تفسير سورة النور - قصة الإفك [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

قالت عائشة رضي الله عنها: ( وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم ).

تقدم معنا الكلام في أن قولها: (لم يهبلن) يقال: هبل فلان إذا سمن وبدن وكثر لحمه، وعللت ذلك بأن النساء في ذلك الزمان كان أكلهن يسيراً، إنما كن يأكلن العلقة من الطعام.

قالت: ( إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جاريةً حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب ).

(فجئت منازلهم) أي: الأماكن التي نزلوا فيها، (فليس بها داع ولا مجيب) هذه العبارة تقولها العرب للدلالة على خلو المكان من الناس، أي أنها جاءت رضي الله عنها فوجدت الجيش كله قد رحل، ولم يبق منهم أحد.

قالت: ( فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة ).

تقول: (فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي) في هذا دليل على العمل بغلبة الظن، فالإنسان يعمل بما غلب على ظنه، حتى لو أنه حلف يميناً بناءً على غلبة ظنه فليس في تلك اليمين كفارة؛ لأنه ما تعمد كذباً، فهنا عائشة رضي الله عنها ظنت بأنهم إذا مشوا مسافةً فإنهم سيفقدونها؛ لأنه جرت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سافر معها فإنه يمشي إلى جوارها، أي أن دابته تمشي بجوار دابتها، يؤنسها ويتحدث معها، فغلب على ظنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سيفقدها ويرسل من يأتي بها، أو يرجع هو بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه ليصحبها.

قالت: ( فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي ).

فتيممت معناه أي: قصدت؛ لأن التيمم معناه القصد، وحتى العبادة التي هي الطهارة الترابية سميت تيمماً؛ لأن الإنسان يقصد إلى الصعيد الطاهر فيمسح به وجهه وكفيه، ( فتيممت منزلي الذي كنت فيه )، أي: قصدت إلى المكان الذي أقمت فيه قبل أن أذهب في قضاء حاجتي وطلب عقدي.

قالت: ( فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ).

(غلبتني عيني فنمت) نومها رضي الله عنها إما أن يكون سببه ما نزل بها من الغم، فإن مقتضى الغم أن يغلب الإنسان النوم، والغم هو: المكروه الذي قد وقع، أي ما يصيب الإنسان من حزن بسبب مكروه قد وقع، بخلاف الخوف، فإن الخوف هو الحزن الذي يصيب القلب من توقع مكروه سيحصل، وهذا يقتضي غلبة السهر، فهنا عائشة رضي الله عنها نامت؛ لأن غماً قد أصابها، هذا احتمال.

الاحتمال الثاني: أن يكون قد أصابها من برد السحر -البرد الذي يكون في آخر الليل- مع رطوبة جسمها، وصغر حجمها، فغلبتها عيناها فنامت، ويدل على ذلك قولها: ( فتلففت بجلبابي ونمت )، معنى ذلك أن الطقس كان يدعو إلى النوم.

والاحتمال الثالث: أن يكون هذا النوم رحمةً من الله بها؛ ليريحها من وحشة الوحدة بعد ذهاب الرفقاء، تصوروا امرأة عمرها خمسة عشر عاماً في برية في فلاة من الأرض، جاءت وقد وجدت رفقاءها قد ذهبوا، كيف يكون حالها من الوحشة والخوف؟ فالله عز وجل رحمةً بها أرسل عليها النوم، والنوم أمان من الله كما قال سبحانه: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11]؛ لئلا تجلس رضي الله عنها مستوحشةً متوجسةً خائفة تتلفت ذات اليمين وذات الشمال، فالله جل جلاله برحمته أرسل عليها النوم مع برد السحر من أجل أن تأمن حتى يأتي فرج الله.

قالت: ( وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ).

