سلسلة حول دخول البرلمان [2] نظرية السيادة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فنشرع إن شاء الله تعالى في دراسة قضايا الساعة بنوع من التفصيل والتنظير، بحيث أنها تبقى ملفات تصلح مع الزمن خاصة أننا في هذه الأيام نخوض نوعاً من التجارب الجديدة ينبغي أن تضاف إلى رصيد الدعوة وخبرتها فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الواقع الذي نعيشه، ومع احترامنا لوجهة نظر إخواننا: الإخوان المسلمين، ونعذرهم باعتبار أن الخلاف في هذه المسألة معروف، حتى إن بعض العلماء السلفيين لهم اجتهاد في إباحة الحل البرلماني، لكن دعونا نخوض هذه التجربة ونرصدها، ونستفيد منها ما ينبغي أن يكون لنا رصيداً، ونعتقد أن أعظم وأهم فائدة هو ما أشرت إليه مسبقاً أنه لن يحمل هم هذه الدعوة، ولن يجري تمكينها إلا على يد النائحة الثكلى، وهي الأم التي فقدت ولدها، فتخيل كيف تبكي عليه! وكيف تحزن عليه! فلا يمكن أن يحمل هم الدعوة وهم الدين إلا أهله الذين رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، والذين ارتضوا هذا المنهج وعاشوا من أجله، وماتوا في سبيله، فهؤلاء هم لبنات الدعوة وأصحابها. أما المشجعون والمتحمسون عاطفياً للإسلام فهم ليسوا الثقل الحقيقي بالنسبة للدعوة، الثقل الحقيقي هو فيمن يتبنونها، ويقتنعون بها، ويضحون من أجلها، أما المصفقون والمتعاطفون فساعة الجد لا يبقى منهم معنا أحد، وإنما نريد النائحة الثكلى، وليس النائحة المستأجرة. ومع ذلك أنا أعتقد أن التجربة سوف تزيد وعينا لزيف الدعوة الديمقراطية، والديمقراطية لا تزيف عندنا فقط، الديمقراطية في أي نظام هي تزيف حتى في أمريكا، فالنظام الرأسمالي له طرق أخرى يكون فيها التزييف، وعندنا في هذا الوقت اختراع طرق عجيبة للتزييف مثل أطفال الأنابيب، وأطفال المفاتيح، وعندنا في هذا الوقت نظام جديد يطلق عليه نواب الظرف وهو أنه يوزع على الناخبين ظروفاً بسعر أصواتهم التي يعطونها له، يعني: بعض المرشحين يحكي لي موضوع نواب الظرف هذا، فقلت له: من الممكن أن يأخذ منه الفلوس ويدخل ينتخب شخصاً غيره، يعني: يأخذ خيري وينتخب غيري، قال لي: هو يعطيه قبل دخول اللجنة نصف المبلغ ويعطيه موبايل بكاميرا، ويدخل في الداخل ينتخب ويصور بالكاميرا، ويطلع خارج يأخذ بقية المبلغ، وهذه في الحقيقة أشياء عجيبة جداً، والتجارب سوف تزيد رصيدنا من أننا نقدر فعلاً أن نحكم على هذا الاتجاه، هل هو فعلاً فيه خيارات بغض النظر عن اعتقادنا نحن أنه يخالف الشرع من الأساس، لكن نقول: حتى إخواننا الذين عندهم أمل وطموح أن يحدث التغيير لحال الأمة بهذه الطريقة أعتقد سيستفيدون كثيراً، ونحن أيضاً سنستفيد معهم من هذه التجربة. الديمقراطية تزيف في كل العالم لماذا؟ لأنها نظام بشري، والنظام البشري لابد أن يخضع للأهواء، يعني: أمريكا التي تدعي أنها صاحبة رسالة لتجمل وجهها القبيح وتقول: حقوق الإنسان والبيئة، والديمقراطية والإصلاح. وأمريكا نفسها إذا نحن قعدنا تضربنا وتأمرنا بأن نقف، وعندما نقف تضربنا وتأمرنا بأن نقعد، فهي لا تريد لنا استقراراً؛ لأن عدم الاستقرار هو الذي يسوغ تدخلها كما حصل في العراق، وكما حصل من يلتسن لما ضرب مبنى البرلمان المنتخب في روسيا بالأسلحة والنار، وقد حوصر فيه النواب، فهذا ذبح للديمقراطية حقهم، لكن الغرب كله سكت وهلل؛ لأنهم كانوا يريدون انهيار المعارضة ضد يلتسن لأجل الوضع الذي كان معروفاً في روسيا. فنحن متعودون على أن الشرق بالأولى يتعامل مع موضوع الديمقراطية نفس تعامل المشرك الجاهلي مع صنم العجوة، الإله الذي كان يعبده، وفي ساعة الاحتياج والجوع يأكل الصنم رغم أنه إلهه، والأمر نفسه يحدث عند الغرب فتراهم يمجدون الديمقراطية والإصلاح وكذا وكذا، لكن إذا جاعوا يلتهمون هذا الإله ويأكلونه في بطونهم، فهذا نموذج متكرر وليس حالة مفاجئة، فهذه الأساليب موجودة بصورة أو بأخرى تتفاوت بين مجتمع إلى آخر، لكن السبب أنه نابع من الأهواء البشرية، وهذه إحدى المزايا العظمى للشريعة الإسلامية أنها منهج رباني معصوم من الأهواء. ولذلك لو تأملنا القرآن الكريم سنجد دائماً الهوى أنه يكون في مقابلة الوحي، فهما عدوان لا يلتقيان وضدان لا يجتمعان أبداً، قال تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] وقال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص:50] يعني: للوحي فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50] ولو استقرأت القرآن فستجد دليلاً للوحي في مقابلة الهوى، فالتحيز يكون نتيجة للهوى، ونتيجة العنصرية في اللون أو الجنس أو نحو ذلك، وسوف تجد هذا في هذه النظم الوضعية الأرضية، أما النظم المنزهة عن الهوى فهو النظام الإلهي الذي يتجسد في القرآن الكريم. فنموذج صنم العجوة موجود، وهذه هي الديمقراطية؛ لأنها نابعة من نظام بشري غير معصوم، فبالتالي يحصل اتباع الهوى، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في سورة الحديد حينما نعى على النصارى اتباعهم وإحداثهم الرهبانية، فقال عز وجل: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] فقوله تعالى: (( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا )) هذا إثبات أنها بدعة في النصرانية، ولم يشرعها الله سبحانه وتعالى، فتحريم الطيبات وتحريم الحلال هذا ابتداع من البشر. قوله: (( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ )) أي: ما شرعها الله سبحانه وتعالى ولا أمرهم بها. قوله: (( إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ )) هذا استثناء منقطع، بمعنى: ولكن كتبنا عليهم أن يبتغوا رضوان الله عن طريق العبادات المشروعة لا المبتدعة، ومع أنهم ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم إلا أنهم لم يرعوها حق رعايتها، فهنا الذم يكون أشد وأبلغ؛ لأنك تبتدع مبدأ ثم أنت لا تحترمه ولا تلتزمه فهذا أجدر بالذم، ونفس الشيء في الديمقراطية التي ابتدعوها ما كتبناها عليهم، وما رعوها حق رعايتها، وما أسهل ما تلتهم بكل ما أمكن من الأساليب. ففي تركيا مثلاً توجد انتخابات وحرية وكذا وكذا، وليس عندهم تزوير، لكن عند ساعة الجد وعند أي اختراق للون الإسلامي أو الطيف الباهت فإنه يحسم الأمر ويحل البرلمان. وفي الجزائر كانت تجربة صارخة، فمن الذي صنع الديمقراطية في الأصل؟ هم الغرب. وفي الكويت في يوم من الأيام حُلّ البرلمان بجرة قلم. وأنا أعتقد أن برلماننا العظيم سوف يكون برلماناً منحلاً على غرار الجماعة التي يصفونها بأنها منحلة، بمعنى: أنها حزب منحل، وإن كانت الكلمة لا تخلو من نوع من اللمز، لكن يبدو هكذا أنه سوف يبقى البرلمان كله منحلاً، والله المستعان!

