الروض المربع - كتاب الصلاة [27]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنها أي: من شروط الصلاة استقبال القبلة أي: الكعبة أو جهتها لمن بعد، سميت قبلة لإقبال الناس عليها, قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144], فلا تصح الصلاة بدونه أي: بدون استقبال إلا لعاجز كالمربوط لغير القبلة والمصلوب وعند اشتداد الحرب، وإلا لمتنفل راكب سائر لا نازل في سفر مباح طويل أو قصير إذا كان يقصد جهة معينة، فله أن يتطوع على راحلته من حيثما توجهت به, ويلزمه افتتاح الصلاة بالإحرام إن أمكنه إليها، أي: إلى القبلة بدابة أو بنفسه، ويركع ويسجد إن أمكنه بلا مشقة, وإلا فإلى جهة سيره، ويومىء بهما ويجعل سجوده أخفض, وراكب المحفة الواسعة والسفينة والراحلة الواقفة يلزمه الاستقبال في كل صلاته].

ذكر المؤلف أن من شروط الصلاة استقبال القبلة, وأشار (بالقبلة - أي: الكعبة - أو جهتها) بأنه سوف يفصل هل يجب على المصلي استقبال عين الكعبة أم جهتها؟ وهذا له حالتان: الحالة الأولى: إن كان قريباً. والحالة الثانية: إن كان بعيداً كما سوف يأتي تفصيله.

واستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة, أجمعت عليه الأمة؛ لقول الله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]، فأمر الله سبحانه وتعالى بتولية القبلة، وتولية القبلة لا يكون إلا باستقبالها والتوجه إليها.

وقد قال ابن عمر رضي الله عنه كما روى البخاري وغيره في قصة تحول الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يصلون في قباء حينما بلغهم أن القبلة قد تحولت إلى الكعبة, قال: ( بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة )، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمسيء صلاته: ( ارجع فصل فإنك لم تصل, فلما أعاد ثلاثاً قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر ).

وقال المعلق على الزاد: (سميت قبلة لإقبال الناس عليها)؛ لأن الناس يتوجهون إليها، ويقابلونها بوجوههم, فهذا سبب تسميتها قبلة؛ ولهذا قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:150].

قال المؤلف رحمه الله: (فلا تصح الصلاة بدونه يعني: بدون استقبال) وهذه العبارة أدق من أن نقول: فلا تصح الصلاة بدون اتجاه القبلة؛ لأن الإنسان أحياناً يعجز عن استقبال الكعبة ولكنه يستقبل القبلة؛ لأن قبلته مع العجز تكون قبل وجهه، فالعاجز والمسافر قبلتهما حيثما صليا؛ ولهذا قالوا: إنه إذا صلى وهو سائر راكب في السفر ثم التفتت ناقته أو دابته إلى غير وجهته وإلى غير القبلة بطلت صلاته، فرأوا أن استقبال الشيء يكون قبلته، كما سوف يأتي بيانه.

وعلى هذا فلا يجوز أن يستقبل الإنسان غير الكعبة أو غير جهتها إلا لعاجز، قال المؤلف: (إلا لعاجز كالمربوط لغير القبلة)؛ لأن الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) وهو بين أمرين، بين ألا يصلي البتة, وبين أن يصلي إلى غير الكعبة، وصلاته في الوقت إلى غير الكعبة أولى من عدم صلاته وهذا معروف؛ لأن غاية الواجبات تسقط مع العجز وعدم الإمكان.

وقد قال العلماء: لا محرم مع الاضطرار، ولا واجب مع العجز، فالمربوط لغير القبلة والمصلوب يصليان كيفما اتفق وكذلك عند اشتداد الحرب، وقد روى نافع عن ابن عمر كما عند البخاري أنه قال: ( فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها )، وهذا في حال اشتداد الحرب، فإن الحرب إذا اشتدت سقط وجوب استقبال القبلة؛ لقوله تعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238-239]، يعني: صلوا وأنتم مترجلين وإلا وأنتم راكبين.

ومن المعلوم أن الإنسان وقت الحرب سواء كان راكباً أو ماشياً إما أن تكون القبلة قبل وجهه أو لا تكون وقد أمر أن يصلي, فدل ذلك على أن العاجز عن استقبال القبلة يسقط عنه هذا الحكم.

الشرط الأول: كون المسافر متنفلاً

قال المؤلف رحمه الله: (إلا لمتنفل راكبٍ سائر لا نازل في سفر)، هنا اشترط المؤلف للتطوع على الدابة أن يكون المسافر متنفلاً؛ فلا تصح صلاة الفريضة على الدابة، لما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسبح على راحلته قبل أي وجه توجهت به, ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة )، وفي الصحيحين من حديث ربيعة بن عامر أنه قال: ( كان رسول صلى الله عليه وآله وسلم يتطوع على راحلته غير الفريضة )، ولما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عن الجميع أنه أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتطوع على راحلته، وبعض الروايات أشارت إلى السفر وبعضها لم تشر إليه, والصحيح أنه كان في السفر؛ لأن غالب من ذكر ذلك ذكره في السفر، ومن لم يذكر السفر في روايته فقد ذكره بفعله كـابن عمر رضي الله تعالى عن الجميع.

الشرط الثاني: كون المسافر راكباً

ثانياً: أن يكون راكباً، فإن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه تطوع حال السفر وهو راكب على دابته.

الشرط الثالث: كون المسافر سائراً

قال المؤلف رحمه الله: (راكب سائر)، يعني: ليس بنازل، فإذا نزل فلا يسوغ له أن يصلي على دابته؛ لأنه قادر على الاستقبال، وعلى هذا فالذي يصلي على دابته وهو غير سائر صلاته ليست بصحيحة، والدليل أن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس هو في معنى المنقول؛ وهذه قاعدة مهمة؛ لأن ما نقل يجوز القياس عليه بنفي فارق، أو بقياس المساوي، أو بقياس الأعلى، أما أن يقاس على شيء ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس هو في معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يسوغ القياس عليه؛ فإن المقيم أغلب أوقاته المكث فليس ثمة عجز عن استقبال القبلة، وليس هناك مانع من التطوع لو أراد، فإن المتطوع السائر الراكب أمر بالتطوع على دابته؛ لأنه لو وقف لقطع سيره، فلأجل هذا قيل له: تطوع، أما النازل فإنه ليس ثمة حاجة إلى تطوعه راكباً إلى غير القبلة.

الشرط الرابع: كون المسافر غير مقيم

قال المؤلف رحمه الله: (في سفر) اختلف العلماء رحمهم الله إذا كان الإنسان راكباً سائراً في المصر وليس في السفر؛ لأن معنى في السفر أي: أنه جد به السير، أما الذي وصل إلى البلد هل يجوز له أن يصلي كما يصلي المسافر؟

يعني: هب أنني أنا الآن من أهل الرياض وسافرت إلى جدة وأنا في طريقي إلى قضاء حاجتي في جدة وقفت في إشارة السيارة أريد أن أصلي تطوعاً، هل يجوز لي أن أصلي وأنا مسافر ولكن لم يجد بي السير، قولان عند أهل العلم, وهما روايتان عن أحمد .

القول الأول: وهو مذهب جمهور الفقهاء، كما نقله أبو العباس بن تيمية رحمه الله أنه لا يصح التطوع راكباً في المصر ولو كان في حالة سفر؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس هو في معنى المنقول؛ لأن الذي جد به السير لو لم يجز له التطوع لأفضى إلى ترك التطوع، وأما الذي في المصر فليس ثمة حاجة إلى ذلك, وليس هذا أيضاً في معنى ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد , وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يصنع ذلك في المصر.

والذي يظهر أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أشد حرصاً على أداء التطوعات والمستحبات، وقد كان ابن عمر لا يصنع ذلك إلا إذا جد به السير، وما نقل عن أنس تفرد به الجارود بن أبي سبرة عن أنس , وهو وإن كان صدوقاً، إلا أنه لا يحتمل تفرده كما سوف يأتي تفصيله أيضاً.

الشرط الخامس: كون السفر مباحاً

قال المؤلف رحمه الله: (في سفر مباح). ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية، وهو مذهب الحنابلة إلى أن الرخص لا تناط بسفر المعصية، وعلى هذا فإذا كان سفره سفر معصية فلا يشرع له التنفل وهو راكب.

وذهب أبو حنيفة وهو رواية عند الإمام أحمد و أبو العباس بن تيمية رحمهم الله جميعاً إلى أن السفر متى ما وجد جازت رخصه؛ لأن رخص السفر متعلقة به لا بالمعصية، وهذا القول أظهر من حيث الدليل والله أعلم، وقد مر معنا في المسح على الخفين.

الشرط السادس: كون السفر طويلاً أو قصيراً

قال المؤلف رحمه الله: (طويلاً أو قصيراً) يعني: إذا كان السفر طويلاً أو قصيراً وقصد جهة معينة جاز، والسفر القصير: هو الذي فارق فيه الإنسان عامر قريته ولكنه ليس بأربعة برد، فلو خرج من الرياض إلى العاذرية مثلاً فإنه سفر لكنه سفر قصير، والأحكام مناطة بالسفر الطويل إلا في مثل هذه المسائل.

ولهذا لو كان ثمة بحث للفرق بين السفر القصير والسفر الطويل عند الجمهور في الأحكام لكان حسناً، وهذا من الأمثلة التي لا يفرق فيها بين السفر الطويل والسفر القصير.

الشرط السابع: كون المسافر يقصد جهة معينة

قال المؤلف رحمه الله: (إذا كان يقصد جهة معينة)، أما الذي لا يقصد جهة معينة، مثل: شخص أركب صاحبه، فقال له: إلى أين؟ قال: والله ما أدري لكن نقطع الوقت، وأخذوا يسيرون أمامهم وليس لهم وجهة معينة فهؤلاء لا يجوز لهم أن يتنفلوا وهم ركوباً؛ لأنهم لم يقصدوا جهة معينة، ولم يقصدوا السفر.

قال المؤلف رحمه الله: (إلا لمتنفل راكبٍ سائر لا نازل في سفر)، هنا اشترط المؤلف للتطوع على الدابة أن يكون المسافر متنفلاً؛ فلا تصح صلاة الفريضة على الدابة، لما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسبح على راحلته قبل أي وجه توجهت به, ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة )، وفي الصحيحين من حديث ربيعة بن عامر أنه قال: ( كان رسول صلى الله عليه وآله وسلم يتطوع على راحلته غير الفريضة )، ولما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عن الجميع أنه أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتطوع على راحلته، وبعض الروايات أشارت إلى السفر وبعضها لم تشر إليه, والصحيح أنه كان في السفر؛ لأن غالب من ذكر ذلك ذكره في السفر، ومن لم يذكر السفر في روايته فقد ذكره بفعله كـابن عمر رضي الله تعالى عن الجميع.