الروض المربع - كتاب الصلاة [57]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

فالمؤلف رحمه الله حينما أنهى جميع الأشياء التي هي أسباب لسجود السهو تحدث عما يبطل بتركه من أصل السجود، وما لا يبطل، فقال رحمه الله: [ وتبطل الصلاة بتعمد ترك سجود سهو واجب أفضليته قبل السلام فقط ].

ذكر المؤلف أن أصل سجود السهو واجب في الجملة، وقلنا: إن هذا شبه إجماع، أو هو إجماع عند أهل العلم في الجملة، إلا أنهم اختلفوا إذا ترك سجود السهو الذي قبل السلام، أو الذي بعد السلام، فذهب مالك رحمه الله وهو المذهب عند الحنابلة، وهو مذهب الشافعية؛ لأن الشافعي يرى أن سجود السهو كله قبل السلام، و مالك يرى ما كان نقصاً وما كان زيادة، و أحمد يرى كل سهو قبل السلام إلا في حالين، و أبو حنيفة يرى كل سهو بعد السلام مطلقاً.

إذاً: مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن سجود السهو الذي قبل السلام إن تركه متعمداً بطلت صلاته؛ لأن ما كان قبل الصلاة إنما هو لجبر الصلاة، فهو داخل فيها وفي ماهيتها، فإذا تركه فقد ترك شيئاً من ماهية الصلاة، وأما إن كان سجود السهو حقه بعد السلام فقد قال المؤلف رحمه الله: [ كما لو سلم قبل إنهاء صلاته ثم أكملها بعد ذلك، وكما لو شك في صلاته وتحرى ]، والمؤلف إنما ذكر ذلك على سبيل التمثيل، فإنه والحالة هذه لا تبطل صلاته؛ لأن هذا السجود خارج عن ماهية الصلاة، فهو قد سلم وأنهى صلاته.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يجوز له ترك سجود السهو مطلقاً، وهذا بناء على قول أبي حنيفة أن كل سهو بعد السلام، وعلى الرواية الثانية عند الحنابلة أن أصل سجود السهو واجب ولا يجوز تركه، وهذا أيضاً اختيار ابن تيمية رحمه الله.

إذاً: هذا القول هو ظاهر قول أبي حنيفة ؛ لأنه يرى السجود بعد السلام، وهو ظاهر قول ابن تيمية ، وهو رواية عند الإمام أحمد ؛ وذلك لأن سجود السهو واجب في الجملة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا سها أحدكم فليسجد سجدتين )، فهو إن ترك سجود سهو حقه بعد السلام، فقد ترك واجباً عمداً، ومن ترك واجباً عمداً فقد بطلت صلاته.

وصورة التعمد في كلا الموضعين، -أي: موضع قبل السلام، وبعد السلام- هو أن ينوي ويعزم على الترك قبل إنهاء صلاته، أو يعزم على الترك في موضعه، مثاله: حينما حصل منه نقص أو زيادة أثناء الصلاة فإنه عازم على أن يسجد، فلما جاء موضع السجود قبل السلام أو بعده، خشي أن يقول عنه الناس: إنه دائماً يسهو في صلاته، وأنه دائماً موسوس، وهو يعلم أن هذا واجب في حقه، فترك سجود السهو، حال فعله، فهاتان الصورتان يحصل فيهما الترك.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يجوز له ترك سجود السهو مطلقاً، وله أن يفعله في أي الموضعين شاء؛ لورود الأخبار فيهما كما سيأتي فلو كان حقه قبل السلام ففعله بعد السلام جاز، وإذا كان حقه بعد السلام ففعله قبل السلام جاز، ومما يدل على أن الترك المتعمد يبطل الصلاة أن الحنابلة قالوا: (وعلم من ذلك أن ما كان أفضليته قبل السلام ففعله بعد السلام جاز) فهذا دليل على أنه لو كان قبل السلام فقط تبطل الصلاة لما ساغ له أن يجعله بعد السلام وهو متعمد؛ لأنه حينما ترك السجود الذي قبل السلام حتى سلم كان كحكم الترك.

إذاً قلنا: لو كان ما قبل السلام تبطل فحسب، لما ساغ له أن يؤخره إلى ما بعد السلام؛ لأنه انتهت صلاته، ولأجل هذا قال المؤلف: [وعلم من قوله أفضليته أن كونه قبل السلام أو بعده ندب، لورود الأحاديث بكل من الأمرين]، وذهب الأئمة الأربعة في المشهور عندهم ونقله القاضي عياض إجماعاً، وذكره صاحب الإنصاف وهو المرداوي بلا نزاع على أن ما كان حقه قبل السلام فسجد بعد السلام، أو ما كان حقه بعد السلام فسجد قبل السلام أن ذلك سائغ.