أصل نظرية السيادة ونشأتها

يذكر هنا في بحثه أن نظرية السيادة أصلاً هي: نظرية فرنسية الأصل نشأت في فرنسا في نهاية العصور الوسطى، ونشأت نظرية السيادة دفاعاً عن سلطة الملوك، ولأنه كانت هناك سلطات أخرى تنازع سلطة الملوك، وبالتالي أراد الملوك بنظرية السيادة أن يتميزوا عن السلطات الأخرى التي كانت تنازعها سلطة أمراء الإقطاع في الداخل، وسلطة الإمبراطور أو البابا في الخارج، وكان النزاع على أشده بين الملك من ناحية، وبين البابا من ناحية أخرى، أو بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، فهذا أدى إلى نشأة هذه النظرية، وكل طرف أراد أن يوجد النظريات التي تسوغ أو تدعم موقفه في مواجهة خصمه.

كان هناك نظرية السيادة وكان فيه نظرية (السيفين المتقاطعين)، والمراد بها السلطتان يعني: تجعل لكل من السلطة الدينية والسلطة الزمنية مجالاً مستقلاً لا تتعداه، هذه النظرية كانت غامضة لم تستطع أن تحدد بوضوح اختصاص كل طرف من هذين الطرفين بجانب الطموح والطمع من كل سلطة، إلى أنها تعتدي على سلطة الآخر وتخضعه، من أجل ذلك سعى كل فريق -التي هي السلطة الزمنية الممثلة في الملوك، والسلطة الدينية الممثلة في الباباوات- في تدعيم مطامعه، وإخضاع الطرف الآخر.

فأصل نظرية السيادة هي نظرية قذف بها الباباوات في وجه خصومهم من الملوك أو أمراء الإقطاع في الداخل والقانون الفيزيائي يقول: لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويضاده في الاتجاه، فلما قذفت الباباوية بنظرية السيادة في وجه خصومها كان رد فعل بعض الملوك الطامحين أن استخدموا نفس السلاح، وردوه إلى نحور الباباوات مطالبين بإخضاع الكنيسة للسلطة الزمنية، ومن ثم تلقف القانونيون الفرنسيون هذه النظرية، وصاغوا منها نظرية السيادة دفاعاً عن سلطة الملوك، فأصلاً الذي طالب بهذه النظرية هو الباباوات فجوبهوا من الملوك بنظرية السيادة التي صاغها القانونيون من أجل أن يخضعوا الكنيسة لسلطة الملوك لإبطال مساعي الباباوات وسلطة الكنيسة.

تعريف السيادة عند القانونيين

القانونيون لهم في تعريف السيادة اتجاهان: الاتجاه الأول: يرى أن السيادة خاصية من خصائص السلطة، مفادها عدم وجود سلطة أخرى أعلى منها أو مساوية لها في الداخل، وعدم الخضوع لسلطة دولة أخرى في الخارج، وهذا يعكس مرحلة من مراحل تطور نظرية السيادة وهي المرحلة الأولى، حيث لم تكن تفهم على أنها سلطة سياسية، لكنها خاصية لسلطة سياسية معينة، وهي سلطة الملك. الاتجاه الثاني: يرى أن السيادة هي السلطة العليا الآمرة للدولة، والتي لا تعرف فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها أو مساوية لها، أو هي الحق في إصدار الأوامر إلى كل الأفراد المقيمين على إقليم الدولة، أو هي سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدها قانون. وهذا تطور ثان للتعريف الثاني يمثل مرحلة أخرى من مراحل تطور نظرية السيادة عندما تم الفصل بين الملك والسيادة، فأصبحت السيادة عنصراً من عناصر تكوين الدولة، لم تعد -كما كانت في الماضي- مجرد خاصية من خصائص السلطة التي هي سلطة الملك، بل تجاوزت ذلك إلى اعتبارها مرادفة لسلطة الدولة، مما أعطاها المضمون الإيجابي لهذه السلطة، وأكد هذا المضمون سلطة عمل القوانين.

