القرآن هو كتاب الله


الحلقة مفرغة

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [الكهف:1-4].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها المسلمون عباد الله! فإن القرآن الكريم هو كتاب الله المعجز الذي أنزله ربنا جل جلاله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون للعالمين نذيراً، فتحدى الله به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك كله، فهذا الكتاب العزيز الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وهدى الناس من الضلالة، ونجاهم من الجهالة، وبصرهم من العمى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام:155-157].

وجازة ألفاظ القرآن مع غزارة معانيه

أيها المسلمون عباد الله! إن وجوه إعجاز القرآن لا تعد ولا تحصى، ويكفينا أن ربنا جل جلاله وصف هذا الكتاب المعجز بأوصاف لا تتأتى لكلام سواه.

فمن إعجاز القرآن: وجازة ألفاظه مع غزارة معانيه، تجد الآية موجزة قد اشتملت على ألفاظٍ معدودة، لكن معانيها غزيرة، ما تحتمله من المعاني لا يستطيع واحد من خلق الله أن يعبر عنها بتلك الألفاظ الموجزة، تأمل في قول ربنا جل جلاله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].

وتأمل في قوله سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وفي قوله جل جلاله: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51]، وهكذا سائر القرآن تجد فيه السور القصار والسور الطوال، والآيات القصيرة، والآيات الطويلة، وهي كلها معجزة بما اشتملت عليه من المعاني العظيمة.

إخبار القرآن عن الأمم الغابرة

ومن إعجاز القرآن أيها المسلمون عباد الله! ما أخبر عنه من أخبار الأمم الغابرة، والقرون المندثرة التي ما كان محمد صلى الله عليه وسلم معاصراً لها، ولا حاضراً بين ظهراني أهلها، يقول الله عز وجل في قصة يوسف عليه السلام: وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف:102]، ويقول في قصة مريم : وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، ويقول في قصة موسى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص:44]، هكذا محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه هذا القرآن، وقد علم الناس جميعاً متى ولد، وأين ولد، وعلم الناس جميعاً أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وأنه ما تردد على علماء، ولا اختلف إلى أحبار ولا رهبان، وإنما أنزل الله عليه قرآناً يتلى، حكى فيه بدء الخليقة، وما كان من قصة آدم مع إبليس، وسرد فيه أخبار نوح مع قومه، وموسى مع العبد الصالح، وذي القرنين ولقمان وسائر الأمم الغابرة، والقرون الداثرة في قصص تكررت في القرآن يصدق بعضها بعضاً، قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].

بل في هذا القرآن إخبار عما كان في الشرائع من الأحكام التي سترها أصحابها وأخفوها عن عوامهم، فالله جل جلاله في القرآن يقول: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:76-77].

وفي القرآن يخبر ربنا جل جلاله عما حرمه على تلك الأمم بسبب ظلمهم أنفسهم، وتعديهم أمر ربهم، قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161]، وقال سبحانه: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93]، ثم يتحداهم جل جلاله بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، هكذا يقرعهم ويظهر كذبهم، ويبين عوارهم، ويهتك أستارهم، وهم لا يملكون لهذا القرآن تكذيباً ولا معارضة.

إخبار القرآن بما يكون في مستقبل الأيام

ومن إعجازه أيها المسلمون عباد الله! ما أخبر عنه من الغيوب التي تكون في مستقبل الأيام، نقرأ في القرآن قول ربنا: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:45-46]، أين نزلت هاتان الآيتان؟ نزلتا في مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه يعانون من أذى المشركين واستهزائهم وسخريتهم وتعديهم على المستضعفين، فالله عز وجل يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45]، يقول عمر رضي الله عنه: (ما علمت تأويلها إلا حين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يثب في درعه، يهد المشركين بسيفه، وهو يقرأ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45]).

ومن ذلك قول ربنا جل جلاله: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:2-4]، ما أتت بضع سنين حتى صدقت نبوءة القرآن، وعلم الناس كلهم أجمعون أنه تنزيل من حكيم حميد، ومن ذلك قول ربنا جل جلاله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وقوله سبحانه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].

هذه الآيات كلها نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين الناس، وما كان دينه إلا في جزيرة العرب، محصوراً مقصوراً، وتوفي صلوات ربي وسلامه عليه، فما أتت على الناس عشرون سنة حتى كان الإسلام قد بلغ المشارق والمغارب، ودكت جيوش المسلمين معاقل فارس والروم، وفتحت بلاد اليمن، وفتح الشمال الإفريقي، بل كان المسلمون يغزون في البحر، ويدقون أبواب القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية مرة بعد مرة، مصداقاً لهذه النبوءة القرآنية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، ولا يبقى بيت شعر ولا مدر إلا أدخل الله فيه هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ) صدق رسول الله، قُلْ صَدَقَ اللَّهُ [آل عمران:95]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، الله جل جلاله ونبيه صلى الله عليه وسلم أخبارهما صدق، وأحكامهما عدل، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

تحدي القرآن لليهود بأمور عجزوا عن فعلها

ومن إعجاز القرآن أيها المسلمون عباد الله! أنه تحدى اليهود والكفار والمنافقين في آيات بأمور، تحداهم أن يفعلوها وأخبرهم أنهم لن يفعلوها، ومن ذلك قول ربنا جل جلاله مخاطباً اليهود: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]، قال الله عز وجل: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95]، قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، الذين يقولون: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، الذين يزعمون أنهم فوق الناس، وأنهم خير الناس، وأنهم أفضل الناس، قل لهم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ [البقرة:94]، إن كانت الجنة حكراً عليكم، خاصة بكم فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، قال الله عز وجل: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]؛ لأنهم يعلمون أنهم كفار فجار فساق، متعدون لأوامر الله، ولن يتمنوه أبداً، وروي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لو قالها رجل منهم لغص بريقه )، أي: لمات من ساعته، لكنهم ما استطاعوا.