وقال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وهو رواية عند الإمام أحمد . ولم أجدها في كتاب الإنصاف، فـابن تيمية يقول: وأظهر الأقوال وهو رواية عند الإمام أحمد أوجب ذلك، فهل قوله: (وهو رواية عند أحمد ) هو وجود التفصيل، وهو أن ما كان عن نقص يكون قبل السلام، وما كان عن زيادة يكون بعد السلام، وما كان عن شك بلا ترجيح يكون قبل السلام، وما كان عن شك بترجيح يكون بعد السلام، هذا قول ابن تيمية .

فأوجب رحمه الله أن ما كان قبل السلام فيجب أن يكون قبل السلام، وما كان بعد السلام فيجب أن يكون بعد السلام، وقال: فهذا القول الذي نصرناه تستعمل فيه جميع الأحاديث الواردة في ذلك، وهذا القول -أعني به اختيار ابن تيمية - رجحه شيخنا محمد بن عثيمين في الشرح الممتع، وأنتم ترون أن عامة أهل العلم -بل نقل الإجماع- على جواز ذلك، والأقرب والله أعلم هو القول الأول؛ لورود الأحاديث الدالة على ذلك، ومنها حديث عبد الله بن مالك بن بحينة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الثنتين إلى الثالثة، وترك التشهد الأول، قال: حتى إذا انتظرنا تسليمه سجد للسهو قبل السلام، ثم سلم )؛ لأنه ترك التشهد وهو واجب، وجاء عند الطحاوي من طريق إبراهيم بن طهمان ، وتبعه قيس بن الربيع كلاهما عن مغيرة بن شبير عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة أنه حينما ترك التشهد الأول قال: ( فإن استتم قائماً، أو فإن استوى قائماً فليمض في صلاته، وليسجد سجدتين بعد أن يسلم )، وهذا دليل على أنه نقص ففعله بعد السلام، وهذا بناءً على تجويز ذلك، وهذا الذي يظهر والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن نسيه، أي: نسي سجود السهو الذي محله قبل السلام، وسلم ثم ذكر سجد وجوباً، إن قرب زمنه، وإن شرع في صلاة أخرى، فإذا سلم وإن طال الفصل عرفاً أو أحدث أو خرج من المسجد لم يسجد وصحت صلاته ].

قول المؤلف رحمه الله: (وإن نسيه) أي: نسي سجود السهو الذي محله قبل السلام، وعلى القول الراجح نقول: من ترك سجود السهو مطلقاً، سواء كان قبل السلام أو بعده، فالراجح أنه لا يسوغ له أن يترك سجود السهو إذا كان بعد السلام، ولكن له أن يجعله قبل السلام، فهذا يسمى عند العلماء متى يسوغ له قضاء سجود السهو؟

قال المؤلف رحمه الله: (ثم ذكر سجد وجوباً إن قرب زمنه وإن شرع في صلاة أخرى).

المذهب عند الحنابلة أنه إذا نسي سجود السهو فيجب أن يسجد بشرطين:

أولاً: إذا لم يطل الفصل.

الثاني: أن يكون في المسجد، هذا الذي ذكره صاحب الإنصاف، ولعله لم يذكر شرطاً ثالثاً، وهو أن لا يحدث، وهذا معروف عندهم إلا أنه ربما لم يذكره بناءً على أن ذلك معروف ولا إشكال فيه، وعلى هذا فمذهب الحنابلة أنه يلزمه القضاء إذا لم يطل الفصل ولم يكن خارج المسجد، ولم يحدث، سواء شرع في صلاة أخرى، أم لم يشرع. والشرط الرابع: لم يذكره هنا مع أنهم يقولون: أو تكلم كلاماً كثيراً ولو لم يطل الفصل واستدلوا بحديث ذي اليدين .

