الروض المربع - كتاب الصلاة [41]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: [ويكون المصلي مستوياً ظهره، ويجعل رأسه حياله، أي: بإزاء ظهره فلا يرفعه ولا يخفضه، روى ابن ماجه عن وابصة بن معبد قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب الماء عليه لاستقر)، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، والمجزئ الانحناء بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه إن كان وسطاً في الخلقة، أو قدره من غيره، ومن قاعد مقابلة وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض أدنى مقابلة، وتتمتها الكمال].

وضعية الظهر والرأس في الركوع

أن يصلي مستوياً ظهره المقصود من ذلك أن يقبض على ركبتيه ويجعل رأسه قريباً من ظهره فلم يُشخص رأسه ولم يصوبه، وما يفعله بعض الناس من أن يُبرز رأسه مخالفة لمستوى ظهره فهذا خطأ، والسنة ألا يُشخص رأسه ولا يصوبه، يعني: لا يرفع رأسه ولا يُنزله بل بين ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أنها قالت: (وكان إذا ركع لم يُشخص رأسه ولم يصوبه)، وبعض الناس يريد أن يكون رأسه مستوياً ولأجل هذا الاستواء يُخالف سنة ثابتة والاستواء سنة ضعيفة؛ لأن من المعلوم أن حديث وابصة بن معبد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوي ظهره حتى لو صب الماء لاستقر )، هذا الحديث تفرد به رجل يقال له طلحة بن زيد وهو ضعيف فلا يُحتج به إذا تفرد، والحديث رواه ابن ماجه فبعض الإخوة يحاول يجعل ظهره مستوياً ثم يخالف سنة اليد، فالسنة في اليد أن تكون وتراً، والوتر هو أن تكون ممدودة، ويكون الجنب مع اليد متجافيان، وقد نقل الطحاوي الإجماع على استحباب ذلك.

فما يفعله بعض الإخوة حينما يجعل عضلة عضديه ملتصقة بجنبه فهذا مخالفة للسنة؛ لأن السنة في اليد أن تكون وتراً لحديث أبي حميد : (ثم وتر يديه)، يعني: جعل يديه على أنها وتر وكأن جسده قوس فيكون ظهره مستوياً كمثل بعض الناس، وبعض الناس يكون في أسفل ظهره نوع من البروز، فهذا لا يكلف الله نفساً إلا وسعها فقد طبق السنة، فاستواء الظهر لا يلزم، والذي يلزم هو: أن يكون الرأس مستوياً مع الظهر، وأن تكون اليدان قابضتين على الرُكبتين مفرجتي الأصابع، وأن يوتر يديه، فإن استوى الظهر فالحمد لله وإلا فليس ثمة سنة في استواء الظهر.

وبعض الناس يضع اليدين على الفخذ لا يضعها على الركبة، وهذه مخالفة للسنة، ووضع اليدين يكون على الركبتين، هكذا هي السنة، نعم هي ليس بواجب لكن كلما استشعر الإنسان وهو يفعل مثل هذه السنن كلما أحس أنه على هدي محمد صلى الله عليه وسلم فأحس بالخشوع، هذا أولاً.

ثانياً: وهو مهم جداً أنه كلما طبق الإنسان هذه السنن كلما كانت جبراً للنقص الحاصل من عدم الخشوع، فالإنسان أحياناً لا يخشع في صلاته فتنقص صلاته، فكلما طبق شيئاً من السنن كانت هذه السنن جابرة للنقص الحاصل في الصلاة مثل السهو والذهول ولا أحد ينفك عنه هذا إطلاقاً، وما يروى عن بعض التابعين أنه كان إذا صلى وسقط المسجد من أسفل ولم يعلم -كما ينقل هذا عن مسلم بن يسار- فهذه حالة تأتي للإنسان أحياناً، أما أن يكون هذا غالب صلاته فهذا بعيد، فالصحابة رضي الله عنهم أجل وأعظم وأكبر ومع ذلك كما قال سعد بن أبي وقاص في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5]، قال: أينا ذلك الرجل يا بُني! وإنما ذلك الذين يؤخرون الصلاة، فهذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ من العلم فإنه أحياناً يذهل في صلاته، ولهذا قال العلماء في حديث حمران مولى عثمان عن عثمان قال: (ثم صلى ركعتين مقبلاً عليهما بوجهه)، قال العلماء معنى مقبلاً: أنه كلما جاءه العارض كلما رجع، هذا هو المقصود، وإلا فإن الذهول حاصل، و عمر رضي الله عنه كان تأتيه كثير من هذه الأشياء رضي الله عنه، حتى إنه مرة من المرات صلى بأصحابه ولم يكبر ولم يقرأ، فلما سلم قال له أصحابه: يا أمير المؤمنين! لم نراك تقرأ، قال: والله إني لأجهز جيشاً يخرج من كذا إلى مدينة كذا ثم أعاد الصلاة، يعني: الظاهر أنه لم يقرأ الفاتحة، والرواية جاءت مختصرة، لكن هذا يدل أنه أحياناً يذهل.

