تفسير سورة يس [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

ففي الآيات السابقات في أول سورة (يس) أقسم ربنا جل جلاله بالقرآن الكريم على أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وأنه داع إلى صراط مستقيم، وأنه قد بعثه لينذر قوماً ما أتاهم من نذير، وكذلك آباؤهم، فقال تعالى: لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس:6]، فأعرض هؤلاء القوم عن الذكر، وعاندوا الرسالة، وأبوا الانقياد لشرع محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم بين ربنا جل جلاله أن هؤلاء قد طبع على قلوبهم فهم ممنوعون من سماع الهدى والنظر في أدلته، وضرب الله لهم مثلاً بحال إنسان غلت يداه وجمعتا تحت ذقنه فهو مقمح، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [يس:8]، والمقمح هو من ارتفع رأسه فلا يستطيع أن يخفضه.

يقول الله عز وجل: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]، هذه الآية كقول ربنا جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]. ‏

العلة في عدم انتفاع بعض الكفار بالإنذار

والعلة في أنهم لا ينتفعون هي ما قال الله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، العلة أن الله عز وجل قد سلبهم الانتفاع بهذه الحواس؛ فلهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.

فالله جل جلاله يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم لئلا يحزن ولئلا يتحسر، كما قال لنوح عليه الصلاة والسلام: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ[هود:36]، هاهنا أيضاً يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: هؤلاء الناس الإنذار وعدمه عندهم سواء؛ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10].

الجمع بين هذه الآية وانتفاع بعض الكفار بالإنذار

وهنا سؤال قد يطرحه بعض الناس: يقولون: ثبت أن بعض الكفار قد انتفعوا بالإنذار، فاستجابوا للنبي عليه الصلاة والسلام بعد إعراض، مثلاً عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي رضي الله عنه كان كافراً ست سنين، يعارض النبي عليه الصلاة والسلام؛ بل ويعذب المسلمين؛ بل يريد قتل النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لما سمع الآيات التي في سورة الحاقة، وسمع الآيات التي في أول سورة طه ألقى الله الإسلام في قلبه، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وضرب عليهم الباب فنظر حمزة رضي الله عنه من ثقب الباب ثم قال: ( يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه فأذن لي أن أفتح له، إن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد غير ذلك قتلناه بسيفه. فأذن النبي عليه الصلاة والسلام لـحمزة ففتح له الباب، فأمسك النبي عليه الصلاة والسلام بـعمر ونتله، وقال له: يا ابن الخطاب! أما آن لك أن تسلم؟! ما أراك فاعلاً حتى ينزل الله بك قارعة، فقال له عمر رضي الله عنه: جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله )، فصار عمر رضي الله عنه من خير عباد الله المؤمنين القانتين، فنفعه الإنذار.

ومثله أيضاً ما كان من شأن خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و سهيل بن عمرو ، بل وما كان من شأن عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن أمية وكذلك عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة و أبي سفيان بن الحارث هؤلاء جميعاً انتفعوا فيما بعد بالإنذار وأسلموا، فـ عكرمة بن أبي جهل لما فتحت مكة هرب وذهب إلى جدة، وركب البحر يريد أن يغادر الجزيرة العربية كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطربت بهم السفينة وعلتها الأمواج، وصار المشركون الذين فيها يسألون الله، كما قال ربنا: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[العنكبوت:65]، فهاهنا عكرمة رجع إليه عقله واستيقظت فطرته، فقال: إن كان لا ينفع في البحر إلا الله فلا ينفع في البر إلا الله، لله علي إن نجاني أن آتي محمداً وأضع يدي في يده ولأجدنه رءوفاً رحيماً، وفعلاً نجاه الله وجاء إلى المدينة وأسلم، وصار رضي الله عنه محباً للقرآن، كان يضع المصحف على عينيه ويقول: كلام ربي كلام ربي، ثم خرج مجاهداً في سبيل الله حتى اختاره الله في اليرموك شهيداً، في فتوحات الشام.

