سورة الجمعة - الآيات [9-10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ومع النداء الخامس والثمانين في الآيتين التاسعة والعاشرة من سورة الجمعة قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الجمعة:9-10].

مناسبة هذه الآيات لما قبلها

مناسبة هذه الآية لما قبلها: هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات لها، ذكر صاحب الكشاف أن اليهود افتخروا على المسلمين بالسبت، فشرع الله للمسلمين الجمعة، فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها، فكنَّ لهذه الآية تمهيداً وتوطئة؛ لأن الآيات التي قبلها بدأت بقول ربنا جل جلاله: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ))[الجمعة:6]، فالآيات في سياق الحديث مع اليهود الذين كان دأبهم الفخر والعلو في الأرض.

سبب نزول الآيات

وسبب النزول لهذه الآية: ما ورد في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير من الشام تحمل طعاماً، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم.. )، وفي رواية: ( وفيهم: أبو بكر و عمر ، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة: (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ))[الجمعة:11] ).

وقد ذكروا في روايات أخرى: أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة بن الجراح و سعيد بن زيد و بلال و عبد الله بن مسعود و عمار بن ياسر و جابر بن عبد الله رضي الله عنهم، فهؤلاء أربعة عشر.

وذكر الدارقطني في حديث جابر أنه قال: (ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلاً ).

وعن مجاهد و مقاتل : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس).

وفي رواية: (أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام)، وفي رواية: (وطعام وغير ذلك، فخرج الناس من المسجد خشية أن يسبقوا إليه).

النداء لصلاة الجمعة وأوصافه

قال الله عز وجل: ((إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ))[الجمعة:9]، النداء للصلاة هو الأذان المعروف للإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، والمراد هنا: أذان الظهر، وفي الصحيح عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: ( كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر فلما كان عثمان وكثر الناس بالمدينة زاد أذاناً على الزوراء )، والزوراء: موضع بسوق المدينة وهو الآن قد دخل في توسعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وربما وصف هذا النداء في بعض الروايات بالأذان الثاني، ومعنى كونه ثانياً: أنه أذان مكرر للأذان الأصلي فهو ثان في المشروعية، ولا يريد أنه يؤذن به بعد الفراغ من الأذان الذي يؤذن به وقت جلوس الإمام على المنبر أن يؤذن به في باب المسجد، إذ لم يكن للناس يومئذٍ صومعة، وربما وقع في بعض الروايات وصفه بالنداء الثالث، وإنما يعنى بذلك: أنه ثالث بضميمة الأذان الأول، ولا يراد أن الناس يؤذنون أذانين في المسجد وإنما زاده عثمان ليسمع النداء من في أطراف المدينة، وربما سموه الأذان الأول.

والذي يظهر من تحقيق الروايات: أن هذا الأذان الثاني يؤذن به عقب الأذان الأول؛ لأن المقصود حضور الناس للصلاة في وقت واحد، ووقع في بعض عبارات الروايات والرواة: أنه كان يؤذن بأذان الزوراء أولاً ثم يخرج الإمام فيؤذن بالأذان الذي بين يديه.

وهذا المعنى أكده الإمام القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه لسنن الترمذي المسمى بعارضة الأحوذي، قال: لما كثر الناس في زمان عثمان زاد النداء على الزوراء؛ ليشعر الناس بالوقت، فيأخذوا بالإقبال إلى الجمعة ثم يخرج عثمان فإذا جلس على المنبر أذن الثاني الذي كان أولاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخطب ثم يؤذن الثالث ويعني به الإقامة، انتهى كلامه رحمه الله في العارضة.

وقال في أحكام القرآن: وسماه في الحديث -أي: حديث السائب بن يزيد الذي مضى معنى- ثالثاً؛ لأنه أضافه إلى الإقامة فجعله ثالث الإقامة، أي: لأنه أحدث بعد أن كانت الإقامة مشروعة.

وسمى الإقامة أذاناً من باب المشاكلة اللفظية، أو لأنها إيذان بالدخول في الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بين كل أذانين صلاة لمن شاء )، يعني بين الأذان والإقامة، فتوهم الناس أنه أذان أصلي، فجعلوا الأذانات ثلاثة فكان وهماً، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهماً على وهم.