ومن ذلك أن الله عز وجل تحدى الكفار بهذا القرآن، قال لهم: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، ثم قال لهم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، تحداهم بأنهم لن يفعلوا فما استطاعوا.

فضح القرآن للمنافقين

ومن إعجاز القرآن أيها المسلمون عباد الله! أنه فضح خبيئة تلك النفوس المعوجة، وتلك القلوب المريضة، فحكى ربنا جل جلاله عن المنافقين فقال: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11]، وقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154]، وقال عن اليهود: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة:8].

حالة الدهش والإعجاب التي يكون عليها القلب عند سماع القرآن الكريم

ومن إعجاز القرآن أيها المسلمون عباد الله! تلك الروعة التي تأخذ بقلوب سامعيه من المؤمنين والكفار، مؤمناً كان المرء أو كافراً، تأخذ قلبه روعة يدهش عند سماع هذا القرآن، ففي صحيح البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: ( أتيت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس المغرب فقرأ سورة الطور فجعلت أستمع إليه، فلما بلغ قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور:35-43] قال جبير : فكاد قلبي يطير إلى الإسلام ) بهذه الآيات الوجيزات القصيرات اللائي سمعهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك عتبة بن ربيعة لما ساء أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: يا محمد! ما رأينا أشأم منك، لقد عبت آلهتنا، وسفهت أحلامنا، وفرقت جماعتنا، فانظر ماذا تريد؟ إن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، إن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تصير أغنانا، إن كنت تريد نساءً فانظر أجمل نساء قريش نزوجك عشراً، وإن كان الذي يأتيك رأي من الجن التمسنا لك الطب، ولما فرغ من هذيانه، وبهتانه، وإفكه وزوره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ما كان فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً بالأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، قال له: ( أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، فاردد عليّ إن استطعت، قال له: فاسمع بسم الله الرحمن الرحيم حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [فصلت:1-4] إلى أن بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]، فجاء الكافر ووضع كفه على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد! ناشدتك الله والرحم أن تكف )، وما رجع إلى قومه، بل رجع إلى بيته، وقالوا: يا أبا الوليد! ما صنعت مع محمد، قال: واللات والعزى لقد كلمني بكلامٍ ما سمعت أذناي مثله قط، وما استطعت أن أرد عليه شيئاً، وهو كافر محاد لله ورسوله إلا أن القرآن قد أخذ بمجامع قلبه، لكن الشقي من سبقت له الشقاوة في الأزل.

قارئ القرآن وسامعه لا يمل من قراءته وسماعه

ومن إعجاز القرآن أيها المسلمون عباد الله! أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، قارئ القرآن يختمه مرة بعد مرة، ولا يمل منه أبداً، بل يزداد عنده حلاوة، كل كلام سوى القرآن فإن الإنسان إذا كرره يمله، وسمعه يمجه، أما القرآن فإنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ترداده يزداد فيه تجملاً، كلما قرأته ازددت له حباً، بينما غيره من الكلام من تلك الكتب التي حرفت وبدلت وغيرت احتاجوا إلى أن يجعلوا لها ألحاناً، وأن يمطوا بها أصواتهم، وأن يلووا بها ألسنتهم؛ لأن الناس قد ملوها ومجوها، أما كتاب الله عز وجل فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

يا أيها المسلم يا عبد الله! أكثر من قراءة القرآن فإنه كلام ربك، ومن أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرآن، الله يكلمك ويكلمني، ويكلمه ويكلمها بهذا القرآن، وهو الذي تكفل الله بحفظه، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم، أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا، وجلاء أحزاننا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، وتوبوا إلى الله واستغفروه.

أيها المسلمون عباد الله! إن وجوه إعجاز القرآن لا تعد ولا تحصى، ويكفينا أن ربنا جل جلاله وصف هذا الكتاب المعجز بأوصاف لا تتأتى لكلام سواه.

فمن إعجاز القرآن: وجازة ألفاظه مع غزارة معانيه، تجد الآية موجزة قد اشتملت على ألفاظٍ معدودة، لكن معانيها غزيرة، ما تحتمله من المعاني لا يستطيع واحد من خلق الله أن يعبر عنها بتلك الألفاظ الموجزة، تأمل في قول ربنا جل جلاله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].

وتأمل في قوله سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وفي قوله جل جلاله: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51]، وهكذا سائر القرآن تجد فيه السور القصار والسور الطوال، والآيات القصيرة، والآيات الطويلة، وهي كلها معجزة بما اشتملت عليه من المعاني العظيمة.