وأنا أتعجب من تكلف بعض الإخوان! هذا عمر بن الخطاب ما كان عنده تكلف، يعني: الواحد منا لو قيل له: سهوت، قال: والله ما سهوت وإني تأملت في آية كذا، يعني: يُبالغ في أشياء ليست واقعة، فإيمان الصحابة فيه نوع من الصدق والوضوح ما فيه تكلف، وهكذا تجد أن الإنسان كلما تكلف في حياته وفي طبيعته فإنه يتعب، وإذا عامل نفسه بالطبيعة وكان خشوعه الطبيعي كان ذلك أقرب للسنة، وكلما ابتعد عن تكلف الناس وعيون الناس كلما كان ذلك أسمح لصلاته وأسمح لقراءته، ولا يقول: إن الناس سيقولون: هذا الشيخ الفلاني أو هذا الطالب الفلاني تأخر أو غيره، إن تأخر تأخر بعذره، أما أن يتكلف ويحاول يبعد نفسه عن الظهور فهذا لا ينفعه، لكن عود نفسك أن تكون طبيعياً، إن تأخرت فالله سبحانه وتعالى هو الذي يُعاقبك أو يعذرك، أو تقدمت فالله سبحانه وتعالى هو الذي يثيبك أو لا يثيبك.

ومن ذلك أن عثمان رضي الله عنه عندما كان عمر يخطب فجاء عثمان في صلاة الجمعة، فقال عمر : ما بال أقوام يتأخرون عن الصلاة؟ قال: يا أمير المؤمنين! والله ما إن سمعت الإقامة حتى توضأت وأتيت، قال: والوضوء أيضاً! فانظروا ليس فيه كلفة ولا شيء، يعني: أراد عمر أن يعرف سبب تأخره، و عثمان ما خرج إلى الصلاة إلا وقت الإقامة وصلاة الجمعة، ومع ذلك هو ثالث الناس، فلا ننظر إلى أمور بسيطة ليست هي محط القلوب.

نعم ينبغي للعالم وينبغي لطالب العلم وينبغي للداعية وينبغي للناس جميعاً أن يتقدموا إلى صلاتهم، لكن ما يُدرى ما سبب ذلك.

وقد روى القاضي عياض عن عبد الله بن وهب قال: كنت أقرأ لـمالك الأحاديث، قال: فأقيمت الصلاة، فبدأت آخذ كتابي، يعني: أروح أمشي، فقال مالك : ماذا تصنع؟ قلت: أريد أن أصلي، قال مالك : ما الذي قمت إليه بأعظم مما كنت فيه، هذه مسألة عند مالك رحمه الله. والقصد من ذلك أن العلم إن كان يطلب لله، ليس تكثراً أو زيادة أو غيره كان فيه خشوع وفيه زيادة إيمان، وليس القصد من العلم أن أقرأ الكتاب لأجل أني متى ما أسأل أجيب، لا؛ بل أتعلم العلم لأصحح ديني وأصححه للآخرين، فكان العلم بهذا نوراً، ولهذا قال مالك لـيحيى بن يحيى العابد عندما أرسل له الكتاب: ما الذي أنت فيه بأعظم مما أنا فيه، وأرى أن كلانا على خير.

وأنا أنصحكم نصيحة بحضور الدروس في الفجر ولا شك سوف تجدون لذة الحضور إلى دروس الفجر، وسوف تجدون أن درس الفجر فيه نور ليس في غيره، وأن دروس الفجر فيها من البركة ما ليس في غيرها، وهذا ليس كلامي هذا كلام الأئمة؛ بل كان ابن القيم يقول: لا ينبغي للعالم أن ينام فإن كان ولا بد فإذا طلعت الشمس، يعني: حتى في أوقات الراحة لو أنت مثلاً في البر أو في رحلة حاول أن تذكر الله بعد الفجر ولو على فراشك حتى إذا طلعت الشمس فنم؛ لأن هذا وقت توزيع الأرزاق، وأعظم الرزق هو رزق العلم، ولا تظن أن الله إذا منحك علماً أن هذا أمر سهل، بل والله العظيم إنها من أعظم النِعم، فالإنسان يُعظم في دنياه بسبب العلم، كما قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، فهذا تراه في الدنيا فكيف في الآخرة، وهذه درجات مطلقة، فأنت ترى أن العالم يُرفع مكانه بين يدي الناس صغيرهم وكبيرهم، فإذا كان الله يُعطي العالم هذه المكانة في الدنيا فكيف في الآخرة، اللهم اجعلنا وجهاء في الدنيا والآخرة ومن المقربين.

