الروض المربع - كتاب الصلاة [51]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أو بحضرة طعام يشتهيه، فتكره صلاته إذاً لما تقدم، وإن خاف فوت الجماعة، وإن ضاق الوقت عن فعل جميعها وجبت في جميع الأحوال وحرم اشتغاله بغيرها.

ويكره أن يخص جبهته بما يسجد عليه؛ لأنه من شعائر الرافضة، ومسح أثر سجوده في الصلاة، ومسح لحيته، وعقص شعره، وكف ثوبه ونحوه، ولو فعلهما لعمل قبل صلاته، ونهى الإمام رجلاً كان إذا سجد جمع ثوبه بيده اليسرى، ونقل ابن القاسم يكره أن يشمر ثيابه لقوله عليه السلام: ( ترب ترب )، ويكره تكرار الفاتحة؛ لأنه لم ينقل، ولا يكره جمع سور في صلاة فرض كنفل، لما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة من قيامه بالبقرة وآل عمران والنساء ].

الصلاة بحضرة طعام يشتهيه المصلي

قول المؤلف رحمه الله: (أو بحضرة طعام يشتهيه).

يعني: لا يصلي الإنسان، وهو بحضرة طعام يشتهيه حتى يقضي نهمته منه، وعلى هذا فتكره صلاته لو ذهب ولم يقض حاجته من الطعام، واستدل العلماء بهذا كما في الصحيحين من حديث ابن عمر : ( إذا حضر العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا بعشائكم )، وفي رواية: ( ولا تعجلوا عن عشائكم )، يعني: لا تأكلوه أكلاً بحيث يضركم، أو لا تنهون نهمتكم منه.

والعلماء رحمهم الله اشترطوا لذلك شروطاً:

الشرط الأول: قالوا: أن يكون الطعام حاضراً، فإن كان الطعام غير حاضر مما يؤدي إلى أنه لو صلى وانتهت الصلاة أو قريباً من ذلك حضر الطعام، فإنه لا يترك الجماعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضر العشاء وحضرت الصلاة )، فدل ذلك على أن العشاء حاضر.

ومن الحضور أن يأتي شيئاً فشيئاً، مثل أكل الشوي يأتي تباعاً، فيأكل منه حتى يقضي حاجته منه، ولهذا جاء عند ابن أبي شيبة أن أبا هريرة و ابن عباس رضي الله عنهما كانا يأكلان طعاماً وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال ابن عباس رضي الله عنه: لا تعجل، لا نقوم وفي أنفسنا منه شيء، وهذا يدل على أن الأكل إذا كان يأتي تباعاً فهو بمثابة الطعام الحاضر.

الشرط الثاني: أن تتوق نفسه إليه، ولهذا قال: (إذا حضر الطعام)، ومعنى الطعام أي: الطعام المعهود له أكله، فلو كان طعاماً لا يشتهيه، ولا تتوق نفسه إليه، فهذا ليس بطعام، مثل بعض المرق إذا قدم قبل الأكل وهو لا يشتهيه ولا تتوق نفسه إليه، فهذا لا يترك لأجله الصلاة، فلم يحضر الطعام بعد، أو لا تتوق نفسه إليه.

الشرط الثالث: أن يكون قادراً على تناوله، فإن كان غير قادر على تناوله مثل أن يكون الطعام طعام غيره، فلا يجوز أن يعتدي عليه، أو يكون صائماً فلا يكون داخلاً في هذا الحديث، أو ممنوعاً منه طبياً، فهذا كله بمثابة هذا، هذا الذي يظهر، والله أعلم.

ومعنى (قادراً على تناوله): أن يكون الطعام ليس طعام غيره، أو ألا يكون ثمة مانع حسي من أكله، مثل أن يكون ممنوعاً طبياً منه. والله أعلم.