صفوان بن المعطل بفتح الطاء، ثم الذكواني، ينسب إلى بني ذكوان بن ثعلبة، وكان رجلاً ممن تقدم إسلامه، وأول مشاهده الخندق، وقيل: بل أول مشاهده المريسيع، وكان من فضلاء الصحابة وخيار الناس رضي الله عنه، ولذلك لما رماه المنافقون بهذه الفرية قال: والله ما كشفت كنف أنثى -أي ستر أنثى- في جاهلية ولا إسلام. وهذا من تمام عفته رضي الله عنه. وهذا الرجل المبارك ختم الله له بالحسنى، فقتل شهيداً في سبيل الله في غزوة أرمينيا في سنة تسع عشرة من الهجرة على أيام خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فهذا الرجل الذي لم يكشف كنف أنثى في جاهلية ولا إسلام كيف يتصور منه أن يفعل ذلك مع أم المؤمنين؟ حاشاه وحاشاها رضي الله عنه وعنها.

قالت: ( فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب ).

صفوان رضي الله عنه إما أنه كان يتخلف بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون دائماً في آخر الجيش، حيث إن الناس بعدما يرحلون ربما سقط من أحدهم سقاء، أو إناء، أو شيء من متاعه، فـصفوان رضي الله عنه يجمع تلك السواقط ثم يأتيهم بها، وإما أنه رضي الله عنه قد عرس في آخر الجيش، أي غلبته عيناه وكان نومه مستثقلاً، فلما أذنوا بالرحيل لم ينتبه ولم يستيقظ، فلما جاء رضي الله عنه من أجل أن يلحق بالجيش وهو يقود بعيره، رأى سواد إنسان، وفي بعض الروايات: ( أنه جاء فقال: يا نومان! )، يقول: يا رجل أنت نوام، وأكثر الروايات على أنه ما تكلم بشيء، وإنما اقترب فعرف أنها عائشة؛ لأنه كان يراها قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فعنده معرفة سابقة بـعائشة ؛ لأنه كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، ولذلك سيأتي معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب في الناس قال: ( والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً )، وهذه شهادة من الرسول عليه الصلاة والسلام لـصفوان ، قال: ( وما كان يدخل على أهلي إلا معي ). أبداً ما جاء إلى البيت وأنا غائب، وإنما كان يدخل على أهلي وهو معي، ( فلما عرف عائشة رضي الله عنها ما زاد على أن استرجع، قال: ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما خلفك يرحمك الله؟ إنا لله وإنا إليه راجعون )، والسيدة عائشة تحلف بالله أنه ما كلمها بكلمة سواها.

قالت: ( فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ).

وهذا يستفاد منه الاسترجاع عند المصيبة، سواء كانت المصيبة جليلةً أو حقيرة، قال الله عز وجل: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156]، ولذلك لو انكسر لك كوب، أو تعطلت لك سيارة، أو حصل شيء من الحوادث، أو أصابك ما تكره حسياً كان أو معنوياً يستحب لك أن تقول هذه الكلمة: إنا لله وإنا إليه راجعون، فـصفوان رضي الله عنه أحيا تلك السنة، وذكر الله بهذا الذكر.

قالت: ( فخمرت وجهي بجلبابي ).

(خمرت) بمعنى: غطيت، وسمي الخمار خماراً لأنه يغطي الرأس، وسميت الخمر خمراً لأنها تغطي العقل، وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أغلق بابك، واذكر اسم الله، وأطفئ سراجك، واذكر اسم الله، وأوكئ سقاءك واذكر اسم الله، وخمر إناءك -بمعنى غطه- واذكر اسم الله )، فقالت: ( فخمرت وجهي بجلبابي ) أي: غطيته.

قالت: ( والله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها ).

صفوان عليه من الله الرضوان فعل ما هو من شيم الرجال، امرأة وحيدة في فلاة من الأرض، وقد ذهب زوجها صلى الله عليه وسلم وأبوها رضي الله عنه، وذهب الناس جميعاً، فتصرف معها تصرف الرجل الشهم الكريم المسلم المبارك، (هوى) رضي الله عنه بمعنى أنه طأطأ، (وأناخ بعيره) بمعنى أجلسه، (ووطئ على يده) لئلا يتحرك، وحول وجهه رضي الله عنه من أجل أن تركب أم المؤمنين وتستمكن من ذلك البعير وتستقر دون أن تتحرج، وهذا الذي فعله صفوان عليه من الله الرضوان.

