سورة البقرة - الآية [267]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

أسأل الله أن يجعلنا من المقبولين.

الربط بين نداءات الإنفاق في البقرة وبعض السور في المفصل

كان النداء السادس قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، ثم النداء الذي بعده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، والنداء في هذه الآية قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267].

هذه نداءات ثلاثة في أوائل القرآن من سورة البقرة تتكلم عن الإنفاق، وقد ختم القرآن بسور أيضاً تتكلم عن الإنفاق، فنجد في سورة القلم حديثاً عن أصحاب الجنة الذين منعوا حق الفقير والمسكين، قال تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:19-20].

وبعدها سورة الحاقة، يقول الله عز وجل: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:30-34].

وبعدها في سورة المعارج قال الله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].

وبعدها في سورة المدثر قال الله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:43-44].

وبعدها في سورة الإنسان قال الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:8]، هذا كله حديث عن الإنفاق، وأن يعود الغني بجزء من ماله على الفقير من أجل أن يتحقق التكافل وتزول الأحقاد، ويكون مجتمع المسلمين مجتمعاً معافى، يعرف كل امرئ حقه ومستحقه.

سبب نزول الآية

يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، فقد كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل -أي: قطع التمر- أخرجت من حيطانها -يعني: بساتينها- البسر، وهو التمر إذا ظهر لونه، أخرجوه فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين، والأسطوانتان هما العمودان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي الواحد منهم بقناء التمر فيعلقه في حبل بين الأسطوانتين، ويأتي الواحد من فقراء المهاجرين ويأكل من هذا الذي علق، فكان الرجل من الأنصار، يعمد إلى حشف التمر، أي: إلى أردى التمر فيجعله مع قناء البسر يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267].

الحث على الإنفاق من الطيب

يا مؤمنون! يا طيبون! يا من تريدون وجه الله بنفقتكم! وترجون من ورائها الأجر والثواب اعلموا ( أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، فإذا أردت أن تنفق فلا تعمد إلى الرديء، وإنما إلى الطيب من جنس ما تحب، قال الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].

وقوله: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] يشمل ذلك التجارات والصناعات والرقيق والملابس والحيوان وغير ذلك.

وقوله: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267] يشمل ذلك الزروع والثمار والمعادن والركاز وغير ذلك.

الحكمة من الإتيان بلفظ (كسبتم) ولفظ (أخرجنا لكم)

ونلاحظ هنا أن الله عز وجل قال: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا [البقرة:267]، ولم يقل: (ومما أخرجتم)، بل قال: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267]، فالكسب -كما يقول ابن القيم رحمه الله-: أضافه الله للعباد؛ لأنه فعلهم القائم بهم، وأما إخراج الزرع فليس من فعلهم، بل هو من فعل الله كما قال ربنا سبحانه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64]، ولذلك قال: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267]، وقد ذكر ربنا جل جلاله هذين الصنفين: (ما كسبتم) و(مما أخرجنا لكم من الأرض) باعتبار أنه خطاب للمؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد كان الأنصار أهل زرع، وكان المهاجرون أهل تجارة؛ لأن مكة ليس فيها زرع، ولذلك نجد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة )؛ لأن أهل مكة دائماً يستعملون الموازين بحكم التجارة، أما الأنصار لأنهم أهل تمر وأهل زرع فدائماً كانوا يستعملون المكيال الصاع.

التحذير من قصد الخبيث في الإنفاق

قال سبحانه: وَلا تَيَمَّمُوا[البقرة:267]، أصلها: (تتيمموا) بمعنى: تقصدوا، والتيمم: القصد.

وقوله: الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]، الخبيث: الرديء أو الحرام، يعني: إما أن يكون المقصود بالخبث: الخبث من حيث المادة، أو الخبث من حيث جهة الكسب.

وقد روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا رسول الله؟ قال: غشه وظلمه. ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحوه الخبيث )، هذا على تفسير الخبيث بأنه الحرام.

وقوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، يعني: هذا المال الرديء لو أنكم أعطيتموه لما قبلتموه إلا على إغماض، كحال الإنسان الذي يغمض عينيه وهو يعلم العيب الذي في هذا الشيء الذي أعطيه، ولذلك يا عبد الله! الشيء الذي لا تقبله لنفسك لا تقدمه لله عز وجل.

الحكمة من ختم الآية باسمي الله: (الغني والحميد)

قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267]، هنا ختم الله عز وجل الآية بذكر هذين الوصفين الجليلين، فهو جل جلاله غني عن جميع المخلوقين، غني عن نفقات المنفقين، غني عن طاعات الطائعين، فأمرهم جل جلاله بالنفقة من أجل أن يزكيهم هم ويطهرهم هم، لا لحاجته إليه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فهو غني عنكم جميعاً، قال الله تعالى أيضاً: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].

ثم هو سبحانه حميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام التي توصلهم إلى دار السلام، حميد في أفعاله التي لا تخرج عن الفضل والعدل والرحمة والحكمة، وحميد الأوصاف؛ لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات لا يبلغ العباد كنهها.

يقول ابن القيم رحمه الله: ختمت الآية بصفتين يقتضيهما سياقها: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267]، فغناه وحمده يأبيان قبول الرديء؛ لأن قابل الرديء - أي: الإنسان الذي يقبل الرديء من المال - إما أن يقبله لحاجته إليه، كالجائع فإنه لو أعطي أي شيء لقبله، وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها؛ لأنها ليست نفساً شريفة، أو نفساً كاملة، لكن الله عز وجل غني حميد؛ ولذلك لا تقدموا إليه الرديء.

كان النداء السادس قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، ثم النداء الذي بعده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، والنداء في هذه الآية قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267].

هذه نداءات ثلاثة في أوائل القرآن من سورة البقرة تتكلم عن الإنفاق، وقد ختم القرآن بسور أيضاً تتكلم عن الإنفاق، فنجد في سورة القلم حديثاً عن أصحاب الجنة الذين منعوا حق الفقير والمسكين، قال تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:19-20].

وبعدها سورة الحاقة، يقول الله عز وجل: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:30-34].

وبعدها في سورة المعارج قال الله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].

وبعدها في سورة المدثر قال الله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:43-44].

وبعدها في سورة الإنسان قال الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:8]، هذا كله حديث عن الإنفاق، وأن يعود الغني بجزء من ماله على الفقير من أجل أن يتحقق التكافل وتزول الأحقاد، ويكون مجتمع المسلمين مجتمعاً معافى، يعرف كل امرئ حقه ومستحقه.

يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، فقد كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل -أي: قطع التمر- أخرجت من حيطانها -يعني: بساتينها- البسر، وهو التمر إذا ظهر لونه، أخرجوه فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين، والأسطوانتان هما العمودان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي الواحد منهم بقناء التمر فيعلقه في حبل بين الأسطوانتين، ويأتي الواحد من فقراء المهاجرين ويأكل من هذا الذي علق، فكان الرجل من الأنصار، يعمد إلى حشف التمر، أي: إلى أردى التمر فيجعله مع قناء البسر يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2637 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2574 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2535 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2522 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2344 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2310 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2303 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2293 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2229 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2186 استماع