حكم ثني الركبتين في الركوع

ومن الأخطاء أيضاً ثني الركبتين، يعني: يجعل الركبة ليست ممتدة بل يجعلها تنحني قليلاً، وهذا ليس من السنة، السنة أن يجعل رجله ممتدة وظهره ممتداً، وأما رواية: (لو صُب الماء بين ظهره لاستقر) فإنها ضعيفة وليست مطلوبة؛ لأن بعض الناس يكون ظهره غير مستقيم، وكلما كان الإنسان طويلاً فإنه في الغالب ظهره غير مستقيم، والمطلوب هو تطبيق السنة، والله أعلم.

وأما حديث وابصة : (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب الماء عليه لاستقر) فقد رواه ابن ماجه وفي سنده طلحة بن زيد يرويه عن راشد بن أبي راشد و طلحة ضعيف كما سبق.

قال المؤلف رحمه الله: (ويُجافي مرفقيه عن جنبيه) لحديث أبي مسعود رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة نقلها الصحابي اتفاقاً.

المجزئ في انحناء الركوع

قال المؤلف رحمه الله: (والمجزئ) يعني: والمجزئ في الانحناء هو (بحيث يُمكنه مس ركبتيه بيديه إن كان وسطاً في الخلقة)، يعني: لو انحنى ثم مد يديه لمست يداه ركبتيه، هنا يكون قد ركع، وذكر المجد أبو البركات أن ضابطه أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل؛ لأن بعض الناس أحياناً تكون يداه طويلتين فهو يمكن وهو قائم أن يمس ركبتيه بيديه، وهذا ليس له عبرة، ولهذا قالوا: إن كان وسطاً في الخلقة، فالقاعدة في هذا أن ينحني حتى يمس بيديه ركبتيه، فهذا هو الركوع. ونحن نقول هذا حتى نعلم هل أدركنا الإمام في الركوع أم لا؟ فأحياناً الإمام يكون راكعاً فحينما أقول: الله أكبر ثم أركع أرى جزءاً من رأس الإمام فهنا أرى انحناءه، إن كان بحيث لو مد يديه إلى ركبتيه مسهما أكون حينئذٍ قد أدركت الركوع، هذا هو المعروف عند الأئمة والجمهور، وبعضهم يقول: العبرة بإدراك الركوع إنما هي بقول الإمام: سمع الله لمن حمده، فلو قال الإمام: سمع الله لمن حمده حينما استتم قائماً وأنا أدركته قبل أن يقولها أكون قد أدركت، هذا عند بعض أهل العلم، والراجح هو القول الأول، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (ومن قاعد مقابلة وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض) يعني ما وراء أمام ركبتيه، يعني: بحيث إذا انحنى يرى أن يكون أمام ركبتيه، إذا جلس ثم انحنى هذا الانحناء يكون أماماً، يعني: قريب من الركبتين، ومعنى ما وراء؟ يعني أمام، ولو قال المؤلف: ومن قاعد مقابلة وجهه أمام ركبتيه من الأرض كان أولى.

الذكر الوارد في الركوع

قال المؤلف رحمه الله: [ويقول راكعاً: سبحان ربي العظيم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقولها في ركوعه، رواه مسلم وغيره. والاقتصار عليها أفضل].

قول المؤلف رحمه الله: (ويقول راكعاً: سبحان ربي العظيم)، لما روى أبو داود من حديث عقبة بن عامر : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الحاقة:52]، قال: اجعلوها في ركوعكم، وحينما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، قال: اجعلوها في سجودكم)، وهذا الحديث حسنه أبو العباس بن تيمية رحمه الله، والحديث روي من طريقين طريق بهذا اللفظ، وطريق أنه كان يقول سبحان ربي الأعلى وبحمده، ومن المعلوم أن زيادة (وبحمده) رواها عقبة بن عامر عند أبي داود ، وقد أشار أبو داود إلى أن هذه الزيادة (وبحمده) زيادة ضعيفة، وقال: أخاف أن تكون هذه الزيادة غير محفوظة؛ وذلك لأن في سندها إياس بن عامر الغافقي فإن روايته مجهولة، وكذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( من السنة أن يقول الرجل في ركوعه: سبحان ربي العظيم وبحمده، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده )، وهذا أيضاً ضعيف في سنده السري بن إسماعيل . والسنة أن يقول سبحان ربي الأعلى، أو سبحان ربي العظيم، في الركوع والسجود.