أما قول بعض الفقهاء: الطعام الحار، فالذي يظهر -والله أعلم- أن الطعام الحار هو بمثابة إمكانية شربه أو أكله؛ لأن هذا مما تختلف فيه النفوس، فبعض الناس لا يستطيع أن يشرب الشيء إلا بأشد حرارة، وبعضهم لا يشربه إلا بالبرودة، ثانياً: يمكن أن يبرده بأن يضع تحت هذا الطعام شيئاً كي يبرد.

وأما قولهم: أن يكون قادراً يعني: كالماء، الطعام الحار، الظاهر أن هذا لا يمكن، والمقصود شرعاً في الصائم، وحساً مثل أن يكون الطعام غير طعامه، أو لا يستطيع تناوله من حيث الطب إذا كان به حمية، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (فتكره صلاته إذاً لما تقدم)، يعني: لما مضى أي أنه لا ينبغي أن يصلي وعقله فيه تشويش، ولم تستقر نفسه؛ لأن الشارع يريد من المرء إذا أراد أن يصلي أن يخشع في صلاته.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن خاف فوت الجماعة)؛ لحديث ابن عمر : ( إذا أقيمت الصلاة )، وفي رواية: ( وحضر العشاء )، ولو فاتته الجماعة.

الحال الذي يجب فيه أداء الصلاة ولو كان الطعام حاضراً

قال المؤلف رحمه الله: (وإن ضاق الوقت عن فعل جميعها وجبت في جميع الأحوال) معنى هذا أنه إن جاء الطعام ولم يبق من خروج الوقت إذا أكل إلا فعل بعض الأركان، مثل أن يصلي من الصلاة ركعتين أو ثلاثاً ولا يصليها كاملة، فهنا ذهب الجمهور إلى حرمة الاشتغال بغيرها، يقول المؤلف: (وحرم اشتغاله بغيرها)، فيقدم حينئذٍ الصلاة، لحرمة الوقت، لقول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فالمحافظة على الأوقات واجبة، وذهب ابن حزم رحمه الله على ظاهريته إلى أنه لا يصلي ولو أدى ذلك إلى خروج الوقت يقول: لأن الصلاة أصلاً لا تصح، والراجح كما لا يخفى هو قول الجمهور؛ لأن ابن حزم لا يرى العلل والمناسبات والحكم والمعاني والقصود.

وعلى هذا فالراجح أنه يجوز له ترك الجماعة، لكنه إذا خاف خروج الوقت، أو خروج بعض الأركان عن الوقت وجب عليه أداء الصلاة، والله أعلم.

ولو قال قائل: ما دليل ذلك؟ قلنا: إذا أوجبنا عليه أن يؤدي الصلاة مع ترك بعض الأركان، أو بعض الواجبات فلأن نوجب عليه فعل المكروه من باب أحرى وأولى فإذا لم يكن له ماء أوجبنا عليه أن يتيمم، مع أن الماء موجود حساً، لكنه غير موجود حال الوقت، فإذا أوجبنا عليه ترك الشرط مع إمكان توفره بعد الوقت دل ذلك على أن مراعاة الوقت أولى وأحرى.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وحرم اشتغاله بغيرها) لتعين الوقت إذاً.

تخصيص شيء يسجد عليه

قال المؤلف رحمه الله: (ويكره أن يخص جبهته بما يسجد عليه)، مثل أن يأخذ قطعة صغيرة ليضعها على جبهته فقط؛ لأن هذا يقول المؤلف: من شعائر الرافضة، أي: من علاماتهم، فإنهم يأخذون قطعة من طين من أرض مشهد الحسين زعموا ليتبركوا بها، ويسجدوا عليها، فيكره أن يخص جبهته بنحو ذلك، لكنه لو خص وجهه بذلك، فهذا لا بأس به، فقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة كما في الصحيحين، ومن المعلوم أن الخمرة قطعة صغيرة يسجد عليها المرء بجبهته وأنفه، وإذا كانت القطعة أكثر دل على الجواز من باب أولى، قال أنس كما في الصحيحين: ( وقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذا يدل على جواز السجود عليه بكامل أعضاء الصلاة.

مسح أثر السجود في الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (ومسح أثر سجوده في الصلاة).