مشروعية صلاة الجمعة وأول إقامتها بالمدينة

يقول الله عز وجل: ((إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ))[الجمعة:9]، اللام لام التعليل، أي: نادى مناد لأجل الصلاة من يوم الجمعة، فعلم أن النداء هنا هو أذان الصلاة، والتعريف في الصلاة تعريف العهد، وهي الصلاة المعروفة الخاصة بيوم الجمعة، وقد ثبتت شرعاً بالتواتر ثم تقررت بهذه الآية فصار دليل وجوبها الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.

وكانت صلاة الجمعة مشروعة من أول أيام الهجرة، روي عن ابن سيرين رحمه الله: أن الأنصار جمعوا الجمعة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قالوا: إن لليهود يوماً يجتمعون فيه وللنصارى يوماً مثل ذلك، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوماً لنا نذكر الله ونصلي فيه، وقالوا: إن لليهود السبت، وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة رضي الله عنه فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم.

وروى البيهقي عن الزهري أن مصعب بن عمير رضي الله عنه كان أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعين أن يكون ذلك قد علم به النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام، ولعلهم بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فضل يوم الجمعة، وأنه يوم المسلمين.

ومشروعية صلاة الجمعة والتجميع فيه إجابة من الله تعالى رغبة للمسلمين، مثل إجابته رغبة نبيه صلى الله عليه وسلم استقبال الكعبة المذكورة في قوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144].

قال تعالى: إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ[الجمعة:9]، (من) تبعيضية؛ لأن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها: الصلاة المعهودة فيه، فنزل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء، ويجوز كون (من) للظرفية كالتي في قوله تعالى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ[الأحقاف:4]، أي: فيها من المخلوقات الأرضية.

سبب تسمية الجمعة بهذا الاسم

والجمعة، بضم الجيم والميم في لغة جمهور العرب وهي لغة أهل الحجاز، وينطقها بنو عقيل بسكون الميم: الجمعة، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إنما سميت الجمعة جمعة؛ لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار.

وقال البغوي رحمه الله تعالى: واختلفوا في تسمية هذا اليوم يوم الجمعة، فمنهم من قال: لأن الله تعالى جمع فيه خلقه آدم عليه السلام، وقيل: لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات، وقيل: لاجتماع الجماعات فيه، وقيل: لاجتماع الناس فيه للصلاة.

أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: وأول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها أهل السير: كانت في اليوم الخامس للهجرة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام بقباء ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركه وقت الجمعة في بطن واد لبني سالم بن عوف كان لهم فيه مسجد فجمع بهم في ذلك المسجد، وخطب فيه أول خطبة خطبها بالمدينة، وهي طويلة ذكر نصها القرطبي في تفسيره.

وقولهم: (فأدركه وقت الجمعة)، يدل على أن صلاة الجمعة كانت مشروعة يومئذ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عازماً أن يصليها بالمدينة فضاق عليه الوقت فأداها في مسجد بني سالم بن عوف، ثم صلى الجمعة القابلة في مسجده بالمدينة وكانت جمعة المسجد النبوي بالمدينة الثانية بالأخبار الصحيحة.

أول جمعة في الإسلام بعد المدينة

أما أول جمعة جمعت في مسجد من مساجد بلاد الإسلام بعد المدينة كانت في مسجد جؤاثى من بلاد البحرين، وهي مدينة: الخط، قرية لعبد القيس، ولما ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أهل جؤاثى على الإسلام.

موقع يوم الجمعة من أيام الأسبوع

وتقرر أن يوم الجمعة اليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام، وهو الذي كان يسمى في الجاهلية: عروبة، قال بعض الأئمة: ولا تدخل عليه اللام. قال السهيلي : معنى العروبة: الراحة فيما بلغني عن بعض أهل العلم. انتهى كلامه رحمه الله.