حكم قول: سبحان ربي العظيم في الركوع

وهل هذا الذكر واجب أم سنة؟ جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد يرون أن ذلك سنة، وذهب أحمد في رواية وهو المذهب وهو اختيار ابن تيمية إلى أن ذلك واجب، ولعل هذا القول أظهر لحديث: (اجعلوها في ركوعكم)، وهذا أمر، وقد روى مسلم في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال: سبحان ربي العظيم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا الدعاء فقمن أن يُستجاب لكم).

حكم قول ما زاد عن سبحان ربي العظيم من الأذكار في الركوع

قال المؤلف رحمه الله: (والاقتصار عليها أفضل)، يعني: الاقتصار على قول: سبحان ربي العظيم، ولا يقصد المؤلف ألا يقول ذكراً من الأذكار الواردة في بعض الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، كما في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، كما رواه مسلم في صحيحه، وكان يقول عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم : (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقل به قدمي).

الله أكبر! إذا استشعر الإنسان هذه المعاني فكأنه يقول: كلي لله، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، وينبغي دائماً أن تستشعر هذه المعاني قال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، فانظر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي).

الآن علماء النفس يقولون: من أراد أن يتحرك عنده العقل الباطن لا بد أن يتكلم بما يريده لنفسه حتى يضحك، فيقولون مثلاً: إذا حسيت بخوف قل: أنا شجاع أنا لا أخاف، هكذا يقولون، يقولون: سبحان الله العظيم هذه النفس تزيد وتزيل الخوف شيئاً فشيئاً، وأنا دائماً أستشعر هذا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكان عليه الصلاة والسلام وهو في ركوعه وفي سجوده يزيد من إيمانه فيقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)، والمقصود من هذا أن فكري كله لله، وكلما تستشعر هذا كلما زاد إيمانك، وزاد يقينك، وزاد خشوعك، وزادت إنابتك، وزاد توكلك على الله سبحانه وتعالى، فاستشعر هذه المعاني الربانية حتى تتلذذ بالعبادة، فإذا ما سلمت فإنك لا تحب أن تترك الصلاة بل تقوم وتصلي ثانية، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال !).

القدر الواجب والمستحب في ذكر الركوع

قال المؤلف رحمه الله: (والواجب مرة)، الواجب أن يقول الإنسان هذا مرة؛ للأمر الموجود في حديث عقبة بن عامر قال: (اجعلوها في سجودكم)، فلو قال مرة صدق عليه إدراك هذا الواجب؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار.

قتال المؤلف رحمه الله: (وأدنى الكمال ثلاث)، استدل المؤلف بأن أدنى الكمال ثلاث بما رواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه)، هذا الحديث يرويه عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن مسعود ، و عون بن عبد الله بن عتبة لم يسمع من ابن مسعود فيكون الحديث منقطعاً، لكن هذا الانقطاع محتمل، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (وأعلاه لإمام عشر) لحديث أنس رضي الله عنه حينما صلى خلف عمر بن عبد العزيز فقال: ( ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، يعني: عمر بن عبد العزيز ، قال سعيد بن جبير : فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات )، وأخذها أهل العلم من قول سعيد بن جبير .

والأقرب والله أعلم أنه بلا تحديد، فالمقصود أنه يُطيل ركوعه، كما يطيل القيام، وليس المقصود بأن يكون الركوع قريباً من القيام، ولكن المقصود أنه إذا أطال القيام أطال الركوع، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [وقال أحمد : جاء عن الحسن التسبيح التام سبع، والوسط خمس، وأدناه ثلاث]، هذا من قول الحسن رضي الله عنه ورحمه، والمعروف والله أعلم أن الإنسان يُكبر ويُسبح كثيراً، والله أعلم.