ذهب الحنابلة و مالك رحمه الله إلى أنه يكره للإنسان أن يمسح أثر السجود أو الرمل الذي على جبهته وأنفه حال الصلاة، وجاء في ذلك أحاديث لما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أربع من الجفاء ) أو: ( إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته )، وروي عن ابن مسعود كما رواه ابن أبي شيبة : ( أن يمسح الرجل جبهته قبل أن ينصرف )، ولعل من الحكمة في ذلك أن هذا أثر من آثار العبادة، ولا ينبغي للمرء أن يزيلها، أو أن يقال: إن هذا نوع من العبث وكثرة الاشتغال، أما إذا كثر التراب بحيث يضره أو يشغله، فإنه لا بأس أن يمسحه، كما ذهب إلى ذلك الحنابلة والمالكية.

وأما الشافعية فإنهم يرون أنه لا بأس بالإزالة، وإن كان الأفضل الترك لعدم ورود ما يدل على ذلك، وحديث ابن ماجه الذي مر معنا تكلم فيه بعض الحفاظ، وذكروا أنه إلى الضعف أقرب: (إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته)، ولكننا نقول: إن الشارع نهى أن يمسح الرجل مكان جبهته، وهو في الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان ولا بد فواحدة)، كما في حديث معيقيب (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مسح الأرض، فقال: إن كنت ولا بد فاعلاً فواحدة).

والعلماء رحمهم الله ذكروا أن هذا من باب الاشتغال بما ليس من الصلاة، ولا من مصلحتها، وقال بعضهم: لأجل أن المرء يسجد على أعضائه، والحصيات يتنافسن على سجود المرء، كما جاء في بعض كلام أهل العلم، وإذا كان كذلك فإنه لا ينبغي للمرء أن يمسح جبهته، أما الكراهة فهي حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي، ولهذا نقول: الأولى أن نقول: هذا خلاف الأولى؛ لأننا نقول دائماً: إطلاق الكراهة لا بد فيه من دليل؛ لأن الكراهة مقتضى خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على طلب الترك لا على سبيل الجزم، وليس ثمة خطاب فنقول: الأولى تركه، أو خلاف الأولى.

مسح اللحية وعقص الشعر في الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (مسح لحيته، وعقص شعره)، أما مسح لحيته فهو من العبث، والذي يظهر -والله أعلم- لو قال المؤلف: وكثرة مس لحيته لكان أولى؛ لأنه إذا أكثر من مس اللحية وهو في الصلاة فسوف يمنع ذلك أن يضع يده في الموضع الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يضع يده فيه، فإذا كان حال القيام يمس لحيته فلم يفعل السنة في الوضع، وإذا كان ركوعاً كذلك لم يضع يديه على ركبتيه، وكذلك وهو بين السجدتين، وأما إذا فعلها أحياناً فهذا لا بأس به، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب ورفعها، والعلماء يقولون: لا بأس به؛ لأنه يسير، والله أعلم.

وأما عقص شعره، فالعقص هو إدخال أطرافه في أصوله، وليه، مثل أن يضع الرجل ضفائر ويلفها على رأسه أو يربطها أو يدخل بعضها على بعض، فهذا هو المقصود بعقص الشعر، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ( أنه رأى رجلاً يصلي وهو معقوص الشعر، قال: فحله، فلما سلم الرجل قال لـابن عباس : ما لك ورأسي؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف )، فهذا نهي خاص، فهذا يدل على أنه مكروه.

كفت الثوب حال الصلاة أو قبلها

قال المؤلف رحمه الله: (وكف ثوبه ونحوه، ولو فعلهما لعمل قبل صلاته)، كف الثوب هو التشمير، مثل أن يكفت ثوبه هكذا، أو يرفع ثوبه ويربطه بحبل، أو مثل ما يفعل بعض الشباب بأن يجعل أطراف ثوبه مرفوعة إلى الوسط، ثم يشدها فيما بينها، هذا مكروه، ودليل الكراهة ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا نكفت ثوباً ولا شعراً )، وهذا يدل على الكراهة، وقال بعضهم بالتحريم، والأكثر أنه مكروه؛ لأن السترة حاصلة وليس ثمة ما يشغل، ولكن لأجل أن تكون أعضاؤه أو الثياب تصيب الأرض كما جاء ذلك في بعض آثار أبي ذر .