الآن اشترطنا للحنابلة أنهم يقولون: فإن تكلم كلاماً كثيراً بطلت الصلاة وإن قصر، وإن لم يطل الزمن. وهنا لفتة مهمة لطالب العلم أنه يثق من نفسه، ليس إعجاباً؛ ولكن ثقة في النفس، وأذكر أننا كنا عند شيخنا محمد بن عثيمين ، وكنا تقريباً أربعة عشر طالباً كلنا نحفظ صحيح مسلم ، فجاء حديث أبي موسى : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور )، وفي رواية (النار)، هذا لفظ مسلم ، شيخنا محمد لم يعرف أن هناك رواية (النار) فقال له أحد المشايخ: يا شيخ! في رواية (النار) قال الشيخ: أبداً ما فيه، قال: يا شيخ! كأني أقرأ الحديث بين عيني، الصفحة اليمين في أول، ويصف المكان، قال الشيخ محمد : ما أطيعك، أحضر لي الكتاب أنظر، بعض الإخوة يقول: والله غريب الشيخ محمد لهذه الدرجة ما يصدق، لكن أنا أفهم شيئاً آخر، وهو قناعة طالب العلم إذا كان قد بحث لا ينبغي له أن يسهل عملية النقل، ولهذا تجد بعض طلاب العلم مجرد أنه يقرأ عن مسألة من المسائل في كتاب فيقول: والله القول قوي، ولو أتيته بكتاب آخر يرد على هذا القول، قال: والله القول هذا قوي؛ لأنه لم يكن عنده أصل، وهذا هو الفرق بين الموسوع وبين المحقق، طالب العلم الذي يريد أن يكون مفتياً، هل له أن يكون موسوعياً أو محققاً؟ محققاً بحيث يجزم.

إذاً: الحنابلة يقولون: وإن لم يطل الفصل فتكلم كلاماً خارج الصلاة طويلاً تبطل صلاته، فإذا بطلت صلاته فهل له أن يسجد سجود السهو؟ لا.

إذاً: هذه أربعة شروط فيمن أراد أن يسجد للسهو بعد أن نسيه في الصلاة:

الشرط الأول: ألا يكون خارج المسجد.

الثاني: ألا يطول الفصل.

الثالث: ألا يحدث.

الرابع: ألا يتكلم كلاماً كثيراً خارج الصلاة، وإن لم يطل الفصل.

واعلم أن قول المؤلف رحمه الله: (أو خرج من المسجد لم يسجد) محل نظر، فهم إنما قالوا بعدم السجود؛ لأن المسجد محل الصلاة، فاعتبرت فيه أو كخيار المجلس، وخيار المجلس أنهما أي: المتبايعان إذا تفرقا عن المكان وجب الخيار، ولا شك أن هذا التعليل لا يناهض الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب القضاء والإتمام وإن طال الفصل فيه؛ لأننا نقول: إنه وإن خرج من المسجد، يجوز له أن يكمل صلاته إن كان قد سلم عن نقصها، فإذا جاز له أن يكمل صلاته إذا خرج من المسجد جاز له أن يسجد للسهو كما في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين حينما صلى صلاة الظهر فسلم من ثلاث، فذكر الصحابة له ذلك، فخرج من بيته يجر إزاره، فأكمل صلاته وسجد للسهو، فهذا دليل على أن خروج المصلي من المسجد لا يبطل سجود السهو.

وأما إن طال الفصل عرفاً فقد ذكرنا الخلاف في ذلك، وقلنا: إن جمهور الفقهاء يرون أنه إن طال الفصل سقط وجوب السجود، قالوا: لأن سجود السهو إنما شرع جبراً للصلاة، فإذا نسيه حتى طال الفصل لم يسغ الاستئناف لإطالة المدة، ولم يسغ القول بالبطلان؛ لأنه خارج الصلاة، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( كانتا ترغيماً للشيطان، أو شفعن له صلاته ) كما في حديث أبي سعيد الخدري ، وعلى هذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إن طال الفصل عرفاً سقط في حقه سجود السهو، والرواية الأخرى عند الحنابلة التي ذهب إليها واختارها ابن أبي موسى في كتاب الإرشاد، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله إلى أنه يجب عليه أن يسجد ولو طال الفصل؛ لأن سجود السهو جبر للنقص الحاصل، فكما أن جبر واجبات الحج لا يسقط بإطالة الفصل، فكذلك جبر الصلاة بسجود السهو لا يبطل في إطالة الفصل، وقلت: إن الراجح هو القول الأول، وهو أحوط، يعني: أحوط أن لا نبطلها، ولا ينبغي للإنسان أن يتركه إذا طال الفصل استحباباً وخروجاً من الخلاف.

إذاً: لا يسقط السجود ولا تبطل الصلاة، لماذا؟ لأنه إن طال الفصل لم يسغ الإكمال بإطالة الفصل؛ لأنه خرج عن الصلاة نفسها، ولم نقل ببطلان الصلاة؛ لأن سجود السهو خارج أصل الصلاة، سواء كان نقصاً أو زيادةً؛ لأنه لم يقصد التعمد، حتى النقص عند الحنابلة يرون صحة الصلاة، ولهذا قال المؤلف: (وإن طال الفصل عرفاً أو أحدث أو خرج من المسجد لم يسجد وصحت صلاته، صحت صلاته)، هذا المذهب وهو مذهب الجمهور.