مفهوم خصائص السيادة

أما فيما يتعلق بمفهوم السيادة وخصائصها فالسيادة: هي عبارة عن إرادة عليا تتميز بخصائص لا توجد في غيرها من الإرادات، وجماع هذه الخصائص أنها الإرادة التي تحدد نفسها بنفسها، فصاحب السيادة لا يمكن أن تلزمه إرادة أجنبية عنه بالتصرف على نحو معين، وهو لا يلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أراد هو ذلك كما أشار إلى ذلك دوبي في كتابه: ( السيادة والحرية ) وهذا يعني: أن سلطة صاحب السيادة مطلقة؛ لأنها لو لم تكن كذلك سوف تعتمد على إرادة أخرى تقوم بتحديدها، مما يتعارض مع ما تقرر لها من أنها سلطة أصيلة بمعنى: أنها لم تتلق هذه الخاصية من إرادة سابقة عليها، أو من إرادة أعلى منها.

إذاً: نستطيع أن نجمل خصائص مفهوم السيادة فيما يلي:

أولاً: الإطلاق يعني: أنها سلطة مطلقة.

ثانياً: السمو.

ثالثاً: الوحدانية والتفرد.

رابعاً: الأصالة.

خامساً: عدم القابلية للتملك.

سادساً: العصمة من الخطأ.

فأول خصائص السيادة: الإطلاق، صاحب السيادة لا يفرض عليه قانون، بل القانون هو تعبير عن إرادته، وليس لإرادة أجنبية عنه أن تلزمه بالتصرف على نحو معين؛ لأنه لا توجد إرادة تساميه أو تساويه، إرادته آمرة دائماً، وليس لأحد قبله حقوق، وعلاقته بغيره علاقة السيد بالرعية، أو المتبوع بالتابع، وعلى الرعية أو التابع تنفيذ ما يصدر عنه من أوامر، ليس بسبب مضمون الأوامر أو فحواها، ولكن لأنها صادرة عن إرادة هي بطبيعتها أعلى من إرادتهم.

يقول أحد فلافسة نظرية السيادة: إنه لا يتفق مع طبيعة النظام السياسي نفسه أن يفرض على صاحب السيادة قانوناً لا يستطيع أن يخالفه أو ينقضه.

إذاً: هذا فيما يتعلق بأنها سلطة مطلقة، فصاحب السيادة لا يمكن أن يفرض عليه قانون، بل القانون يعبر عن إرادته هو.

الخاصية الثانية من خصائص السيادة: السمو، فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، العلو والفوقية، وهذه كلمة حساسة عند السلفيين (الفوقية)، فعندهم الفوقية للسيادة، فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، وسلطة تعلو كافة السلطات، لا توجد فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها، ولا سلطة مساوية لها.

الخاصية الثالثة: الوحدانية والتفرد، فلا يوجد على الإقليم الواحد إلا سيادة واحدة، إذ لو وجدت سيادتان على إقليم واحد لفسدت أحواله، ووجه ذلك أنه لو صدر من كل منهما تكليف يناقض ما أصدرته الأخرى فلا يخلو الأمر من أحد هذه الأحوال: تنفيذ التكليفين المتضادين معاً، وهو محال، أو الامتناع عنهما معاً، وفي ذلك إبقاء لسيادتهما معاً، أو إنفاذ واحدٍ منهما فقط فيكون صاحبه هو الأحق بالسيادة، وتبطل سيادة ما سواه.

رابعاً من الخصائص: الأصالة، فهي قائمة بذاتها، يعني: السيادة قائمة بذاتها لم تتلق هذا العلو من إرادة سابقة عليها أو إرادة أعلى منها.

الخاصية الخامسة: عدم القابلية للتملك، السيادة غير قابلة لأن يتملكها أحد، فإذا اغتصبها من ليس أهلاً لها، وفرض على الناس سلطانه مدة من الزمن طالت هذه المدة أو قصرت، فإنه لا يستطيع أن يدعي شرعية سلطته أو شرعية سيادته مهما طال الأمد، فغصب السيادة سيظل دائماً غصباً لا يثبت بالحيازة، ولا يسوغه التقادم.

الخاصية السادسة والأخيرة: العصمة من الخطأ، فنظرية السيادة تنزع إلى اعتبار إرادة الأمة إرادة مشروعة، وأن القانون يعد مطابقاً لقواعد الحق والعدل، لا لسبب إلا لأنه صادر عن إرادة الأمة أو ممثليها، ولذلك فإن هذه النظرية تنسب إلى الأمة أو الشعب صفة العصمة من الخطأ حتى قال أحد زعماء وفقهاء ذلك العصر وهو بابلي : حينما يتكلم القانون يجب أن يصمت الضمير، هذه هي السيادة كما أصدرها الكتاب الفرنسيون، ونصَّت عليه القوانين الفرنسية المتعاقبة، وكما انتقلت منها بعد ذلك إلى معظم الدساتير في كثير من بلدان العالم، السيادة سلطة عليا آمرة تفردت بالحكم، فلا تشرك في حكمها أحداً، إرادتها هي القانون، وتوجيهاتها هي الشريعة الملزمة.