ومثله أيضاً صفوان بن أمية بن خلف كان عدواً لله ورسوله وقد هرب من مكة بعد الفتح فأرسل إليه النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمه وزوج أخته عمير بن وهب الجمحي ، أرسله إليه بعمامته، أي: بعمامة النبي عليه الصلاة والسلام، فأدركه عمير وقال له: يا صفوان ! جئتك من عند خير الناس وأبر الناس وأوصل الناس، ارجع إلى مكة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنك شهرين، يعني: ترجع إلى مكة وعندك حق اللجوء شهرين اثنين، وأخرج إليه عمامة النبي عليه الصلاة والسلام على أنها أمارة الأمان، فرجع صفوان ودخل مكة وهو راكب جواده، فرحب به النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: ( انزل أبا وهب ! فقال له: يا محمد! زعم رسولك أنك قد أمنتني شهرين؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أربعة )، يعني زاده شهرين، ( انزل أبا وهب ! )، فنزل صفوان بن أمية وبقي في مكة وهو كاره للدين وكاره للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما كان يوم حنين، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج لغزو ثقيف استعار من صفوان أدرعاً، فقال له صفوان : أغصباً يا محمد؟! أي: أنت تريد أن تأخذها مني بالقوة؟ قال: ( بل عارية مستردة )، وخرج صفوان مع جيش المسلمين وهو على شركه، وفي أول الأمر اضطربت صفوف المسلمين كما قال ربنا جل جلاله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ[التوبة:25]، حتى صاح بعض القرشيين فقالوا: بطل السحر اليوم، فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من ثقيف، يعني قال له: محمد صلى الله عليه وسلم أنا مختلف معه وكاره له، لكن القرشي أحب إلي من الثقفي، فالمسألة عنده قومية ليس فيها أي بعد ديني.

وبعد ذلك انتظمت صفوف المسلمين وصارت الكرة لهم، ونصرهم الله عز وجل، ثم لما وضعت الحرب أوزارها أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان مائة من الإبل ثم مائة ثم مائة، ورد إليه أدراعه وكان بعضها قد تلف، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الضمان، يعني: التعويض، فقال له صفوان : أنا اليوم في الإسلام أرغب، يقول صفوان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الناس إلي فما زال يعطيني ويعطيني حتى صار أحب الناس إلي عليه الصلاة والسلام.

فما معنى هذه الآية: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]؟ ومثلها في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، قال أهل التفسير: هي من العام المخصوص، والمراد بها من سبقت له الشقاوة في الأزل، يعني ربنا جل جلاله سبق في علمه أن بعض الناس لا يؤمن، كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97]، بعض الناس هكذا، يرى بعينيه ويسمع بأذنيه فلا يزداد إلا كفراً والعياذ بالله، فالآية ليست على عمومها، وإنما هي مخصوصة بمن سبقت له الشقاوة في علم الله الأزلي سبحانه وتعالى.

والعلة في أنهم لا ينتفعون هي ما قال الله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، العلة أن الله عز وجل قد سلبهم الانتفاع بهذه الحواس؛ فلهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.

فالله جل جلاله يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم لئلا يحزن ولئلا يتحسر، كما قال لنوح عليه الصلاة والسلام: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ[هود:36]، هاهنا أيضاً يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: هؤلاء الناس الإنذار وعدمه عندهم سواء؛ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10].

وهنا سؤال قد يطرحه بعض الناس: يقولون: ثبت أن بعض الكفار قد انتفعوا بالإنذار، فاستجابوا للنبي عليه الصلاة والسلام بعد إعراض، مثلاً عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي رضي الله عنه كان كافراً ست سنين، يعارض النبي عليه الصلاة والسلام؛ بل ويعذب المسلمين؛ بل يريد قتل النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لما سمع الآيات التي في سورة الحاقة، وسمع الآيات التي في أول سورة طه ألقى الله الإسلام في قلبه، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وضرب عليهم الباب فنظر حمزة رضي الله عنه من ثقب الباب ثم قال: ( يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه فأذن لي أن أفتح له، إن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد غير ذلك قتلناه بسيفه. فأذن النبي عليه الصلاة والسلام لـحمزة ففتح له الباب، فأمسك النبي عليه الصلاة والسلام بـعمر ونتله، وقال له: يا ابن الخطاب! أما آن لك أن تسلم؟! ما أراك فاعلاً حتى ينزل الله بك قارعة، فقال له عمر رضي الله عنه: جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله )، فصار عمر رضي الله عنه من خير عباد الله المؤمنين القانتين، فنفعه الإنذار.