وذهب ابن تيمية إلى أنه يجب عليه أن يسجد، وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها ابن أبي موسى . و أبو العباس ابن تيمية كثيراً ما يختار الرواية التي يذكرها ابن أبي موسى الهاشمي في كتاب الإرشاد وهو مطبوع.

قال المؤلف رحمه الله: [ ومن سها في صلاة مراراً كفاه جميع سهوه سجدتان، ولو اختلف محل السجود، ويغلب ما قبل السلام لسبقه ].

اعلم أن من سها في صلاته مرتين أو ثلاثاً، فلا يخلو من حالتين:

الحالة الألى: أن يكون سهوه في محل واحد، مثل: أن يترك قول: سبحان ربي الأعلى، وأن يترك قول: سبحان ربي العظيم، وأن يترك التشهد الأول والجلوس له، فهذا سها أربعاً في موضع واحد، وحقه قبل السلام، قالوا: فهذا يسجد للسهو قبل السلام، ويكفيه بلا خلاف سجدتان، وعلى مذهب أبي حنيفة يسجد للسهو بعد السلام بلا إشكال، وعلى مذهب الشافعي يسجد للسهو قبل السلام بلا إشكال، ولكن هذا في حق مالك و أحمد يقولون: إن كان في موضع واحد فيسجد له مرة واحدة بلا نزاع.

الحالة الثانية: إذا سها مرتين فأكثر، أحدهما حقه قبل السلام والموضع الثاني من السهو بعد السلام، فذهب عامة أهل العلم أنه يكفيه سجود واحد، مع اختلافهم أن يكون قبل السلام أو بعده، وذهب عامتهم إلى أن يكون قبل السلام إلا أبا حنيفة فإنه قال: بعد السلام لقوله المختار.

إذاً: ذهب عامة أهل العلم إلى أنه يسجد سجوداً واحداً مع اختلافهم أن يكون قبل السلام أم بعده، فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن يكون قبل السلام، وذهب أبو حنيفة إلى أن يكون بعد السلام.

والقول الثاني في المسألة: أنه يلزمه أن يسجد سجدتين قبل السلام، وسجدتين بعد السلام، وهذا روي عن بعض السلف، كما نقل عن عمر بن عبد العزيز وهو قول الأوزاعي و ابن أبي حاتم وغيرهم، والراجح القول الأول، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فإن كان قد صلى أربعاً كانتا ترغيماً للشيطان، وإن كان قد صلى خمساً شفعن له صلاته )، فظاهر الحديث يفيد أنه لو كان قد صلى أربعاً فلا جمع بين قوله: كانتا ترغيماً وشفعن له صلاته، فهل يمكن أن يجمعن بنفس الوقت؟ ما يمكن، ولهذا الذي يظهر والله أعلم أنه يسجد للسهو قبل السلام فحسب، ولأننا قلنا: إن من سها في سجود السهو لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه يلزم التسلسل، فكذلك هنا.

قال المؤلف رحمه الله: [ وسجود السهو وما يقال فيه وفي الرفع منه كسجود صلب الصلاة، فإن سجد قبل السلام أتى به بعد فراغه من التشهد وسلم عقبه، وإن أتى بعد السلام جلس بعده مفترشاً في ثنائية ومتوركاً في غيرها، وتشهد وجوباً التشهد الأخير ثم سلم لأنه في حكم المستقبل في نفسه ].

قول المؤلف رحمه الله: (وسجود السهو وما يقال فيه وفي الرفع منه كسجود صلب الصلاة)، يعني: أن سجود السهو وما يقال فيه أي قول: سبحان ربي الأعلى، وكذلك الدعاء الوارد فيه، لكن هل له أن يدعو لنفسه؟ ظاهر كلام المؤلف أنه يدعو لنفسه إن شاء، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يذكر إلا التسبيح، كما قيل لـأحمد : ما يقول في سجود السهو؟ قال: يسبح، ولا شك أنه لو دعا فلا حرج في ذلك.

إذا علمت هذا فاعلم أنه لم يصح حديث في الذكر المشروع في سجود السهو، وما ذكره الرافعي في كتابه فتح العزيز مما نقله عن بعض أهل العلم أنه يقول: سبحان من لا ينام ولا يسهو، فهذا لا أصل له، بل قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: لم أجد له أصلاً.

قال المؤلف رحمه الله: (فإن سجد قبل السلام أتى به بعد فراغه من التشهد وسلم عقبه).