إذاً: تفردت بالحكم فلا تشرك في حكمها أحداً.

ثانياً: تفردت بالعلو، فلا تعرف سلطة أخرى تعلو عنها أو تساويها.

ثالثاً: قائمة بذاتها، فلم تكتسب سلطانها من إرادة أخرى.

رابعاً: حقوقها مقدسة لا تقبل التنازل، ولا يسقطها التقادم، معصومة من الخطأ، فكل ما يصدر عنها هو الحق والعدل.

إذاً: يضع الدكتور الصاوي تعريفاً للسيادة بناء على هذه الخصائص فيقول: إن السيادة هي السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال.

أو بتعبير آخر: هي السلطة العليا المطلقة التي تملك وحدها الحق في إنشاء الخطاب المتعلق بأفعال المواطنين على سبيل التكليف أو الوضع.

والتكليف قد يكون تكليفاً بفعل شيء، أو تكليفاً بتركه، أو تخييراً بين الفعل والترك، فخطاب التكليف هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء واجباً أو محرماً أو مباحاً، أما الوضع فهو الربط بين شيئين برابطة السببية أو الشرطية أو المانعية.

فخطاب الوضع: هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً، وعلى هذا فالسيادة: هي السلطة العليا المطلقة التي تفردت بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال، فهي التي تملك جعل الفعل واجباً أو محرماً أو مباحاً، وهي التي تملك جعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً.

طبعاً الذين درسوا منكم أصول الفقه يشاهدون التشابه الشديد في قضية الحكم، مبحث الحكم في كتب أصول الفقه سواء الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي.

يقول: هذا ويلاحظ أن السيادة والديمقراطية تعبيران عن فكرة واحدة، فالسيادة: هي التعبير القانوني، والديمقراطية: هي التعبير السياسي، وعلى هذا فنظرية سيادة الأمة: هي التعبير القانوني عن الديمقراطية التي تميز نظام الحكم في الدول الرأسمالية.

السيادة في المجتمعات الغربية

ثم يناقش بعد ذلك قضية: السيادة في المجتمعات الغربية، فيذكر تحت عنوان: (انتقال السيادة إلى الأمة على يد الثورة الفرنسية) يعني: السيادة فيما مضى كانت تمزج بين شخص الملك وبين الدولة، كان نظام الحكم قبل الثورة الفرنسية قائماً على المزج بين الشخصيتين: شخصية الملك وشخصية الدولة، وعبر عنها في أوضح صورها لويس الرابع عشر بقولته المشهورة: أنا الدولة! أنا الدولة! وكان الملك هو صاحب الحق في السيادة بمقتضى ما له من الصفات الشخصية، وكانت تتركز فيه وحدة سلطة الدولة، فلما قامت الثورة الفرنسية توجه النظام إلى أساس آخر، وهو: المزج بين الأمة والدولة، وأصبحت السيادة ملكاً للأمة، وأخذت فكرة سيادة الأمة طريقها إلى القانون العام الفرنسي، وفي المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان الصادر في (1879م) النص على أن السيادة للأمة، وعلى أن القانون هو التعبير عن إرادة الأمة.

خلاصة هذا: أن السيادة للأمة باعتبارها شخصاً متميزاً عن الأفراد المكونين لها، فالسيادة ليست ملكاً لأفراد الأمة مستقلين، فليس لكل منهم جزء من السيادة، وإنما للسيادة صاحب واحد، وهو الأمة التي هي شخص جماعي مستقل عن الأفراد الذين يكونونها، فالإرادة العامة للأمة التي صارت مستقراً ومستودعاً لهذه السيادة هي ذلك الوجود المعنوي أو المجازي الذي انبثق من مجموع الإرادات الفردية، واستقل عنها.

جوانب نظرية السيادة

هذه النظرية كما صاغتها الجمعية التأسيسية بعد الثورة الفرنسية لها جانبان: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي.

الجانب السلبي يتمثل في أمرين:

الأول: أن الملك لم يعد هو صاحب الحق في السيادة كما كان مقرراً من قبل؛ لأنه كانت تتركز فيه وحدة سلطة الدولة، بل أصبحت الأمة هي صاحبة السيادة باعتبارها العنصر الحقيقي المكون للدولة.

الوجه الثاني: أن السيادة لا تعتمد على أي سلطة أخرى، ويقصد بذلك: التأكيد على أن إرادة الأمة مطلقة، يعني: لا تعتمد على أي إرادة أخرى.

الجانب الإيجابي لهذه النظرية في تلك المرحلة: ويشتمل على سلطات ثلاث: الانتخاب، والتشريع، والتنفيذ.

الانتخاب وهو أولى السلطات، وذلك أن إرادة الأمة وسيادتها تقرر هذه السلطة، كما تقرر دائماً لغة الأدب السياسي، وتتمثل وظيفتها في أن يتم بطريق الاقتراع العام اختيار السلطة التشريعية.

أما اختصاصها: فهو التعبير عن إرادة مضمرة أو مادة خام لم تتضح بعد، ولهذا يعهد بها إلى جمهور الناخبين، وهم على الجملة غير مؤهلين للعمل الذي يحتاج إلى دراسة وتفكير، وأيضاً الانتخاب في ظل نظرية سيادة الأمة هو وظيفة وليس حقاً، وهذا مبني على أن السيادة لا تتجزأ، ولذلك بأنه وظيفة وليس حقاً يسوغ تقييده بما تقيد به الوظائف العامة من الشروط والقيود، هذا بالنسبة للجانب الإيجابي من النظرية في المرحلة، فيعتمد على الانتخاب والتشريع والتنفيذ.