ويوم الجمعة قبل يوم السبت، وقد كان يوم السبت عيد الأسبوع عند اليهود وهو آخر أيام الأسبوع، وقد فرضت عليهم الراحة فيه عن الشغل بنص التوراة، فكانوا يبتدئون عدد أيام الأسبوع من يوم الأحد وهو الموالي للسبت، وتبعهم العرب في ذلك لأسباب غير معروفة؛ ولذلك سمى العرب القدماء يوم الأحد: أول، فأيام الأسبوع عند العرب في القديم هي: أول، أهون، جبار، دبار، مؤيس، عروبة، شيار - بشين مكسورة بعدها تحتية مخففة - ثم أحدثوا أسماءً لهذه الأيام هي: الأحد، الإثنين، الثلاثاء، الإربعاء -بكسر الهمزة والباء- الخميس، عروبة أو الجمعة في قول بعضهم، السبت، وأصل السبت: القطع، سمي سبتاً عند الإسرائيليين لأنهم يقطعون فيه العمل، وشاع ذلك الاسم عند العرب، وسموا الأيام الأربعة بعده بأسماء مشتقة عن أسماء العدد على ترتيبها.

كون الجمعة عيد المسلمين الأسبوعي

وقد جعل الله يوم الجمعة للمسلمين عيد الأسبوع، فشرع لهم اجتماع أهل البلد في المسجد، وسماع الخطبة ليعلموا ما يهمهم في إقامة شئون دينهم وإصلاحهم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم كان هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد )، ( نحن الآخرون -أي: آخر الدنيا- السابقون يوم القيامة بيد أنهم -أي: اليهود والنصارى- أوتوا الكتاب من قبلنا ).

ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي تقع به شهرته، فجمعت الجماعات لذلك، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيراً بالنعمة وحثاً على استدامتها، ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع، ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى للاجتماع.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الناس لنا فيه تبع، اليهود غداً ) أي: السبت، ( والنصارى بعد غد ) إشارة إلى ما عمله النصارى بعد المسيح والحواريين من تعويض يوم السبت بيوم الأحد؛ لأنهم زعموا أن يوم الأحد فيه قام عيسى عليه السلام من قبره فعوضوا الأحد عن يوم السبت بأمر من قسطنطين سلطان الروم في سنة 321م بعد الميلاد وصار ديناً لهم بأمر أحبارهم.

صفة صلاة الجمعة وقيامها مقام الظهر

وصلاة الجمعة هي صلاة ظهر يوم الجمعة وليست صلاة زائدة على الصلوات الخمس، فأُسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجل الخطبتين، روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة, وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة فكانت كل خطبة بمنزلة ركعة، وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإيماء إلى أنهما قائمتان مقام ركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفاً، غير أن الخطبتين لم تعطيا أحكام الركعتين، فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معاً ولا يجب على المسبوق تعويضهما ولا سجود لنقصهما عند جماهير فقهاء الأمصار.

روي عن عطاء و مجاهد و طاوس : ( أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعاً صلاة الظهر )، وعن عطاء: أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات، وقد أراد إن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة.

وجعلت القراءة في الصلاة جهراً مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة؛ لفائدة إسماع الناس سوراً من القرآن كما أسمع الخطبة فكانت صلاة إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع.

والإجماع قد وقع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة فمن صلاها لا يصلي معها ظهراً، فأما من لم يصلها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر، قال العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى: ورأيت في الجامع الأموي في دمشق إماماً قام يصلي بجماعة ظهراً بعد الفراغ من صلاة الجمعة، قال رحمه الله: وذلك بدعة.

صفة السعي إلى الصلاة يوم الجمعة

يقول الله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا))[الجمعة:9]، والسعي أصله الاشتداد في المشي، كما في قوله تعالى في سورة القصص: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى[القصص:20]، وفي يس: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى[يس:20].

وأطلق السعي هنا على المشي بحرص وترك التأخر مجازاً، وليس المقصود أن يركض القاصد إلى المسجد، بل هذا منهي عنه كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )، وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: ( بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ). رواه الشيخان.

وفي سنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون؛ ولكن ائتوها تمشون وعليكم بالسكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ).