قال المؤلف رحمه الله: (ولو فعلهما قبل صلاته)، مثل الحرثية الذين يربطون الثوب لأجل العمل، فإذا انتهوا من العمل نقول لهم: يستحب لكم أن تزيلوا هذه الأربطة التي على الثوب؛ لأن فعلكم لها قبل الصلاة لحاجة، فإذا حانت الصلاة زالت الحاجة، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (ونهى الإمام رجلاً كان إذا سجد جمع ثوبه بيده اليسرى)، يقصد بذلك الإمام أحمد ، مثلاً إذا أراد أحدنا أن يسجد فإنه يجمع ثوبه ويرفعه ويسجد، أو أن يكون ثوبه واسعاً فتجده يضمه فيما بينه، وهذا إذا كان لبسه أو طريقة اللبس على غير التجميع، وأما العباءة أو المشلح فإن هيئة اللبس هو أخذ أطراف الأكمام بحيث تنقبض مع اليدين، ولو أرسلها لكان في ذلك أذية على من عن يمينه وشماله، فلهذا كان المقصود بذلك ما كان يلبسه على هيئته فلا يسمى كفتاً، والذي يظهر -والله أعلم- مثل الغترة، فالغترة لو صلى ثم أثناء الصلاة رفع أطرف الغترة إلى أعلاه، أو إلى كتفيه، فلا يسمى هذا كفتاً؛ لأن هذا هو لبسه المعتاد، فكما أن العمامة يجوز كفتها؛ لأنه لبسها المعتاد، فكذلك الغترة، فهو لبسها المعتاد، وذهب شيخنا عبد العزيز بن باز إلى أن الأولى إذا أراد أن يصلي أن يسدل أطراف غترته، وشيخنا محمد بن عثيمين يقول: إن دخل في الصلاة وقد رفعه يبقيه على الرفع، وإن دخل في الصلاة وقد سدله يبقيه على السدل، وهذا حسن، ولكننا نقول: الأولى أن كل ذلك جائز، لكن لا يكون ذلك على سبيل العبث مرة يسدل، ومرة يرفع، ومرة يرفع، ومرة يسدل، هذا كله مشغلة لصلاته، ومشغلة لمن بجانبه، فقد ذكرنا أن من التروح المنهي عنه أن يأخذ بأطراف غترته ثم ينفضهما لاستجلاب الهواء، وقلنا: إن هذا مكروه، مثل التروح إذا كان كثيراً.

تشمير الثوب في الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: ونقل ابن القاسم ، وابن القاسم هو أحمد بن القاسم روى عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، نقل عن أحمد أنه قال: (يكره أن يشمر ثيابه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ترب ترب ) )، والحديث أخرجه الإمام أحمد و الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها، والحديث ضعيف، في سنده رجل يقال له ميمون الأعور، وهو ضعيف، ومتابعة بعض أهل الحديث له فيها إشكال؛ لأن المتابعين كـعاصم بن بهدلة ونحوهم، ثم إن الإشكال في الانقطاع الحاصل بين الراوي وبين أم سلمة ، والحديث لم أبحثه بحثاً وافياً، ودائماً إذا تفرد ابن ماجه أو الترمذي من بين الكتب الستة فلا ينبغي العجلة في التصحيح، وهذا أمر بالسبر، والله أعلم.

والتشمير هو الرفع، وجاء ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حلة حمراء مشمراً ) كما في حديث أبي جحيفة، فالمقصود بالتشمير هنا هو أن إزاره كان قصيراً، وليس المقصود أن يرفع الثوب ويجمعه في الوسط، فهذا تشمير، لكنه مؤد إلى مكروه، أما التشمير الذي هو كون الإزار مرفوعاً من أصله فهذا لا بأس به، لحديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حلة حمراء مشمراً )، والله أعلم.