أما التشريع: فهو آكد مظاهر السيادة وأبرز علاماتها، وتختص هذه السلطة بتوضيح الإرادات المضمرة الناشئة عن الانتخاب لتستخلص منها -من خلال المداولات- تمثيلاً أكثر وضوحاً من الإرادة العامة، فهذه السلطة في التشريع سلطة مطلقة لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود، ولا تلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أرادت هي ذلك.

أما السلطة الثالثة: فهي سلطة التنفيذ، ووظيفتها: تتلخص في الحكم والإدارة، الحكم الذي يتمثل في ابتكار الحلول الملائمة للمشكلات التي تطرأ على المستويين الدولي والداخلي، والإدارة التي تتمثل في العمل على ضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد.

النتائج والانتقادات التي ترتبت على انتقال السيادة للأمة

ما هي النتائج التي ترتبت على انتقال السيادة إلى الأمة؟

أولها: أن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة للأمة، وهي إرادة تعلو إرادات الأفراد، ولذلك تجب الطاعة لها.

ثانياً: الأمة وحدها هي صاحبة الحق في وضع الدستور أو تعديله دون ما أدنى تدخل من أي هيئة أخرى.

ثالثاً: أن النائب لا يعتبر ممثلاً لدائرته فحسب، ولكنه ممثل للأمة كلها.

إذاً: ما هي الانتقادات التي وجهت إلى نظرية سيادة الأمة؟

منها: أن فيها نوع من تضييق دائرة الحرية السياسية لا تؤدي دورها في ظل هذه النظرية إلا مرة واحدة، المرة التي يتجه فيها الأفراد إلى صناديق الاقتراع، لاختيار الأشخاص الذين سيمارسون مهمة السيادة.

بعدها: يتم تجريدهم من كل شيء، فلا يقدرون على ممارسة أي نوع من أنواع الحرية السياسية المباشرة.

والعلة أن هذه الممارسات تجزء السيادة، والسيادة في ظل هذه النظرية كل لا يتجزء، أيضاً لا يستطيعون ممارسة شيء من الحرية من خلال الوسائط السياسية الشعبية كالنقابات الطائفية والمهنية ونحو ذلك.

من عيوبها أيضاً: تضييق دائرة الاقتراع، وهذا من ثمرات القول بأن السيادة كل لا يتجزء، فبما أن الأفراد الذين يذهبون إلى انتخاب سينتخبون من سوف يضطلع بمهام السيادة نيابة عنهم لا يمارسون حقاً أو جزءاً من أعمال السيادة؛ لأن السيادة كل لا يتجزء، لكنهم يؤدون وظيفة من الوظائف، ولما كانت السلطة السيادية هي التي تسند الاختصاص بالوظائف إلى الأفراد، وتعدد لشروطها، فإن لها أن تضع ما تشاء من الشروط أو القيود بما يكفل حسن الاختيار، ويوفر الكفايات المطلوبة.

أدى هذا الوضع من الناحية العملية إلى التمييز بين نوعين من أفراد الأمة.

أولهما: الأمة كحقيقة إجتماعية.

الثاني: الصفوة من أفراد الأمة، وهم الذين يؤهلون ويقدرون على ممارسة مهام السيادة نيابة عن الأمة.

أدت الانتقادات التي وجهت نظرية سيادة الأمة إلى طرح جديد يتلافى هذه النقائص، ويحقق مزيداً من المكاسب، فجاءت نظرية سيادة الشعب، وكانت تمثل تطوراً سياسياً وقانونياً بالنسبة لنظرية سيادة الأمة.

الإخوة الذين يدرسون القانون هم القادرون على فهم هذا الكلام، لكن حاولوا فهم ولو العناوين الرئيسية لأجل أن هذا تمهيد للذي سيأتي.

نقطة البداية في نظرية سيادة الشعب أنها تقرر انتقال السيادة إلى الجماعة بوصفها مكونة من عدد من الأفراد، وليس باعتبارها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها.

إذاً: السيادة هنا -في نظرية السيادة للشعب- لم تعد كلاً لا يتجزأ، بل أصبحت -وفقاً لهذه النظرية- شركة بين جميع أفراد هذه الجماعة لكل امرئ منها نصيب معلوم، ولذلك نص الدستور الفرنسي في (1793م) على أن السيادة للشعب، ترتب على هذه النظرية الأخذ بمبدأ الاقتراع العام، وتحول الانتخاب من وظيفة إلى حق.

أيضاً: ترتب عليه تعبير النائب عن دائرته الانتخابية باعتباره ممثلاً عن ذلك الجزء من السيادة الذي يملكه ناخبوه، يعني: كل واحد له حق في التعبير، فأصبح الناخب يمثل الدائرة التي انتخبته.

توسيع قاعدة المشاركة الشعبية لإلغاء التمييز بين نوعي المواطنين الذي كان في ظل نظرية سيادة الأمة، بإتاحة الفرصة للمشاركة الشعبية المباشرة للحرية السياسية عن طريق الاستفتاء الشعبي، أو الاعتراض الشعبي، أو طلب إعادة الانتخاب، أو طلب حل الهيئة النيابية ونحو ذلك.

الاتجاهات الدستورية الحديثة ترمي إلى الأخذ بنظرية سيادة الشعب باعتبارها أكثر تحقيقاً للديمقراطية.

إذاً: هذا هو مفهوم نظرية السيادة في الفكر الغربي نشأة وتطوراً وخصائص وآثاراً.

