تفسير سورة النور - الآية [2] الرابع


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

قد تقدم معنا الكلام على بعض المسائل، فمن المسائل التي سبق بيانها: الكلام عن الإحصان، ومعناه في الشرع، ثم الكلام عن الحد الذي يلزم المحصن، وعرفنا أن الرجم ثابت بالقرآن المحكم، وبالقرآن الذي نسخت تلاوته وبقي حكمه، وبالسنة القولية، وبالسنة العملية، وبفعل الصحابة، وبإجماع المسلمين، وأن بعض العلماء رحمهم الله قال بالجمع بين الجلد والرجم؛ لظاهر حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقياساً للزاني المحصن على غير المحصن، فغير المحصن يجمع له بين الجلد والتغريب، قالوا: وكذلك المحصن يجمع له بين الجلد والرجم.

وجمهور العلماء على أنه يكتفى بالرجم، استدلالاً بالسنة العملية في فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز و الغامدية والمرأة التي زنى بها العسيف.

وعرفنا أن الرجم يكون بحجارة متوسطة، لا صغار فيطول تعذيبه ولا كبار فيفوت الغرض من الحد، وعرفنا كذلك بأن الرجم يشترك فيه كل الناس، بخلاف الجلد الذي يتولاه واحد، وعرفنا كذلك بأن الرجم لا يكون للحامل باتفاق أهل العلم؛ لأنه لا سبيل لنا على ما في بطنها، وقد قال ربنا جل جلاله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18].

وبقي معنا مسألة الوسيلة التي يثبت بها الزنا.

أقول: هناك وسيلتان مجمع عليهما بين أهل العلم:

الوسيلة الأولى: الإقرار

الوسيلة الأولى: الإقرار، والإقرار في اللغة: هو الاعتراف.

وفي الشرع: إخبار بحق للغير على النفس.

قال علماؤنا: والإقرار حجة قاصرة، ومعنى قولهم: هذا أن الإقرار لا يلزم إلا المقر، فلو أني ذهبت إلى القاضي فقلت له: لفلان علي ألف من الجنيهات، ولفلان على فلان ألف كذلك؛ فإن القاضي يأخذ بالجزء الأول، وهو إقراري على نفسي، كذلك لو أن الإنسان -أجارنا الله وإياكم- ذهب فأقر على نفسه بالزنا، قال: أنا زنيت؛ فإن القاضي لا يسأله ويقول له: زنيت بمن؟ لأن ماعزاً رضي الله عنه لما قال: ( يا رسول الله! زنيت فطهرني )، فلم يسأله الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول له: مع من؟ وهكذا لما جاءت الغامدية فقالت: ( يا رسول الله! إني حبلى من الزنا )، ما قال لها: من الذي زنى بك؟

ولو أن المقر تطوع من نفسه فقال: أنا زنيت مع فلانة؛ فيلزمه الجزء الأول وهو قوله: أنا زنيت، أما قوله: بفلانة فهذا لا يترتب عليه شيء إذا لم تقر هي، وكذلك المرأة لو قالت: زنيت مع فلان يلزمها الجزء الأول وهو قولها: قد زنيت، وأما قولها: مع فلان، فهذا فلان يسأل فإن أقر فحكمه حكمها، ولو أنكر لا يلزمه شيء.

إذاً: الإقرار حجة قاصرة، بمعنى أن حكمها لا يسري إلا على المقر.

تلقين المقر بالزنا الرجوع عن إقراره

قالوا: من الآداب الشرعية: أن يلقن القاضي المقر الرجوع عن إقراره، يعني: لو أنك قاض، فجاءك إنسان وقال لك: أنا زنيت؛ فليس من الشرع أن تمسك به وتقيم عليه الحد مباشرةً؛ بل تلقنه الرجوع، وتقول له: إن الله تعالى حيي ستير، يستر على عباده، وقد ستر الله عليك، وما شهد أحد عليك، فاذهب واستر على نفسك، وتب فيما بينك وبين ربك، وما إلى ذلك من الكلام، ويدل على هذا ( أن ماعز بن مالك رضي الله عنه لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة فقال: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فجاءه من قبالة وجهه، فقال: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، كأنه لا يسمع، فجاءه من قبالة وجهه فقال: إني زنيت فطهرني، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فجاء في الرابعة وأقر على نفسه: إني زنيت فطهرني، فقال له صلوات ربي وسلامه عليه: لعلك ما زنيت؟ لعلك قبلت؟ لعلك فاخذت؟ فقال: يا رسول الله! بل أتيت منها حراماً ما يأتيه الرجل من أهله حلالاً )، يعني: الشيء الذي يعمله الناس في الحلال أنا عملته في الحرام، وهذا كلام واضح ما يحتمل شيئاً، ( فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟ -يعني: أنت مجنون- فقام ناس من أهله فشهدوا ما به من جنون، فقال له صلى الله عليه وسلم: أسكران أنت؟ فقام ناس فاستنكهوه -يعني: شموه- فقالوا: يا رسول الله! ما شرب شيئاً، فقال: اذهبوا به فارجموه )، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لقنه الرجوع مراراً وليس مرةً واحدة.