أن يصلي مستوياً ظهره المقصود من ذلك أن يقبض على ركبتيه ويجعل رأسه قريباً من ظهره فلم يُشخص رأسه ولم يصوبه، وما يفعله بعض الناس من أن يُبرز رأسه مخالفة لمستوى ظهره فهذا خطأ، والسنة ألا يُشخص رأسه ولا يصوبه، يعني: لا يرفع رأسه ولا يُنزله بل بين ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أنها قالت: (وكان إذا ركع لم يُشخص رأسه ولم يصوبه)، وبعض الناس يريد أن يكون رأسه مستوياً ولأجل هذا الاستواء يُخالف سنة ثابتة والاستواء سنة ضعيفة؛ لأن من المعلوم أن حديث وابصة بن معبد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوي ظهره حتى لو صب الماء لاستقر )، هذا الحديث تفرد به رجل يقال له طلحة بن زيد وهو ضعيف فلا يُحتج به إذا تفرد، والحديث رواه ابن ماجه فبعض الإخوة يحاول يجعل ظهره مستوياً ثم يخالف سنة اليد، فالسنة في اليد أن تكون وتراً، والوتر هو أن تكون ممدودة، ويكون الجنب مع اليد متجافيان، وقد نقل الطحاوي الإجماع على استحباب ذلك.

فما يفعله بعض الإخوة حينما يجعل عضلة عضديه ملتصقة بجنبه فهذا مخالفة للسنة؛ لأن السنة في اليد أن تكون وتراً لحديث أبي حميد : (ثم وتر يديه)، يعني: جعل يديه على أنها وتر وكأن جسده قوس فيكون ظهره مستوياً كمثل بعض الناس، وبعض الناس يكون في أسفل ظهره نوع من البروز، فهذا لا يكلف الله نفساً إلا وسعها فقد طبق السنة، فاستواء الظهر لا يلزم، والذي يلزم هو: أن يكون الرأس مستوياً مع الظهر، وأن تكون اليدان قابضتين على الرُكبتين مفرجتي الأصابع، وأن يوتر يديه، فإن استوى الظهر فالحمد لله وإلا فليس ثمة سنة في استواء الظهر.

وبعض الناس يضع اليدين على الفخذ لا يضعها على الركبة، وهذه مخالفة للسنة، ووضع اليدين يكون على الركبتين، هكذا هي السنة، نعم هي ليس بواجب لكن كلما استشعر الإنسان وهو يفعل مثل هذه السنن كلما أحس أنه على هدي محمد صلى الله عليه وسلم فأحس بالخشوع، هذا أولاً.

ثانياً: وهو مهم جداً أنه كلما طبق الإنسان هذه السنن كلما كانت جبراً للنقص الحاصل من عدم الخشوع، فالإنسان أحياناً لا يخشع في صلاته فتنقص صلاته، فكلما طبق شيئاً من السنن كانت هذه السنن جابرة للنقص الحاصل في الصلاة مثل السهو والذهول ولا أحد ينفك عنه هذا إطلاقاً، وما يروى عن بعض التابعين أنه كان إذا صلى وسقط المسجد من أسفل ولم يعلم -كما ينقل هذا عن مسلم بن يسار- فهذه حالة تأتي للإنسان أحياناً، أما أن يكون هذا غالب صلاته فهذا بعيد، فالصحابة رضي الله عنهم أجل وأعظم وأكبر ومع ذلك كما قال سعد بن أبي وقاص في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5]، قال: أينا ذلك الرجل يا بُني! وإنما ذلك الذين يؤخرون الصلاة، فهذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ من العلم فإنه أحياناً يذهل في صلاته، ولهذا قال العلماء في حديث حمران مولى عثمان عن عثمان قال: (ثم صلى ركعتين مقبلاً عليهما بوجهه)، قال العلماء معنى مقبلاً: أنه كلما جاءه العارض كلما رجع، هذا هو المقصود، وإلا فإن الذهول حاصل، و عمر رضي الله عنه كان تأتيه كثير من هذه الأشياء رضي الله عنه، حتى إنه مرة من المرات صلى بأصحابه ولم يكبر ولم يقرأ، فلما سلم قال له أصحابه: يا أمير المؤمنين! لم نراك تقرأ، قال: والله إني لأجهز جيشاً يخرج من كذا إلى مدينة كذا ثم أعاد الصلاة، يعني: الظاهر أنه لم يقرأ الفاتحة، والرواية جاءت مختصرة، لكن هذا يدل أنه أحياناً يذهل.