نتائج نظرية السيادة في الفكر الغربي

يمكن أن نخرج مما تقدم بالنتائج التالية: أولاً: أن هذه النظرية على الجملة قد تبلورت إثر صراع عنيف مع السلطة الدينية التي كانت تحيل الأمر في قضية السيادة إلى جهة مقدسة تستحل باسمها ومن خلال الانتساب إليها كل صنوف القهر والإفساد والطغيان في الأرض، فجاءت ردة الفعل في هذه النظرية مساوية للاتجاه الأول في القوة، ومضادة له في الاتجاه، جاءت لتعلن خلع الربقة والتمرد على كل ما هو مقدس، وتأليه إرادة الإنسان، واعتبارها معيار الحقيقة المطلقة، فجاء تمرد مطلق، يعني: رد فعل عكسي تماماً لطغيان الكنيسة والباباوات؛ لأننا لو درسنا تاريخ الباباوات والكنيسة في القرون الوسطى المظلمة، وطبعاً كل قرون أوروبا مظلمة، لكنهم يطلقون عليها القرون الوسطى المظلمة، ولن ندرسها من أي مصادر إسلامية، بل من كتب الغربيين أنفسهم، فهم شهود من أهلها يكشفون الطغيان والظلم والقهر والاستبداد والإذلال الذي مارسته الكنيسة في ذلك الوقت. فحصل رد فعل في العبارة التي دائماً نكررها: (اشنقوا آخر قسيس بأمعاء آخر ملك) الصراع الذي خاضه رجال الكنيسة في هذه القضية لم يخوضوه باسم الوحي المعصوم، ولم يلتزموا فيه بأبسط مبادئ العدل الفطري، بل أطلقوا لأهوائهم وجبروتهم العنان، وتردوا خلاله إلى أسوأ دركات الفساد والإجرام، ثم نسبوا كل ذلك إلى الوحي، وإلى السماء، والذي درس رواية: (أحدب نوتردام) بأقلام غربية ولم يكتبها المسلمون، يجد هذا القدر من التسلط والقهر والإذلال الذي كانت تمارسه الكنيسة وعدائها الشديد للعلم وللكتب ونحو ذلك.

يذكر هنا في بحثه أن نظرية السيادة أصلاً هي: نظرية فرنسية الأصل نشأت في فرنسا في نهاية العصور الوسطى، ونشأت نظرية السيادة دفاعاً عن سلطة الملوك، ولأنه كانت هناك سلطات أخرى تنازع سلطة الملوك، وبالتالي أراد الملوك بنظرية السيادة أن يتميزوا عن السلطات الأخرى التي كانت تنازعها سلطة أمراء الإقطاع في الداخل، وسلطة الإمبراطور أو البابا في الخارج، وكان النزاع على أشده بين الملك من ناحية، وبين البابا من ناحية أخرى، أو بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، فهذا أدى إلى نشأة هذه النظرية، وكل طرف أراد أن يوجد النظريات التي تسوغ أو تدعم موقفه في مواجهة خصمه.

كان هناك نظرية السيادة وكان فيه نظرية (السيفين المتقاطعين)، والمراد بها السلطتان يعني: تجعل لكل من السلطة الدينية والسلطة الزمنية مجالاً مستقلاً لا تتعداه، هذه النظرية كانت غامضة لم تستطع أن تحدد بوضوح اختصاص كل طرف من هذين الطرفين بجانب الطموح والطمع من كل سلطة، إلى أنها تعتدي على سلطة الآخر وتخضعه، من أجل ذلك سعى كل فريق -التي هي السلطة الزمنية الممثلة في الملوك، والسلطة الدينية الممثلة في الباباوات- في تدعيم مطامعه، وإخضاع الطرف الآخر.

فأصل نظرية السيادة هي نظرية قذف بها الباباوات في وجه خصومهم من الملوك أو أمراء الإقطاع في الداخل والقانون الفيزيائي يقول: لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويضاده في الاتجاه، فلما قذفت الباباوية بنظرية السيادة في وجه خصومها كان رد فعل بعض الملوك الطامحين أن استخدموا نفس السلاح، وردوه إلى نحور الباباوات مطالبين بإخضاع الكنيسة للسلطة الزمنية، ومن ثم تلقف القانونيون الفرنسيون هذه النظرية، وصاغوا منها نظرية السيادة دفاعاً عن سلطة الملوك، فأصلاً الذي طالب بهذه النظرية هو الباباوات فجوبهوا من الملوك بنظرية السيادة التي صاغها القانونيون من أجل أن يخضعوا الكنيسة لسلطة الملوك لإبطال مساعي الباباوات وسلطة الكنيسة.

القانونيون لهم في تعريف السيادة اتجاهان: الاتجاه الأول: يرى أن السيادة خاصية من خصائص السلطة، مفادها عدم وجود سلطة أخرى أعلى منها أو مساوية لها في الداخل، وعدم الخضوع لسلطة دولة أخرى في الخارج، وهذا يعكس مرحلة من مراحل تطور نظرية السيادة وهي المرحلة الأولى، حيث لم تكن تفهم على أنها سلطة سياسية، لكنها خاصية لسلطة سياسية معينة، وهي سلطة الملك. الاتجاه الثاني: يرى أن السيادة هي السلطة العليا الآمرة للدولة، والتي لا تعرف فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها أو مساوية لها، أو هي الحق في إصدار الأوامر إلى كل الأفراد المقيمين على إقليم الدولة، أو هي سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدها قانون. وهذا تطور ثان للتعريف الثاني يمثل مرحلة أخرى من مراحل تطور نظرية السيادة عندما تم الفصل بين الملك والسيادة، فأصبحت السيادة عنصراً من عناصر تكوين الدولة، لم تعد -كما كانت في الماضي- مجرد خاصية من خصائص السلطة التي هي سلطة الملك، بل تجاوزت ذلك إلى اعتبارها مرادفة لسلطة الدولة، مما أعطاها المضمون الإيجابي لهذه السلطة، وأكد هذا المضمون سلطة عمل القوانين.