ومثله أيضاً ما كان من شأن خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و سهيل بن عمرو ، بل وما كان من شأن عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن أمية وكذلك عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة و أبي سفيان بن الحارث هؤلاء جميعاً انتفعوا فيما بعد بالإنذار وأسلموا، فـ عكرمة بن أبي جهل لما فتحت مكة هرب وذهب إلى جدة، وركب البحر يريد أن يغادر الجزيرة العربية كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطربت بهم السفينة وعلتها الأمواج، وصار المشركون الذين فيها يسألون الله، كما قال ربنا: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[العنكبوت:65]، فهاهنا عكرمة رجع إليه عقله واستيقظت فطرته، فقال: إن كان لا ينفع في البحر إلا الله فلا ينفع في البر إلا الله، لله علي إن نجاني أن آتي محمداً وأضع يدي في يده ولأجدنه رءوفاً رحيماً، وفعلاً نجاه الله وجاء إلى المدينة وأسلم، وصار رضي الله عنه محباً للقرآن، كان يضع المصحف على عينيه ويقول: كلام ربي كلام ربي، ثم خرج مجاهداً في سبيل الله حتى اختاره الله في اليرموك شهيداً، في فتوحات الشام.

ومثله أيضاً صفوان بن أمية بن خلف كان عدواً لله ورسوله وقد هرب من مكة بعد الفتح فأرسل إليه النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمه وزوج أخته عمير بن وهب الجمحي ، أرسله إليه بعمامته، أي: بعمامة النبي عليه الصلاة والسلام، فأدركه عمير وقال له: يا صفوان ! جئتك من عند خير الناس وأبر الناس وأوصل الناس، ارجع إلى مكة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنك شهرين، يعني: ترجع إلى مكة وعندك حق اللجوء شهرين اثنين، وأخرج إليه عمامة النبي عليه الصلاة والسلام على أنها أمارة الأمان، فرجع صفوان ودخل مكة وهو راكب جواده، فرحب به النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: ( انزل أبا وهب ! فقال له: يا محمد! زعم رسولك أنك قد أمنتني شهرين؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أربعة )، يعني زاده شهرين، ( انزل أبا وهب ! )، فنزل صفوان بن أمية وبقي في مكة وهو كاره للدين وكاره للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما كان يوم حنين، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج لغزو ثقيف استعار من صفوان أدرعاً، فقال له صفوان : أغصباً يا محمد؟! أي: أنت تريد أن تأخذها مني بالقوة؟ قال: ( بل عارية مستردة )، وخرج صفوان مع جيش المسلمين وهو على شركه، وفي أول الأمر اضطربت صفوف المسلمين كما قال ربنا جل جلاله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ[التوبة:25]، حتى صاح بعض القرشيين فقالوا: بطل السحر اليوم، فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من ثقيف، يعني قال له: محمد صلى الله عليه وسلم أنا مختلف معه وكاره له، لكن القرشي أحب إلي من الثقفي، فالمسألة عنده قومية ليس فيها أي بعد ديني.

وبعد ذلك انتظمت صفوف المسلمين وصارت الكرة لهم، ونصرهم الله عز وجل، ثم لما وضعت الحرب أوزارها أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان مائة من الإبل ثم مائة ثم مائة، ورد إليه أدراعه وكان بعضها قد تلف، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الضمان، يعني: التعويض، فقال له صفوان : أنا اليوم في الإسلام أرغب، يقول صفوان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الناس إلي فما زال يعطيني ويعطيني حتى صار أحب الناس إلي عليه الصلاة والسلام.