تكرار قراءة الفاتحة

قال المؤلف رحمه الله: (ويكره تكرار الفاتحة).

يعني: يكره قراءة الفاتحة مرة ثانية؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، سواء كان ذلك في الفرض أو في النفل، وهذا مذهب الحنابلة، وذهب بعض الفقهاء كالحنفية وغيرهم إلى أن النهي في الفرض، وأما في النفل فهو داخل في عموم قول الله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20].

أما إذا كان هناك غرض صحيح لتكرارها مثل أن يكون قد نسي بعض الآيات ولا يعلمها فأعاد الفاتحة كاملة، أو سبحوا به فلا يدري وهو يقرأ الفاتحة فخشي أن يكون قد أسقط بعض كلماتها أو حروفها، فأعادها من الأول، فهذا كله لا بأس به، والله أعلم.

ثم إن تكرار الركن القولي لا تبطل به الصلاة، والركن القولي مثل تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة والصلاة الإبراهيمية، أو التشهد الأخير على رواية عند الحنابلة؛ لأن الحنابلة المشهور عندهم أنه واجب، والرواية الثانية أنه ركن كما هو اختيار محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه، والذي يظهر -والله أعلم- أن التكرار القولي مكروه، مثل أن يقول: الله أكبر الله أكبر، هذا عبث، وأحياناً يكون فيه نوع من الوسوسة.

قراءة أكثر من سورة في صلاة الفرض

قال المؤلف رحمه الله: ( ولا يكره جمع السور في صلاة فرض كنفل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الليل بالفاتحة ثم بالنساء ثم بآل عمران )، والقاعدة كل ما ثبت في الفرض استحب في النفل إلا بدليل، وكل ما ثبت في النفل جاز في الفرض إلا بدليل، فثبت في النفل القعود، فلا نقول: يجوز في الفرض؛ لأن الدليل يمنعه، وجاز في النفل أن يدعو ويسأل الله الرحمة إذا مر بآيات رحمة، ولم يثبت في الفرض، فدل على جوازه، ولا نقول باستحبابه، وأما في الفرض فكان يسمعنا الآية أحياناً، فكذلك يقال في النفل: لا بأس.

قول المؤلف رحمه الله: (أو بحضرة طعام يشتهيه).

يعني: لا يصلي الإنسان، وهو بحضرة طعام يشتهيه حتى يقضي نهمته منه، وعلى هذا فتكره صلاته لو ذهب ولم يقض حاجته من الطعام، واستدل العلماء بهذا كما في الصحيحين من حديث ابن عمر : ( إذا حضر العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا بعشائكم )، وفي رواية: ( ولا تعجلوا عن عشائكم )، يعني: لا تأكلوه أكلاً بحيث يضركم، أو لا تنهون نهمتكم منه.

والعلماء رحمهم الله اشترطوا لذلك شروطاً:

الشرط الأول: قالوا: أن يكون الطعام حاضراً، فإن كان الطعام غير حاضر مما يؤدي إلى أنه لو صلى وانتهت الصلاة أو قريباً من ذلك حضر الطعام، فإنه لا يترك الجماعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضر العشاء وحضرت الصلاة )، فدل ذلك على أن العشاء حاضر.

ومن الحضور أن يأتي شيئاً فشيئاً، مثل أكل الشوي يأتي تباعاً، فيأكل منه حتى يقضي حاجته منه، ولهذا جاء عند ابن أبي شيبة أن أبا هريرة و ابن عباس رضي الله عنهما كانا يأكلان طعاماً وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال ابن عباس رضي الله عنه: لا تعجل، لا نقوم وفي أنفسنا منه شيء، وهذا يدل على أن الأكل إذا كان يأتي تباعاً فهو بمثابة الطعام الحاضر.