أما فيما يتعلق بمفهوم السيادة وخصائصها فالسيادة: هي عبارة عن إرادة عليا تتميز بخصائص لا توجد في غيرها من الإرادات، وجماع هذه الخصائص أنها الإرادة التي تحدد نفسها بنفسها، فصاحب السيادة لا يمكن أن تلزمه إرادة أجنبية عنه بالتصرف على نحو معين، وهو لا يلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أراد هو ذلك كما أشار إلى ذلك دوبي في كتابه: ( السيادة والحرية ) وهذا يعني: أن سلطة صاحب السيادة مطلقة؛ لأنها لو لم تكن كذلك سوف تعتمد على إرادة أخرى تقوم بتحديدها، مما يتعارض مع ما تقرر لها من أنها سلطة أصيلة بمعنى: أنها لم تتلق هذه الخاصية من إرادة سابقة عليها، أو من إرادة أعلى منها.

إذاً: نستطيع أن نجمل خصائص مفهوم السيادة فيما يلي:

أولاً: الإطلاق يعني: أنها سلطة مطلقة.

ثانياً: السمو.

ثالثاً: الوحدانية والتفرد.

رابعاً: الأصالة.

خامساً: عدم القابلية للتملك.

سادساً: العصمة من الخطأ.

فأول خصائص السيادة: الإطلاق، صاحب السيادة لا يفرض عليه قانون، بل القانون هو تعبير عن إرادته، وليس لإرادة أجنبية عنه أن تلزمه بالتصرف على نحو معين؛ لأنه لا توجد إرادة تساميه أو تساويه، إرادته آمرة دائماً، وليس لأحد قبله حقوق، وعلاقته بغيره علاقة السيد بالرعية، أو المتبوع بالتابع، وعلى الرعية أو التابع تنفيذ ما يصدر عنه من أوامر، ليس بسبب مضمون الأوامر أو فحواها، ولكن لأنها صادرة عن إرادة هي بطبيعتها أعلى من إرادتهم.

يقول أحد فلافسة نظرية السيادة: إنه لا يتفق مع طبيعة النظام السياسي نفسه أن يفرض على صاحب السيادة قانوناً لا يستطيع أن يخالفه أو ينقضه.

إذاً: هذا فيما يتعلق بأنها سلطة مطلقة، فصاحب السيادة لا يمكن أن يفرض عليه قانون، بل القانون يعبر عن إرادته هو.

الخاصية الثانية من خصائص السيادة: السمو، فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، العلو والفوقية، وهذه كلمة حساسة عند السلفيين (الفوقية)، فعندهم الفوقية للسيادة، فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، وسلطة تعلو كافة السلطات، لا توجد فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها، ولا سلطة مساوية لها.

الخاصية الثالثة: الوحدانية والتفرد، فلا يوجد على الإقليم الواحد إلا سيادة واحدة، إذ لو وجدت سيادتان على إقليم واحد لفسدت أحواله، ووجه ذلك أنه لو صدر من كل منهما تكليف يناقض ما أصدرته الأخرى فلا يخلو الأمر من أحد هذه الأحوال: تنفيذ التكليفين المتضادين معاً، وهو محال، أو الامتناع عنهما معاً، وفي ذلك إبقاء لسيادتهما معاً، أو إنفاذ واحدٍ منهما فقط فيكون صاحبه هو الأحق بالسيادة، وتبطل سيادة ما سواه.

رابعاً من الخصائص: الأصالة، فهي قائمة بذاتها، يعني: السيادة قائمة بذاتها لم تتلق هذا العلو من إرادة سابقة عليها أو إرادة أعلى منها.

الخاصية الخامسة: عدم القابلية للتملك، السيادة غير قابلة لأن يتملكها أحد، فإذا اغتصبها من ليس أهلاً لها، وفرض على الناس سلطانه مدة من الزمن طالت هذه المدة أو قصرت، فإنه لا يستطيع أن يدعي شرعية سلطته أو شرعية سيادته مهما طال الأمد، فغصب السيادة سيظل دائماً غصباً لا يثبت بالحيازة، ولا يسوغه التقادم.

الخاصية السادسة والأخيرة: العصمة من الخطأ، فنظرية السيادة تنزع إلى اعتبار إرادة الأمة إرادة مشروعة، وأن القانون يعد مطابقاً لقواعد الحق والعدل، لا لسبب إلا لأنه صادر عن إرادة الأمة أو ممثليها، ولذلك فإن هذه النظرية تنسب إلى الأمة أو الشعب صفة العصمة من الخطأ حتى قال أحد زعماء وفقهاء ذلك العصر وهو بابلي : حينما يتكلم القانون يجب أن يصمت الضمير، هذه هي السيادة كما أصدرها الكتاب الفرنسيون، ونصَّت عليه القوانين الفرنسية المتعاقبة، وكما انتقلت منها بعد ذلك إلى معظم الدساتير في كثير من بلدان العالم، السيادة سلطة عليا آمرة تفردت بالحكم، فلا تشرك في حكمها أحداً، إرادتها هي القانون، وتوجيهاتها هي الشريعة الملزمة.

إذاً: تفردت بالحكم فلا تشرك في حكمها أحداً.

ثانياً: تفردت بالعلو، فلا تعرف سلطة أخرى تعلو عنها أو تساويها.

ثالثاً: قائمة بذاتها، فلم تكتسب سلطانها من إرادة أخرى.

رابعاً: حقوقها مقدسة لا تقبل التنازل، ولا يسقطها التقادم، معصومة من الخطأ، فكل ما يصدر عنها هو الحق والعدل.

إذاً: يضع الدكتور الصاوي تعريفاً للسيادة بناء على هذه الخصائص فيقول: إن السيادة هي السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال.