يعني: إن كان سجود السهو قبل السلام فإنه إذا جلس للتشهد الأخير فإنه يلزمه أن يقرأ التشهد الأخير وهو التحيات، وعلى المذهب الصلاة على النبي والدعاء، ثم بعد ما ينتهي يسجد عقبه، يعني: عقب انتهاء الذكر الواجب، والركن، والمسنون، فإذا سجد للسهو بمعنى سجدتين، يسجد، ثم يقول: رب اغفر لي، ثم يسجد، ثم يجلس.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن أتى بعد السلام جلس بعده مفترشاً في ثنائية، ومتوركاً في غيرها).

وهذا ما يسمى بالتشهد لسجود السهو، أفادنا المؤلف بقوله هذا أن سجود السهو الذي قبل السلام ليس فيه تشهد، وأما سجود السهو الذي بعد السلام ففيه تشهد، يعني: أنه إذا سجد لسهو قبل السلام فبمجرد أنه قرأ التشهد، ثم سجد سجدتين، فإنه يسلم، وهذا بلا خلاف عند أهل العلم، حكى ذلك ابن المنذر في الأوسط، قال: وأجمعوا على أنه إن تشهد قبل السلام فلا يتشهد، وأما إن كان سجوده بعد السلام فذهب المؤلف إلى أنه يجلس مفترشاً في ثنائية، ومتوركاً في غيرها، وهذا مذهب الحنابلة أنه إذا كان في الصلاة تشهدان تورك في الثانية، وإذا كان في الصلاة تشهد واحد افترش ولم يتورك، هذا مذهب الحنابلة، وهو الراجح كما في حديث أبي حميد الساعدي .

قال المؤلف رحمه الله: (وتشهد وجوباً التشهد الأخير ثم سلم) لماذا؟ قال: (لأنه في حكم المستقل في نفسه)، هذا تعليل ودليل لوجوب التشهد وقراءة التشهد الأخير إذا كان بعد السلام، فيسلم ثم يسجد للسهو، ثم يجلس التشهد الأخير ثم يسلم، والغريب أن هذا القول هو قول الأئمة الأربعة، قالوا بوجوب التشهد في سجود السهو، هذا مذهب الأئمة الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بحديث عمران بن حصين رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين ثم تشهد )، رواه أبو داود و الترمذي ، وقال: حديث حسن غريب، وفي بعض النسخ: حديث حسن غريب صحيح، وصححه الحاكم .

والقول الثاني في المسألة وهو رواية عند الإمام أحمد اختاره الموفق أبو محمد بن قدامة و أبو الفرج بن قدامة في الشرح الكبير، و أبو العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع إلى أنه لا يشرع التشهد لسجود السهو، قالوا: لأن الأحاديث الصحيحة كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين حينما سلم بعد السلام لم يتشهد قال: ( فانفتل فاستقبل القبلة، فسجد سجدتين ثم سلم )، فلم يذكر التشهد، وكذلك في حديث أبي هريرة في الصحيحين، حديث ذي اليدين لم يذكر ذلك، وأما حديث عمران بن حصين فالصحيح -والله أعلم- أن هذا من قوله، أي: من قول عمران ، ولا يصح مرفوعاً، ولأجل هذا قال الترمذي : حديث حسن.

قال ابن تيمية رحمه الله: ومن المعلوم أنه لو كان صلى الله عليه وسلم تشهد لسجود السهو بعد السلام، لنقل نقلاً ثابتاً؛ لأن هذا مما تتوفر فيه الهمم لنقله، فإذا نقلوا لنا السلام فإن التشهد من باب أولى، فلما لم ينقلوا لنا في الأحاديث الصحيحة تشهده، ونقلوا لنا كلامه دل على أنه لم يكن عليه الصلاة والسلام يتشهد، وهذا هو الظاهر -والله أعلم- أن أحاديث التشهد لسجود السهو ضعيفة، ولا تصح، وأما ما جاء في رواية أبي هريرة في حديث ذي اليدين من حديث محمد بن سيرين أنه قال: تشهدت، فهذا أخطأ الراوي فيه عن محمد بن سيرين ، وإلا فإن أكثر الرواة رووه عن محمد بن سيرين من غير لفظ التشهد.

إذاً: لفظ التشهد جاء من حديثين: الأول: من حديث أبي هريرة في حديث ذي اليدين ، وهو منكر، والثاني في حديث عمران بن حصين وقلنا: إن الحديث ضعيف، والصحيح وقفه على عمران ، والله أعلم.

لعلنا نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.