الشرط الثاني: أن تتوق نفسه إليه، ولهذا قال: (إذا حضر الطعام)، ومعنى الطعام أي: الطعام المعهود له أكله، فلو كان طعاماً لا يشتهيه، ولا تتوق نفسه إليه، فهذا ليس بطعام، مثل بعض المرق إذا قدم قبل الأكل وهو لا يشتهيه ولا تتوق نفسه إليه، فهذا لا يترك لأجله الصلاة، فلم يحضر الطعام بعد، أو لا تتوق نفسه إليه.

الشرط الثالث: أن يكون قادراً على تناوله، فإن كان غير قادر على تناوله مثل أن يكون الطعام طعام غيره، فلا يجوز أن يعتدي عليه، أو يكون صائماً فلا يكون داخلاً في هذا الحديث، أو ممنوعاً منه طبياً، فهذا كله بمثابة هذا، هذا الذي يظهر، والله أعلم.

ومعنى (قادراً على تناوله): أن يكون الطعام ليس طعام غيره، أو ألا يكون ثمة مانع حسي من أكله، مثل أن يكون ممنوعاً طبياً منه. والله أعلم.

أما قول بعض الفقهاء: الطعام الحار، فالذي يظهر -والله أعلم- أن الطعام الحار هو بمثابة إمكانية شربه أو أكله؛ لأن هذا مما تختلف فيه النفوس، فبعض الناس لا يستطيع أن يشرب الشيء إلا بأشد حرارة، وبعضهم لا يشربه إلا بالبرودة، ثانياً: يمكن أن يبرده بأن يضع تحت هذا الطعام شيئاً كي يبرد.

وأما قولهم: أن يكون قادراً يعني: كالماء، الطعام الحار، الظاهر أن هذا لا يمكن، والمقصود شرعاً في الصائم، وحساً مثل أن يكون الطعام غير طعامه، أو لا يستطيع تناوله من حيث الطب إذا كان به حمية، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (فتكره صلاته إذاً لما تقدم)، يعني: لما مضى أي أنه لا ينبغي أن يصلي وعقله فيه تشويش، ولم تستقر نفسه؛ لأن الشارع يريد من المرء إذا أراد أن يصلي أن يخشع في صلاته.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن خاف فوت الجماعة)؛ لحديث ابن عمر : ( إذا أقيمت الصلاة )، وفي رواية: ( وحضر العشاء )، ولو فاتته الجماعة.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن ضاق الوقت عن فعل جميعها وجبت في جميع الأحوال) معنى هذا أنه إن جاء الطعام ولم يبق من خروج الوقت إذا أكل إلا فعل بعض الأركان، مثل أن يصلي من الصلاة ركعتين أو ثلاثاً ولا يصليها كاملة، فهنا ذهب الجمهور إلى حرمة الاشتغال بغيرها، يقول المؤلف: (وحرم اشتغاله بغيرها)، فيقدم حينئذٍ الصلاة، لحرمة الوقت، لقول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فالمحافظة على الأوقات واجبة، وذهب ابن حزم رحمه الله على ظاهريته إلى أنه لا يصلي ولو أدى ذلك إلى خروج الوقت يقول: لأن الصلاة أصلاً لا تصح، والراجح كما لا يخفى هو قول الجمهور؛ لأن ابن حزم لا يرى العلل والمناسبات والحكم والمعاني والقصود.

وعلى هذا فالراجح أنه يجوز له ترك الجماعة، لكنه إذا خاف خروج الوقت، أو خروج بعض الأركان عن الوقت وجب عليه أداء الصلاة، والله أعلم.

ولو قال قائل: ما دليل ذلك؟ قلنا: إذا أوجبنا عليه أن يؤدي الصلاة مع ترك بعض الأركان، أو بعض الواجبات فلأن نوجب عليه فعل المكروه من باب أحرى وأولى فإذا لم يكن له ماء أوجبنا عليه أن يتيمم، مع أن الماء موجود حساً، لكنه غير موجود حال الوقت، فإذا أوجبنا عليه ترك الشرط مع إمكان توفره بعد الوقت دل ذلك على أن مراعاة الوقت أولى وأحرى.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وحرم اشتغاله بغيرها) لتعين الوقت إذاً.