قال الحسن رحمه الله: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع.

وقال البغوي رحمه الله تعالى: وليس المراد من السعي الإسراع إنما المراد منها العمل والفعل كما قال تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ[البقرة:205]، وقال تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى[الليل:4].

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ: (فامضوا إلى ذكر الله)، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود .

وقال قتادة رحمه الله في هذه الآية: فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها، وكان يتأول قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ[الصافات:102]، يقول: فلما مشى معه.

وقوله: إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ[الجمعة:9]، فسر (الذكر) بالصلاة، وفسر بالخطبة.

وقوله: وَذَرُوا الْبَيْعَ[الجمعة:9]، أي: أتركوا البيع، وهذا الفعل لم يسمع منه في لغة العرب إلا المضارع والأمر، ذر ويذر، ولم يسمع منه ماض مع أن مرادفه: اترك، منه الماضي: ترك، والمضارع: يترك، واسم الفاعل منه: تارك واسم المفعول: متروك، واسم المصدر: ترك، فنهوا عن البيع؛ لأنه الذي يشغلهم؛ ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق منهم الجمعة إقبالاً على عير تجارة وردت، ومثل البيع كل ما يشغل عن السعي إلى الجمعة.

قياس العقود على البيع في النهي عند النداء للجمعة

وهنا مسألة: هل يقاس على البيع غيره من العقود؟

مذهب مالك رحمه الله: أن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ، وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة ففي العتبية عن ابن القاسم لا يفسخ، ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجباً لفسخ المقيس.

وكذلك قال أئمة المالكية: لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت النهي يوم الجمعة، وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع.

المقصود بقوله: (ذلكم خير لكم)

وقوله: (ذلكم) إشارة إلى المذكور من الأمر بالسعي إلى الصلاة وترك البيع حينئذ، ذلكم خير لكم من البيوعات، ولفظ الخير: اسم تفضيل، أصله: أخير، وحذفت همزته لكثرة الاستعمال، والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه وهو البيع، والمفضل الصلاة، أي: ثوابها.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض ليخلو إلى ربه، ويتجرد لذكره، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى، ويملأ صدره وقلبه من ذلك الهواء النقي الخالص العطر، ويستروح شذاه، انتهى كلامه رحمه الله.

تفسير معنى قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ...) وما يستفاد منها

قال الله عز وجل: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ[الجمعة:10]، أي: أديت، وهو من إطلاق القضاء على الأداء.

وقوله: فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ[الجمعة:10] والأمر ها هنا بالانتشار للإباحة من شاء جلس، ومن شاء خرج.

وقوله: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[الجمعة:10]، وفضل الله: اكتساب المال والرزق وهذا هو التوازن الذي يتسم به منهج الإسلام، توازن بين مقتضيات الحياة في الأرض من عمل وكد، ونشاط وكسب، وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر وهي ضرورة لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى.

يروي ابن كثير رحمه الله نقلاً عن ابن أبي حاتم قال: كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقي من فضلك وأنت خير الرازقين.

وقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً[الجمعة:10]، أي: اذكروا الله بالحمد لله، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه لتفلحوا، وقد جاء في الحديث: ( من دخل سوقاً من الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كتبت له ألف ألف حسنة ومحي عنه ألف ألف سيئة )، رواه الإمام أحمد و الترمذي و ابن ماجه من حديث عمر رضي الله عنه، وقال الترمذي : هذا حديث غريب.

مناسبة هذه الآية لما قبلها: هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات لها، ذكر صاحب الكشاف أن اليهود افتخروا على المسلمين بالسبت، فشرع الله للمسلمين الجمعة، فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها، فكنَّ لهذه الآية تمهيداً وتوطئة؛ لأن الآيات التي قبلها بدأت بقول ربنا جل جلاله: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ))[الجمعة:6]، فالآيات في سياق الحديث مع اليهود الذين كان دأبهم الفخر والعلو في الأرض.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2641 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2580 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2540 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2525 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2351 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2315 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2308 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2298 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2233 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2193 استماع