من أنواع الرحمة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
من أنواع الرحمةالرحمة بالأرملة والمسكين:
الأرملة هي المرأة التي فقدت زوجها بالموت، وأصبحت تواجه الحياة بمفردها، من أجل الإنفاق على أولادها[1].
أما المسكين فهو: من لا شيء له أو له ما لا يكفيه أو أسكنه الفقر أي: قلل حركته والذليل والضعيف.[2]
عن صفوان بن سليم، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سيبل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل " وفي رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
وأحسبه قال: كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر "[3]
من أروع صور الرحمة من يرحم المرأة الأرملة، فهي ضعيفة لكونها امرأة في مواجهة الدنيا، وضعيفة لأنها بلا زوج يحميها، وضعيفة لأنها مسؤولة الرعاية على أبنائها الأيتام.
ومن يسع من أجل مساعدة هذه الأرملة، ويحميها من وعورات الحياة وفتنها، فهو مثاب بأعلى درجات المثوبة في عمل الطاعات: ثواب المجاهد في سبيل الله، وثواب الصائم النهار، القائم الليل.
تساوى من يكد على المرأة والمسكين، بفعل من يعمل الطاعات في أجلّ صورها وأعلاها.
وهذا يتفق مع المنظومة الإسلامية التي تعلي شأن العمل والكدّ، فالعامل المكد المنهك خير من العابد العاطل.
وكذلك الحال مع المسكين، الذي ضاقت به سبل الحياة في الدنيا، فتكون مساعدته لها ثواب عظيم.
إن الجمع بين الأرملة والمسكين في مستوى الحاجة، وفي مستوى الفضل والمثوبة يعبّر عن أهمية احتياج الصنفين إلى المساعدة، وأن كليهما في مستوى اجتماعي واحد، فالطفل اليتيم يساوي المسكين، لأنه طفل ولأنه بلا أب.
ومن وجه آخر، فإن بذل الفرد المال لمساعدة الأرملة والمسكين، يدل على طيبة نفس الباذل لأن: " المال شقيق الروح، وفي بذله مخالفة النفس ومطالبة رضى الرب " [4].
الرحمة بالخادم:
فأنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول:" لما قدم رسول إلى المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بنا إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله إن أنسًا غلام كيّس.
قال: فخدمته في السفر والحضر، والله ما قال لي لشيء لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه لم تصنع ها هكذا؟" [5]
يروي أنس - رضي الله عنه - قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍّ ولا: لمَ صنعتَ؟ ولا: ألا صنعتَ؟ " [6].
أنس خادم المصطفى، يصف بجمل معدودة حاله مع الرسول: لا يحاسبه على ما فعل، وما لم يفعل.
ولأن أنس كان واعيًا بطباع الرسول، فقد كان مجتهدًا في طاعته، لا يتوانى عن خدمته، ويبادر إلى الفعل.
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم معه غلامان، فوهب أحدهما لعلي وقال: لا تضربه فإني نهيت عن ضرب أهل الصلاة، وإني رأيته يصلي منذ أقبلنا "[7].
وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر غلامًا وقال: استوص به معروفًا فأعتقه، فقال: ما فعل؟ قال: أمرتني أن أستوصي به خيرًا فأعتقته " [8].
يأتي التوجيه النبوي لأصحابه بالخدم بأن بألا يضربوهم، وأن يعاملهم المعاملة الطيبة، وقد أحسن أبو ذر إلى خادمه إكرامًا للرسول الذي وهبه له.
ويحكي أنس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب - وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي.
قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أُنيس ذهبت حيث أمرتك؟ فقلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله " [9].
هذا الخلق الرحيم بالخدم فيه إشارتان: الأولى: إلى من يقوم بأمر الخدمة والعمل عند الآخرين أن يتخلق بأخلاق الإسلام في الطاعة لسيدة أو لرئيسه، فيفهم ما يريد، ويسرع إلى العمل دون تكاسل.
والإشارة الثانية: إلى رب العمل أو صاحب الدار، أن يحسن إلى من يعمل عنده، فإن الإحسان يمتلك القلوب، والرحمة أيسر السبل للتعليم.
الرحمة أساس كل تعامل إنساني:
ليست الرحمة أفعالاً بالجوارح: عطاء وبذل فقط، بل يسبق ذلك القول، وبالأدق: حسن الخلق، فالمسلم لن يسع الناس بماله، وما هو بمستطيع، وإنما يسعهم بخلقه الطيب، والخلق الطيب مفتاحه اللسان الطيب، ثم ما يتلوه من عمل وسلوك؛ لذا نجد حسن الخلق يحتل المساحة الأكبر في وصايا الرسول، بل نقول: إن حسن الخلق هو مفتاح البر كله.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابًا ولا فحاشًا ولا لعّانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له تربَ جبينُه"[10]
فالسب والفحش واللعان هي أكثر الصفات القولية معيبًا، والناس مهما تطاولوا على بعضهم، ولكن يظل من عفّ لسانه موضع احترامهم، لأن الأدب سمة لا خلاف عليها، وحفظ اللسان من الأدب.
والحديث يصف لسان الرسول، خاليًا من مظاهر فحش القول، وهكذا كل نبي مبعوث.
وعن مسروق قال: كنا جلوسًا عند عبد الله بن عمرو يحدثنا إذ قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وإنه كان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقًا "[11].
هذه شهادة من كانوا حول الرسول، نفى الفحش والتفحش، وذكر مضاده: حسن الخلق، وحسن الخلق أشمل لأنه يشمل مختلف جوانب الخلق الطيب.
[1] سميت أرملة لما يحصل لها من الأرمال وهو الفقر وذهاب الزاد لفقد الزوج.
فضل الله الصمد في شرح الأدب المفرد للبخاري، ج1، ص219.
[2] القاموس المحيط، ص1556.
[3] صحيح البخاري، ج4 ص93.
[4] فضل الله الصمد في شرح الأدب المفرد للبخاري، ج1، ص 219.
[5] شمائل الرسول ودلائل نبوته، ابن كثير، ص63.
[6] صحيح البخاري، ج4، ص98.
وفي رواية أنه خدمه " تسع سنين "، انظر شمائل الرسول، ص63، يقول أنس: " لقد خدمته تسع سنين..."
[7] فضل الله الصمد في شرح الأدب المفرد، ج1، ص 253.
[8] فضل الله الصمد في شرح الأدب المفرد، ج1، ص 253.
[9] شمائل الرسول ودلائل نبوته، ص 63، ورواه أبو داود في سننه، دار الجيل، بيروت، ج4، ص247، باب الأدب، وزاد: قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين، ما علمت قال لشيء صنعت: لم فعلت كذا وكذا، ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا.
[10] صحيح البخاري، ج4، ص97.
وذكر المحقق: ترب جبينه: كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، كقولهم رغم أنفه، ولا يراد معناهما.
[11] صحيح البخاري، ج4، ص97.