كذلك لما جاءت الغامدية رضي الله عنها، وقالت: ( يا رسول الله! أصبت حداً فطهرني، فقال لها: لعلك ما زنيت، قالت: يا رسول الله! أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً ، إني حبلى من الزنا، فقال لها صلى الله عليه وسلم: اذهبي به حتى تضعيه؛ فجاءت به بعد حين ملفوفاً في خرقة، فقال: اذهبي به حتى تفطميه، فجاءت به بعد حين وفي يده كسرة خبز )، ولو أنها ما جاءت لما بحث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( فلما جاءت وفي يده كسرة خبز أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما في بعض الروايات: بأن يدفع الوليد إلى بعض أهلها )، دفعه إلى من يكفله، ومن يقوم عليه، ( ثم أمر بها فشكت عليها ثيابها -أو فشدت عليها ثيابها- ثم رجمت رضي الله عنها وأرضاها )، ورضي الله عن ماعز وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين.

إذاً من الآداب الشرعية: أن يلقن القاضي المقر الرجوع عن إقراره.

خلاف أهل العلم في الأخذ برجوع المقر بالزنا

هنا مسألة: اختلف أهل العلم إذا رجع المقر عن إقراره، هل يؤخذ برجوعه أم لا؟ يعني إذا أقر ثم رجع، جاء فأقر على نفسه بالزنا، فالقاضي حاول أن يصرفه، فأبى أن ينصرف، فأمر به القاضي أن يجلد مائة جلدة، أو أمر به أن يرجم إن كان محصناً، وفي هذه الحالة قال: أنا ما زنيت، أو بعدما بدءوا في جلده أو في رجمه قال: أنا ما زنيت؛ فهل يعتبر رجوعه؟

جمهور العلماء على أن رجوعه معتبر، وأنه يترك؛ لأن ( ماعزاً رضي الله عنه لما أذلقته الحجارة هرب، -أي: لما اشتد عليه الرجم هرب- فركض الناس خلفه، فلقيه رجل بلحي جمل فضربه فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه؟ )، يعني: يتوب من الزنا الذي حصل ( فيتوب الله عليه )، يعني: ليس من شرط قبول التوبة إقامة الحد، يمكن للإنسان أن يصيب حداً من حدود الله فيتوب فيما بينه وبين الله جل جلاله، نسأل الله أن يستر علينا في الدنيا والآخرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه؟ ).

أما الإمام مالك رحمه الله فيقول: لو رجع عن إقراره فإنه لا يترك؛ بل لا بد من أن يقام عليه الحد، فقيل له: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه؟ )، قال: المعنى: (هلا تركتموه ليتوب) يعني: من الهرب فيتوب الله عليه، يعني: يرجع فيقول: أقيموا علي الحد، هذا تأويل مالك رحمه الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه ).

إذاً: إذا رجع عن إقراره فإن رجوعه معتبر عند جمهور العلماء، وأما مالك رحمه الله فلا يرى ذلك.

إذاً قلنا: الوسيلة الأولى لإثبات الحد هي الإقرار، وهو حجة قاصرة.

الوسيلة الثانية: الشهادة

الوسيلة الثانية: الشهادة، والشهادة في اللغة: تطلق على الحضور، وعلى العلم، وعلى الإخبار، فشهد بمعنى حضر، وشهد بمعنى علم، وشهد بمعنى أخبر.

أما في الشرع: فهي إخبار بحق للغير على الغير.

الإقرار كما قلنا: إخبار بحق للغير على النفس، والشهادة هي إخبار بحق للغير على الغير.

وبالنسبة لهذه الجريمة جريمة الزنا فشهادتها مخصوصة؛ لأنها جريمة عظيمة، ويتعلق بها إقامة حد، وسقوط عدالة، ووصم بالفسق.

ويشترط في الشهود الشروط التالية:

الشرط الأول: أن يكونوا أربعة، مع أن عامة الحقوق تثبت بشاهدين، حتى القتل، فلو جاء شاهدان فشهدا على فلان بأنه قتل فلاناً فإنه يكفي، وعندنا الحقوق المالية تثبت بشاهد ويمين المدعي، وعندنا بعض القضايا تثبت بثلاثة وهي التفليس، يعني: ناس يطالبونني بمال، فذهبت إلى القاضي فأقررت على نفسي بأني مفلس ما عندي شيء، فهذا الإقرار لا يقبل إلا إذا شهد ثلاثة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قبيصة بن المخارق رضي الله عنه، قال: ( ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا في قومه فيقولون: أصابت فلاناً فاقة )، فهنا التفليس لا بد فيه من ثلاثة شهود، أما هذه الجريمة جريمة الزنا فلا بد فيها من أربعة؛ لأن الله قال: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، فلا بد أن يكونوا الشهود أربعةً.

الشرط الثاني: أن يكونوا مسلمين، لا بد أن يكون الشهود الأربعة مسلمين.

الشرط الثالث: أن يكونوا ذكوراً.