فما معنى هذه الآية: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]؟ ومثلها في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، قال أهل التفسير: هي من العام المخصوص، والمراد بها من سبقت له الشقاوة في الأزل، يعني ربنا جل جلاله سبق في علمه أن بعض الناس لا يؤمن، كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97]، بعض الناس هكذا، يرى بعينيه ويسمع بأذنيه فلا يزداد إلا كفراً والعياذ بالله، فالآية ليست على عمومها، وإنما هي مخصوصة بمن سبقت له الشقاوة في علم الله الأزلي سبحانه وتعالى.

قال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11].

صفات من ينتفعون بالإنذار

يبين ربنا جل جلاله صفات من ينتفع بالإنذار، وينتفع بالوعد والوعيد، مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:45]، وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33]، وقوله: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].

‏ فأول صفة للمنتفع بالإنذار اتباع الذكر، والذكر هاهنا هو القرآن كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ[الحجر:9]، أي: القرآن، وقال: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ[الأنبياء:50]، وقال: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ[الأنبياء:10]، فالصفة الأولى بأن هذا الإنسان المنتفع بالإنذار قد اتبع القرآن، اتبع هديه فأحل حلاله وحرم حرامه.

الصفة الثانية: وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ[يس:11]، هذا الإنسان خشي الله تعالى، وتلاحظون ما قال سبحانه: وخشي العزيز، ولا قال: وخشي الجبار، ولا قال: وخشي المنتقم، ولا قال: وخشي القوي.. وإنما: وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ[يس:11]، الله أكبر! فهذا الإنسان يعلم بأن الله رحمن، وأنه جل جلاله قد سبقت رحمته غضبه، لكنه غره بالله الغرور، وبعض الناس قد يعصي ويسرف، فإذا قيل له: اتق الله، قال لك: الله غفور رحيم، صحيح الله غفور رحيم، لكن مغفرته ورحمته لا تجعلك تجترئ على معصيته، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6]، إذا كان كريماً رحيماً جل جلاله فهذا يحملنا على مزيد من خشيته ومزيد من عبادته.

بِالْغَيْبِ[يس:11]، هذه صفة ثالثة، بأن خشيته للرحمن جل جلاله ما كانت في الجلوة وأمام الناس.. لا، وإنما خشي الرحمن بالغيب، حتى وهو غائب عن أعين الناس لا يراه راء ولا يسمعه سامع، ولا يطلع عليه مطلع.. فحاله في الخلوة كحاله في الجلوة.

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

لأنك تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإذا خلوت بمحارم الله فلا تنتهكها.

بشارة الله لمن يتبع الذكر ويخشاه بالغيب

قال تعالى: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11]، أي: يا محمد! بشر هذا المتبع للذكر، هذا الذي يخشى الرحمن بالغيب بشره بمغفرة، والمغفرة هي: الستر، والستر مأخوذ من المغفر، والمغفر هو الغطاء الذي يوضع على الرأس، وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر؛ فحين تقول: يا رب! اغفر لي! معناه: استر ذنوبي، لا تفضحني يا ألله! ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح أنه يقول: ( اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأدم علي نعمتك وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة ).

فيقول الله لرسوله: بشر هذا المتبع للذكر الذي يخشى الرحمن بالغيب بمغفرة وهي ستر الذنوب، ولو أنك أذنبت في حق إنسان فستر عليك لكان هذا تفضلاً منه، والله جل جلاله لا يكتفي بالمغفرة، ولا يكتفي بالستر بل يعطيك الأجر؛ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11]، والأجر الكريم: رضوان الله عز وجل، وجنة عرضها السموات والأرض، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، الأجر الكريم: عيشة هنية وميتة سوية ومرد غير مخز ولا فاضح.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2768 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2765 استماع
تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع 2664 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2652 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2534 استماع
تفسير سورة يس [8] 2522 استماع
تفسير سورة يس [4] 2477 استماع
تفسير سورة يس [6] 2467 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2235 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2224 استماع