قالت: ( فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول ).

فانطلق يقود بها رضي الله عنها، ثم قالت: ( فأتينا الجيش وقد نزلوا وهم موغرون )، (موغرون) من الوغرة، والوغرة شدة الحر، ومنه يقال: أوغر فلان أي: دخل في وقت الحر، مثلما يقال: أصبح ويقال: أمسى، يقال: أوغر، ومعناه: جاء في وقت الحر، ومنه يقال: أوغر فلان صدر فلان، إذا ملأه غيضاً وحقداً، كأنه يتقد عياذاً بالله.

وهنا سؤال وهو: إن كان صفوان و عائشة -وحاشاهما- يريدان فاحشةً، أو فعلا فاحشةً فهل كانا سيأتيان إلى الجيش في نحر الظهيرة؟ فالإنسان الذي يريد شراً أو فعل شراً يتسلل لواذاً، ويعد العدة، ويهيئ المبررات، ويزور مقالةً في نفسه من أجل أن تكون عنده مسوغات الدفاع إذا اتهم؛ لكن صفوان و عائشة كانا من الغافلين عن الفاحشة، لا تخطر ببالهم أصلاً فضلاً عن أن يواقعوها، أو يهيئوا لها أسباباً، فالدليل على براءتهم عند كل ذي عقل بأنهم جاءا في هذا الوقت والناس كلهم مستيقظون، والذي يريد فاحشة -أجارنا الله وإياكم- فالغالب أنه يلتمسها بالليل، إذا أظلمت الدنيا، وهدأت الأصوات، واستكنت الحركات، واستطاع أن يتخفى وأن يدلس؛ لكن عائشة و صفوان عليهما من الله الرضوان قد جاءا في نحر الظهيرة والناس موغرون، وهم في شدة الحر.

قالت: ( فهلك في من هلك ).

( فهلك في من هلك )، وأول الهالكين عدو الله ورسوله عبد الله بن أبي ابن سلول عليه لعنة الله، فإنه قبحه الله قال كلمةً خبيثةً لا تخرج إلا من فم خبيث، قال لبعض من كانوا حوله: زوجة نبيكم تبيت مع رجل غريب، والله ما نجت منه ولا نجا منها. قال هذه الكلمة، وكما قال ربنا: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26]، أي الكلمات الخبيثات للرجال الخبيثين، تخرج منهم، كما قال بعضهم:

وكل إناء بالذي فيه ينضح.

وقال آخر: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه.

الإنسان الخمير السكير لو وجد إنساناً يحمل في كيس زجاجة فإنه يغلب على ظنه أنها خمر، وكذلك الإنسان الفاحش البذيء لو وجد إنساناً يتكلم مع امرأة يذهب باله إلى أنهما يتواعدان لفعل فاحشة، لأن هذا هو فعله، و عبد الله ابن سلول رجل داعر، كان عنده فتيات، وكان يكرههن على البغاء، من أجل أن يأتينه بالمال، كان رجلاً يتجر بالأعراض، ولذلك لا غرابة أن يظن هذا الظن الذي ينفس به عن حقده على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن سعد بن عبادة رضي الله عنه في موقف من المواقف قال: ( يا رسول الله! لا تجد عليه -أي: لا تغضب منه- فإن الله تعالى قد أتى بك، وإن قومه لينظمون له الخرز يريدون أن يتوجوه ملكاً على المدينة ).

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2767 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2764 استماع
تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع 2663 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2650 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2532 استماع
تفسير سورة يس [8] 2521 استماع
تفسير سورة يس [4] 2475 استماع
تفسير سورة يس [6] 2466 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2233 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2216 استماع