وأنا أتعجب من تكلف بعض الإخوان! هذا عمر بن الخطاب ما كان عنده تكلف، يعني: الواحد منا لو قيل له: سهوت، قال: والله ما سهوت وإني تأملت في آية كذا، يعني: يُبالغ في أشياء ليست واقعة، فإيمان الصحابة فيه نوع من الصدق والوضوح ما فيه تكلف، وهكذا تجد أن الإنسان كلما تكلف في حياته وفي طبيعته فإنه يتعب، وإذا عامل نفسه بالطبيعة وكان خشوعه الطبيعي كان ذلك أقرب للسنة، وكلما ابتعد عن تكلف الناس وعيون الناس كلما كان ذلك أسمح لصلاته وأسمح لقراءته، ولا يقول: إن الناس سيقولون: هذا الشيخ الفلاني أو هذا الطالب الفلاني تأخر أو غيره، إن تأخر تأخر بعذره، أما أن يتكلف ويحاول يبعد نفسه عن الظهور فهذا لا ينفعه، لكن عود نفسك أن تكون طبيعياً، إن تأخرت فالله سبحانه وتعالى هو الذي يُعاقبك أو يعذرك، أو تقدمت فالله سبحانه وتعالى هو الذي يثيبك أو لا يثيبك.

ومن ذلك أن عثمان رضي الله عنه عندما كان عمر يخطب فجاء عثمان في صلاة الجمعة، فقال عمر : ما بال أقوام يتأخرون عن الصلاة؟ قال: يا أمير المؤمنين! والله ما إن سمعت الإقامة حتى توضأت وأتيت، قال: والوضوء أيضاً! فانظروا ليس فيه كلفة ولا شيء، يعني: أراد عمر أن يعرف سبب تأخره، و عثمان ما خرج إلى الصلاة إلا وقت الإقامة وصلاة الجمعة، ومع ذلك هو ثالث الناس، فلا ننظر إلى أمور بسيطة ليست هي محط القلوب.

نعم ينبغي للعالم وينبغي لطالب العلم وينبغي للداعية وينبغي للناس جميعاً أن يتقدموا إلى صلاتهم، لكن ما يُدرى ما سبب ذلك.

وقد روى القاضي عياض عن عبد الله بن وهب قال: كنت أقرأ لـمالك الأحاديث، قال: فأقيمت الصلاة، فبدأت آخذ كتابي، يعني: أروح أمشي، فقال مالك : ماذا تصنع؟ قلت: أريد أن أصلي، قال مالك : ما الذي قمت إليه بأعظم مما كنت فيه، هذه مسألة عند مالك رحمه الله. والقصد من ذلك أن العلم إن كان يطلب لله، ليس تكثراً أو زيادة أو غيره كان فيه خشوع وفيه زيادة إيمان، وليس القصد من العلم أن أقرأ الكتاب لأجل أني متى ما أسأل أجيب، لا؛ بل أتعلم العلم لأصحح ديني وأصححه للآخرين، فكان العلم بهذا نوراً، ولهذا قال مالك لـيحيى بن يحيى العابد عندما أرسل له الكتاب: ما الذي أنت فيه بأعظم مما أنا فيه، وأرى أن كلانا على خير.

وأنا أنصحكم نصيحة بحضور الدروس في الفجر ولا شك سوف تجدون لذة الحضور إلى دروس الفجر، وسوف تجدون أن درس الفجر فيه نور ليس في غيره، وأن دروس الفجر فيها من البركة ما ليس في غيرها، وهذا ليس كلامي هذا كلام الأئمة؛ بل كان ابن القيم يقول: لا ينبغي للعالم أن ينام فإن كان ولا بد فإذا طلعت الشمس، يعني: حتى في أوقات الراحة لو أنت مثلاً في البر أو في رحلة حاول أن تذكر الله بعد الفجر ولو على فراشك حتى إذا طلعت الشمس فنم؛ لأن هذا وقت توزيع الأرزاق، وأعظم الرزق هو رزق العلم، ولا تظن أن الله إذا منحك علماً أن هذا أمر سهل، بل والله العظيم إنها من أعظم النِعم، فالإنسان يُعظم في دنياه بسبب العلم، كما قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، فهذا تراه في الدنيا فكيف في الآخرة، وهذه درجات مطلقة، فأنت ترى أن العالم يُرفع مكانه بين يدي الناس صغيرهم وكبيرهم، فإذا كان الله يُعطي العالم هذه المكانة في الدنيا فكيف في الآخرة، اللهم اجعلنا وجهاء في الدنيا والآخرة ومن المقربين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2629 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2587 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2546 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2543 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2522 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2451 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2386 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2373 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2357 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2355 استماع