أو بتعبير آخر: هي السلطة العليا المطلقة التي تملك وحدها الحق في إنشاء الخطاب المتعلق بأفعال المواطنين على سبيل التكليف أو الوضع.

والتكليف قد يكون تكليفاً بفعل شيء، أو تكليفاً بتركه، أو تخييراً بين الفعل والترك، فخطاب التكليف هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء واجباً أو محرماً أو مباحاً، أما الوضع فهو الربط بين شيئين برابطة السببية أو الشرطية أو المانعية.

فخطاب الوضع: هو الخطاب المتعلق بجعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً، وعلى هذا فالسيادة: هي السلطة العليا المطلقة التي تفردت بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال، فهي التي تملك جعل الفعل واجباً أو محرماً أو مباحاً، وهي التي تملك جعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً.

طبعاً الذين درسوا منكم أصول الفقه يشاهدون التشابه الشديد في قضية الحكم، مبحث الحكم في كتب أصول الفقه سواء الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي.

يقول: هذا ويلاحظ أن السيادة والديمقراطية تعبيران عن فكرة واحدة، فالسيادة: هي التعبير القانوني، والديمقراطية: هي التعبير السياسي، وعلى هذا فنظرية سيادة الأمة: هي التعبير القانوني عن الديمقراطية التي تميز نظام الحكم في الدول الرأسمالية.

ثم يناقش بعد ذلك قضية: السيادة في المجتمعات الغربية، فيذكر تحت عنوان: (انتقال السيادة إلى الأمة على يد الثورة الفرنسية) يعني: السيادة فيما مضى كانت تمزج بين شخص الملك وبين الدولة، كان نظام الحكم قبل الثورة الفرنسية قائماً على المزج بين الشخصيتين: شخصية الملك وشخصية الدولة، وعبر عنها في أوضح صورها لويس الرابع عشر بقولته المشهورة: أنا الدولة! أنا الدولة! وكان الملك هو صاحب الحق في السيادة بمقتضى ما له من الصفات الشخصية، وكانت تتركز فيه وحدة سلطة الدولة، فلما قامت الثورة الفرنسية توجه النظام إلى أساس آخر، وهو: المزج بين الأمة والدولة، وأصبحت السيادة ملكاً للأمة، وأخذت فكرة سيادة الأمة طريقها إلى القانون العام الفرنسي، وفي المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان الصادر في (1879م) النص على أن السيادة للأمة، وعلى أن القانون هو التعبير عن إرادة الأمة.

خلاصة هذا: أن السيادة للأمة باعتبارها شخصاً متميزاً عن الأفراد المكونين لها، فالسيادة ليست ملكاً لأفراد الأمة مستقلين، فليس لكل منهم جزء من السيادة، وإنما للسيادة صاحب واحد، وهو الأمة التي هي شخص جماعي مستقل عن الأفراد الذين يكونونها، فالإرادة العامة للأمة التي صارت مستقراً ومستودعاً لهذه السيادة هي ذلك الوجود المعنوي أو المجازي الذي انبثق من مجموع الإرادات الفردية، واستقل عنها.

هذه النظرية كما صاغتها الجمعية التأسيسية بعد الثورة الفرنسية لها جانبان: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي.

الجانب السلبي يتمثل في أمرين:

الأول: أن الملك لم يعد هو صاحب الحق في السيادة كما كان مقرراً من قبل؛ لأنه كانت تتركز فيه وحدة سلطة الدولة، بل أصبحت الأمة هي صاحبة السيادة باعتبارها العنصر الحقيقي المكون للدولة.

الوجه الثاني: أن السيادة لا تعتمد على أي سلطة أخرى، ويقصد بذلك: التأكيد على أن إرادة الأمة مطلقة، يعني: لا تعتمد على أي إرادة أخرى.

الجانب الإيجابي لهذه النظرية في تلك المرحلة: ويشتمل على سلطات ثلاث: الانتخاب، والتشريع، والتنفيذ.

الانتخاب وهو أولى السلطات، وذلك أن إرادة الأمة وسيادتها تقرر هذه السلطة، كما تقرر دائماً لغة الأدب السياسي، وتتمثل وظيفتها في أن يتم بطريق الاقتراع العام اختيار السلطة التشريعية.

أما اختصاصها: فهو التعبير عن إرادة مضمرة أو مادة خام لم تتضح بعد، ولهذا يعهد بها إلى جمهور الناخبين، وهم على الجملة غير مؤهلين للعمل الذي يحتاج إلى دراسة وتفكير، وأيضاً الانتخاب في ظل نظرية سيادة الأمة هو وظيفة وليس حقاً، وهذا مبني على أن السيادة لا تتجزأ، ولذلك بأنه وظيفة وليس حقاً يسوغ تقييده بما تقيد به الوظائف العامة من الشروط والقيود، هذا بالنسبة للجانب الإيجابي من النظرية في المرحلة، فيعتمد على الانتخاب والتشريع والتنفيذ.

أما التشريع: فهو آكد مظاهر السيادة وأبرز علاماتها، وتختص هذه السلطة بتوضيح الإرادات المضمرة الناشئة عن الانتخاب لتستخلص منها -من خلال المداولات- تمثيلاً أكثر وضوحاً من الإرادة العامة، فهذه السلطة في التشريع سلطة مطلقة لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود، ولا تلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أرادت هي ذلك.

أما السلطة الثالثة: فهي سلطة التنفيذ، ووظيفتها: تتلخص في الحكم والإدارة، الحكم الذي يتمثل في ابتكار الحلول الملائمة للمشكلات التي تطرأ على المستويين الدولي والداخلي، والإدارة التي تتمثل في العمل على ضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد.