من صفات هؤلاء «التنويريين الجُدد» والنور منهم أبعد... - محمد بوقنطار
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
محمد بوقنطارقال الشافعي متعرضا لتفسير قول الله سبحانه وتعالى: "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" : "لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السُّدى الذي لا يُؤمر ولا يُنهى"، وإنها لآية من الله يتغشاها سؤال إنكاري جامع، وإنها من الشافعي لكلمة وتفسير حكيم مانع، ولا جرم أن هذا هو عين ما يدعو له ويرغب فيه هؤلاء الذين يفزعون إلى التحليل المادي في دائرة الحرية والمساواة وحب الذات، وهذه قضية اللبرالية واللبراليين، فَهَمُّها كما هَمُّهُم إزالة كل ما من شأنه أن يؤثر أو يحول دون ما ترغب فيه هذه الكائنات البشرية الحداثية من تحقيق ما تمليه الحاجات وترغب فيه الغرائز والنزوات، ويُخاصم في جفوة العقل والنقل والفطرة والأعراف المرعية...
وليس يخفى هذا الأمر منهم على أيّها الناس، وإنّما حصلت زيادة الاطلاع، ومجاوزة حكم الإجمال إلى غوائل التفصيل، لمن واجههم ودافعهم وبَلَا أمرهم، فلامست بصيرته قبل طرف بصره فلسفة تفكيرهم عن ذوق وقرب، بل قد تحصل الكثير الكثير من الوضوح والفضح وزالت الغشاوة لمن كان منهم وعاش بينهم متأثرا بسراب زبدهم، ثم تاب من ذنبهم، وعاد ليعتصم بحبل الله المتين وصراطه المستقيم.
ولاشك أن من كان هذا ديدنه، وقد اطلع على ركزهم، واستام سيرتهم هنا وهناك وهنالك عرف:
•أنهم ليسوا طُلاب حق، وإنّما كان همّهم ولا يزال تأثيم الحق، وتجريم أهله، ومن ثم تكذيب أصوله، وفروعه، وتسفيه نقلته.
•أنهم أصحاب مَيْنٍ وتدليس، ووجه ذلك رفعهم لشعار " العلمانية هي الحل"، وكأن الإسلام يصول في المحاكم ويجول في الأسواق، تطال أحكامه الأعناق والأرزاق، وتنظم دواوينه شؤون البلاد والعباد، وقد عُلم موقع العلمانية وسطوة ناسها ونفوذ أهلها وبسطهم اليد على الحياة لعقود من الزمن خلت وبرحت ورسخت.
•أنهم يُعانون من الإقصاء والتحجير، وهم من هم الإقصائيون السلطويون الاستبداديون المصلحيون، وتلك سيرتهم متى ما تمكنوا أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف.
•أنهم ما فتئوا يتهمون الإسلاميين بأنهم يطوفون حول كراسي السلطة، وكأنهم بعكسهم يطوفون حول الكعبة المشرفة طواف الإفاضة لا الوداع، يمشون في بياض محرمين ويرون في بياض ساعين مهرولين بين الصفا والمروة.
•وأنهم قوم قد كانت مشكلتهم ولا تزال مع الإسلام كدين دولة، وإن توارت هذه العداوة وراء ستار تحجيرهم لمغزى ووجهة المدافعة حصرا وقسرا على فصيل أو فئة أو جماعة أو حزب يتكلم بالدين ويتلبس بدثاره على نحو متطرف هالك، زعما أو حقيقة.
•أنهم مطففون في إصدار أحكامهم المتلجلجة، ففي الوقت الذي يرون فيه تاريخ الإسلام والمسلمين، تاريخ قتل وسفك ولصوصية واغتصاب، ونهب وإبادة، وأنه تاريخ فتن وصراع على الجاه والسلطة، تراهم يضربون بالصفح الحليم على ذلك الفيض من غيض مخازي الرهبان والأحبار وحكام الغرب قياصرة وملوكا ورؤساء، وما قارفته أيديهم البيضاء المخضبة بدماء الجوعى والمستضعفين في إفريقيا وآسيا وأمريكا، حيث تولّت علمانيتهم وبندقيتهم المغلفة بترانيم الكنائس والأديرة سحق وإبادة وإحراق قرى عن بكرة أبيها، وذلك كان ماضيهم، وهذه سيرة حاضرهم تشهد تراجيديا مسلسل الظلم على أن الوصل المدمر لا يزال مستمرا محافظا على أنفاسه القديمة المتجدِّدة على بدء متكرر، فهل سمعنا لهؤلاء ركزا أو حتى همسا؟ !
•أنّهم أصحاب نفوس تطبّعت على عيش الظلام بشرور غاسقه، واستمرأت السبل المزيّفة، وقد نشأت على هذا الوضع حينا من الدهر ليس بالقصير، بل وزاد من طول حبله الزمني إقبالهم بنهم تحت طائلة جوع فكري وظمأ معرفي وحاجة قصوى لهضم ثم اجترار زاد المعلبات الفكرية ذات المصدر الصقيعي، خاصة ذلك الزاد الذي دأب طبّاخوه على مجافاة الأديان عموما، والدين الإسلامي على وجه الخصوص، وإنّما مع طول الأمد هذا فلا يستغرب المرء من قساوة قلوب تلك حال أصحابها، وقد عاش في غير انفكاك من ذلك الحبل الزمني مغمور الهامة، مطوّق الجيد، مطمور القامة، موؤود الخشبة في درك الطبع والتطبع والاستمراء.
•أنّهم أصحاب عقول تابعة في افتتان وهوس محموم، للعقل الغربي تحت سلطان ونفوذ ما راكمه من تقدم مادي مبهر، وإنّما كان مسوِّغ هذه التبعية الضبية العمياء، وما لازم مسيرها الارتجالي من عداء طافح للوارد الأول على نفوسهم ونعني به إسلام الفطرة المكتسب بالبنوّة والجوار، كان المسوِّغ اعتقاد هذه الأجيال المحلية حدّ اليقين ، أن ما وصل إليه الغرب من إمكانيات في تطويع المادة لصالح مدنيته وللناس تارة وضد الناس أخرى، جاء وكان كنتيجة مباشرة للانسلاخ والتحلّل من قيود الدين وأفيون الشعوب، حيث تم الطلاق هنالك ببينونة كبرى لا رجعة فيها ولا محلّل لأزمتها، وإنّما زكّى هذا الاعتقاد وجود المسلمين في ذيل الركب المدني يشكون العوز الفكري والفقر العلمي والحاجة الصناعية، ويستجدون من الآخر الغذاء والدواء والمركوب والمطلوب والمرغوب...
ويا ليت هذا العقل التنويري أفاض علينا من هذه التبعية ما يسدّ به الرمق ويرأب الصدع والنفق، ولكنه للأسف عقل امتهن صنعة التأثيم ورمي أمته بكل تهمة وغائلة، بل وجعل تاريخنا تاريخ الأرذلين، ومن ثم تسنى لأصحابه اعتناق الاستغراب في إقناع لغيرهم وإمتاع لأنفسهم، ولعلها عين الصفة التي جعلها قوم نوح عليه الصلاة والسلام مسوِّغا لترك ما جاء به من إيمان ورسالة وظل يدعوهم إليها ألف سنة إلا خمسين عاما، ليلا ونهارا وسرا وجهارا، ثم ما فتئوا أن صدّوا وزاغوا عن سبيل الله، وفي هذا يخبرنا القرآن الكريم وقد قال الله تعالى مصوّرا ناقلا هذا الصدود المفلس البئيس: "قالوا أنومن لك واتبعك الأرذلون"
•أنهم جيل مستنسخ بحبر خافت وطباعة رديئة، وإنّما الحاصل أن هذه الثورة التواصلية هيّأت لهم منابر لا رقابة عليها ولا توجيه، فطفقوا يثيرون الشبه القديمة في اجترار موبوء، وتمرير لكل هذه المتلاشيات في قالب يحكمه التلوّن، والرطانة في الأسلوب، أسلوب تطبعه العرنجية لا العربية، ويا ليت هؤلاء أوتوا حظا ونصيبا من التميّز الذي تلبست به الأجيال التي سبقتهم وواجهت قلعة النص بشيء من الصلابة والانتهاض، وسيرة غزيرة الإنتاج والتصنيف.
•أنّهم قوم أشهروا وجرّدوا سيف التشكيك من غمد الغيض، وأشهروه في وجه النصوص الصريحة، ولقد هادنوا القرآن مهادنتهم للحرف بينما تمردوا على المعنى، كما رغبوا عن السنة وصدوا عن سبيلها، فأطلقوا سهام النبز ورمية الاتهام في نحور نقلتها ورواتها، واستهدفوا في هذا رجلين عظيمين للأول فضل مطلق وهو فضل الصحبة والحفظ والاستكثار من الرواية، وللثاني فضل مخصوص وهو فضل نقل السنة وجمعها ونخلها وتحقيقها دراية ورواية، وهما الصحابي الجليل أبو هريرة، وعمدة المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، وإنّما كان الطعن في النقلة طعنا في المنقول ليس إلا.
•أنّهم قوم تحرك مشروعهم الحداثي الغرائز والنزوات، ولكأنك تواجه الضواري التي تسعى لإشباع هذه الغرائز والنزوات، ومن ثم مدافعة ومجافاة ومعاداة كل ما يحول بينها وبين هذه البُغية المرضية، ولا شك أن العقبة المراد اقتحامها هاهنا تبقى هي العقائد والأديان، وليس ثمة عقيدة صحيحة ونِحلة صريحة غير ملة الإسلام، ولذلك يتحلقون في تقصّف واندفاع لمؤازرة كل فرد جانح عن هذه الملة الحنيفية السمحة، قلت كل فرد يريد أن يفعل ويقول ويفكر ويعربد بلا حدٍّ ولا قيد ولا ضبط من أي شيء خارج عن ماهيته وما يريده هو لا غيره، وارجع في هذا حتى لا نُتهم بالرجم بالغيب، إلى وقفتهم ومساندتهم للطعمة القليلة العدد من المفطرين عمدا في نهار رمضان ، وللشواذ، وللمُسافحات المتخذات أخدان تحت طائلة ما بات يعرف من شعار مفاده "جسدي حريتي"، وانتهاضهم ورفعهم لشارة الحق في الحياة ضد أحكام الإعدام الموجهة شرنقتها لأعناق المجرمين والبغاة والمعتدين من المفسدين في الدماء والأعراض والأموال بغير حق.
•أنّهم قوم يدّعون العقلانية والعلم والمعرفة، فكيف اجتمع فيهم هذا الزعم وتلك الدعوى، وقد أقاموا الدنيا على إسلام الوحي ورموه بالظلامية والرجعية والتطرف والجهالة والجاهلية، ثم ضربوا صفحا في مهادنة ومساكنة وصمت مريب، عن التعرض بالعقل الصحيح والفطرة السويّة لدين الخرافة وطقوس الدجل وهذه الوثنيات التي عادت للواجهة يحسبها الناس تحت سطوة الإعلام البئيس والرأسمال النجس من الدين وما هي منه، وهو منها براء، بل قد جاء ليهدّ غرانيقها ويكيد أصنامها.
•أنهم قوم لا تكاد تجد واحدا منهم إلا حفيا بنصوص تحيل على الجهد والاجتهاد البشري، فيحفظ عن ظهر قلب حديث "التأبير"، لكنه إذا ذُكِّر بواجب تحكيم شريعة الله ولّى مدبرا ولم يعقب، ولا ريب أن إعمار الدنيا مطلوب ومرغوب، ففي الشرع ما ينص ويحض عليه أيّما تحضيض، وإنّما الخلاف معهم في ترتيب الأولويات، وكبيرة ضرب ونسف قاعدة الاستيعاب التي يتميّز بها ديننا في وسطية تشط أركانها عن الإفراط والتفريط.
•أنهم قوم مجمعون على مسلمة يقينية مفادها أن الذوق المعاصر هو أرقى وأجدى وأنفع وأنسب للإنسانية من أحكام الوحي وشريعته، مطبقون على أن هذه الأحكام ما فتئت تحجّر على العقل في مقام إطلاق خاصيته في باب الإبداع والابتكار والاختراع المادي.
ونحن ننهي هذا السيل من أوصاف القوم بتحدٍ لهم بأن يأتوا بآية من نص الكتاب، أو حديث صحيح من السنة، أو كلمة من الآثار، تقيّد أو تعارض أو تناهض أو تكتم أنفاس العقل المسلم فلا يكاد يبدع أو يصنع أو يخترع...