الشرط الرابع: أن يكونوا عدولاً أحراراً، يشهدون في مجلس واحد، ويصفون الجريمة وصفاً دقيقاً، ويشهدون بأنهم قد رأوا هذا منه في ذاك منها، كالرشاء في البئر، أو كالمرود في المكحلة، وهذا طبعاً لا يتأتى إلا إذا كان بهيمة يأتي بهيمة في قارعة الطريق والناس ينظرون المهم، لا بد أن يكون الشهود أربعةً، قال الله عز وجل: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، ولا بد أن يكونوا مسلمين؛ لأن الله قال: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، والكافر غير مرضي، ولو فتح هذا الباب سيأتي أربعة كفرة ويشهدون على فلان اليوم ليرجم لكي ينتهوا منه، وغداً يشهدون على الثاني، وبعدها يشهدون على الثالث حتى يفنوا المسلمين جميعاً، فلا بد أن يكون الأربعة مسلمين، ثم لا بد أن يكونوا ذكوراً، كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله: مضت السنة ألا تقبل شهادة النساء في الحدود ولا في الدماء. وبعض الناس يظن أن هذا انتقاص من المرأة، وهو حقيقة مراعاة لطبيعتها؛ فإن المرأة يغلب عليها الحياء، ويغلب عليها الخوف، فلو خرجنا الآن -لا قدر الله- وإنسان يقتل إنساناً، فإن المرأة لو رأت هذا المنظر فإنها تغطي عينيها وتولول وتولي مدبرةً، وبعض الرجال أيضاً كذلك؛ لكن بعض الرجال قد يقف ويتفحص ويتأمل وما إلى ذلك، وكذلك المرأة لو أنها شهدت شيئاً قبيحاً كالزنا مثلاً والعياذ بالله، فإنها تستحي، ولن تستطيع أن تتبين أو تتفحص، وهو مراعاة لطبيعتها، وما جبلها الله عليه من الحياء والخفر وما إلى ذلك، فلا بد أن يكونون الشهود أربعةً مسلمين ذكوراً عدولاً، والعدول: ناس عندهم صدق، وعندهم أمانة، وعندهم خلق، وعندهم ديانة، فلا يكون الواحد منهم فاسقاً.

ولذلك يمكن أن نعرف العدل في أدنى درجاته: أنه من كان سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة.

وأما العدل في أعلى درجاته فيمثله رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان أعلم الناس بالله، وأخوف الناس من الله، وأكرم الناس، وأجود الناس، وأطيب الناس عليه الصلاة والسلام، وأعظم الناس زهداً وتواضعاً وشجاعةً وبراً وعدلاً وحكمة، هذه هي أعلى الدرجات، وبعد ذلك العدول يتفاوتون في درجاتهم، وأقل شيء من أجل أن يكون الإنسان عدلاً أن يكون سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة.

ومعنى (من أسباب الفسق) أي: من فعل الكبائر، فلو أن إنساناً يزني فليس عدلاً، ولو أن إنساناً يسرق فليس عدلاً، ولو أن إنساناً كان فاحشاً وبذيئاً وكلامه قبيح دائماً فلا يكون عدلاً، أو يأكل أموال الناس بالباطل فليس عدلاً، فهذه كلها من أسباب الفسق.

وأما (خوارم المروءة) فهذه تختلف من مصر إلى مصر، ومن عصر إلى عصر، ففيما مضى كانوا يذكرون من خوارم المروءة كون الرجل يسير حاسر الرأس، أي يمشي وليس على رأسه شيء، وهذا الآن كثير عندنا، وليس عيباً، بل قد يكون القاضي نفسه حاسر الرأس في حالات كثيرة جداً، فالآن هذا ليس من خوارم المروءة.

وأيضاً فيما مضى كانوا يذكرون أن من خوارم المروءة الأكل في السوق، والآن قد يضطر الإنسان أحياناً أن يأكل في السوق. وكانوا أيضاً يذكرون أن من خوارم المروءة نتف اللحية، ومد الرجلين في مجلس الجماعة، وعدم إقامة الصلب في الركوع والسجود، وكذلك كانوا يردون شهادة من احتاج إلى التيمم فلم يحسنه، أي: يجهل كيفية التيمم؛ لأن عمره أصبح خمسة وأربعين سنة ولا يعرف التيمم، وهذا معناه أن ديانته فيها نقص.

قالوا: ولا تقبل شهادة من وجبت عليه زكاة فلم يعرف نصابها، ولا تقبل شهادة من يسمع الطنابير والمزامير، وليس الذي يغني؛ بل الذي يسمع، فأقول: خوارم المروءة تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان.

إذاً: فلا بد أن يكون الشهود أربعة مسلمين، ذكوراً، عدولاً.

وأيضاً أن يكونوا مكلفين، فالشاهد لا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، فلو جاء صغير يشهد فإنه لا يقبل منه، ولو جاء مجنون أو مخبول فلا يقبل منه، بل لا بد أن يكونوا مكلفين، وكلمة المكلف معناها: توفر الشرطين: البلوغ والعقل، ثم لا بد أن يكونوا أحراراً، وهذا الشرط لا نقف عنده كثيراً؛ لأن الرقيق لا وجود له اليوم.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.