلام، فلا يصح اعتبارها كلاماً مبطلاً للصلاة، واعتبار أنها تبطل الصلاة بالقياس فاسد أيضاً؛ لأنه لا يمكن قياسها على الكلام، فالكلام شيء يقوله الإنسان للتعبير عن معنى في نفسه، وهذا ليس موجوداً في النحنحة، والنحنحة ليست كلاماً عند العرب، بل هي طبيعة كالتنفس وغيرها، وإبطال الصلاة -والكلام لا يزال لـابن تيمية رحمه الله- يقول: إبطال الصلاة بمجرد الصوت هو مما لا أصل له ولا نظير له ولا دليل عليه، ليس له أصل أو نظير يقاس عليه، وليس له دليل يدل على المسألة بخصوصها، ثم ذكر: أن التنحنح والسعال ثبت في السنة، ويعني بثبوته في السنة حديث الباب، وقد ذكرت لكم ما فيه.

أما السعال فكما سيأتي دليله.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالصلاة صحيحة بيقين، ولا يجوز إبطالها بالشك.

إذاً: رجح ابن قدامة وابن تيمية وجماعة من الفقهاء -وهو رواية أيضاً عن الإمام أحمد - ومالك أن الصلاة صحيحة، وأنها لا تبطل بالتنحنح ولو كان لغير حاجة، وذلك لأن اعتبار النحنحة كلاماً ليس عليه دليل من الشرع ولا من لغة العرب ولا من القياس الصحيح.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4737 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4383 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4202 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4083 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4036 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4011 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3963 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3910 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3890 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3871 استماع