تفسير آية - النساء [92-93]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد:

يقول الله عز وجل في الآيتين الثانية والثالثة والتسعين من سورة النساء: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً[النساء:92-93].

سبب النزول في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً[النساء:92]:

أخرج ابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه قال: (كان الحارث بن يزيد من بني عمر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ، ثم خرج الحارث مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية).

وقيل: نزلت في اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما حين قتله المسلمون يوم أحد خطأً.

وفي قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً[النساء:93]:

أخرج ابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه: ( أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤمنه في حل ولا حرم، فقتل يوم الفتح )، قال ابن جرير : وفيه نزلت هذه الآية.

المعنى الإجمالي:

ما كان لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن إلا أن يقع ذلك خطأً من غير قصد الفعل أو الشخص، ومن وقع في القتل الخطأ فعليه عقوبتان؛ لأن فعله لا يخلو من تفريط وتقصير:

العقوبة الأولى: تحرير رقبة مؤمنة، أي: عتق عبد أو أمة من رق العبودية، سواء كان صغيراً أو كبيراً.

العقوبة الثانية: دية مدفوعة إلى أهل القتيل وهي مائة من الإبل أو ألف دينار ذهباً.

والعقوبة الأولى حق لله؛ لتكفير الذنب، والعقوبة الثانية حق لأولياء الدم؛ لتعويضهم عن قتيلهم، فإذا عفا أهل القتيل وتنازلوا سقط ذلك الواجب، وسمى الله هذا العفو تصدقاً من باب الترغيب فيه والحث عليه، فإن كان القتيل مؤمناً ولكن قومه محاربون، كما في حالة الحارث بن يزيد فليس على القاتل شيء سوى تحرير رقبة مؤمنة.

وإن كان القتيل من قوم معاهدين كأهل الذمة أو الهدنة، فلهم دية قتيلهم وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد القاتل رقبةً مؤمنة، كما هو الحال في زماننا هذا، أو وجدها ولكن لا يقدر على ثمنها، فينتقل إلى البدل وهو صيام شهرين قمريين متتابعين لا يتخللهما إفطار بغير عذر؛ تطهيراً له من التقصير الذي وقع فيه، وتوبة من الله عليه وكان الله عليماً بأحوال النفوس، حكيماً فيما شرع لها.

أما من يقتل مؤمناً متعمداً قاصداً للفعل، فقد ارتكب أعظم الذنوب بعد الشرك بالله، وقد توعده ربه بأربع عقوبات:

أولها: الخلود في نار جهنم.

ثانيها: الغضب. أي: الانتقام من الله.

وثالثها: الطرد والإبعاد من رحمته.

ورابعها: تهيئة العذاب العظيم له جزاءً وفاقاً.

وفي الآيتين الكريمتين لطائف:

اللطيفة الأولى: قال سيد قطب رحمه الله: فأما تحرير الرقبة المؤمنة، فهي تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة، وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام، وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس وشراء لخواطر المفجوعين وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول.

اللطيفة الثانية: قال الزمخشري رحمه الله: لما أخرج نفساً مؤمنة عن جملة الأحياء؛ لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار.

اللطيفة الثالثة: قال الشوكاني رحمه الله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ[النساء:92]: هذا النفي هو بمعنى المقتضي للتحريم، كقوله سبحانه: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ[الأحزاب:53]، ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبراً وهو يستلزم صدقه، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمناً قط، وقيل المعنى: ما كان له ذلك في عهد الله.

اللطيفة الرابعة: قال ابن عاشور رحمه الله: قوله: خَالِداً فِيهَا[النساء:93] : محمله عند جمهور علماء السنة على طول المكث في النار؛ لأجل قتل المؤمن عمداً؛ لأن قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا خلود في النار إلا للكافر، فتعين تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي.

قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :

ونحن لديه نسأل الله خلده يرد لنا ملكاً وللأرض عامراً

اللطيفة الخامسة: روى ابن جرير عن سلام بن أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا ابن عباس ! ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال ابن عباس : جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟! فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ( يجيء يوم القيامة معلقاً رأسه بإحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذاً صاحبه بيده الأخرى تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن يقول: يا رب! سل عبدك: علامَ قتلني؟ فما جاء نبي بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم ).

والأحاديث الثابتة في النهي عن قتل المؤمن كثيرة، منها:

ما رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة ).

وروى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء).

وروى الإمام أحمد عن معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً).

وفي سنن ابن ماجه : عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً على وجهه آيس من رحمة الله ).

قال ابن حجر رحمه الله في تخريج الكشاف: رواه ابن ماجه والعقيلي وابن عدي من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف.

وروى الترمذي و النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن ).

وفي الآيتين الكريمتين أحكام:

الحكم الأول: قتل المؤمن عمداً من كبائر الذنوب الموجبة لغضب الله ولعنته والخلود في جهنم، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محذرةً من هذا الذنب العظيم منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ).

وروى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن رائحتها لتوجد من مسيرة أربعين عاماً ).

قال الإمام الذهبي رحمه الله: فإذا كان هذا في قتل المعاهد وهو الذي أعطي عهداً من اليهود والنصارى في دار الإسلام، فكيف بقتل المسلم؟

الحكم الثاني: قال جمهور العلماء: للقاتل عمداً توبة، واستدلوا بعموم آيات القرآن، كقول ربنا الرحمن: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[هود:114]، وقوله: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ[الشورى:25]، وقوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48]، وقوله: يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً[الزمر:53]، قالوا: والجمع ممكن بين هذه الآيات وآية الفرقان التي فيها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ[الفرقان:68-70]، فيكون معناهما: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد السبب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه.

الحكم الثالث: حمل الجمهور الخلود في الآية على المكث الطويل؛ لما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خروج أصحاب الكبائر من أمته من النار، وهو معروف في كلام العرب كما قيل:

ألا لا أرى على الحوادث باقياً ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا.

الحكم الرابع: القتل العمد عند الجمهور هو: كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، مما يغلب على الظن وقوع القتل به، فلا يشترطون أن يكون القتل بمحدد كسيف وسكين خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله.

الحكم الخامس: القتل العمد يوجب القصاص والحرمان من الميراث، ويحصل به الإثم لفاعله.

الحكم السادس: القاتل خطأً تجب عليه الدية والكفارة، فإن تنازل أولياء الدم عن الدية تبقى عليه الكفارة.

الحكم السابع: الدية في القتل الخطأ تجب على العاقلة، وهم عصبة القاتل أو أهل الديوان، فإن عجزت العاقلة أخذت الدية من بيت المال، وهذا من قبيل المعاونة لا من قبيل تحميل الإنسان وزر غيره.

الحكم الثامن: الدية تورث كسائر المال، ويستحقها جميع الورثة، فعن عمر رضي الله عنه: (أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها من عقله، فقال: لا أعلم لك شيئاً إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه، فقال الضحاك بن سفيان الكلابي : كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم فورثها عمر رضي الله عنه).

الحكم التاسع: القاتل خطأً، إذا كان وارثاً للقتيل، لا يرث من ديته.

الحكم العاشر: أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل؛ لأن لها نصف الميراث ونصف الشهادة، أما القتل العمد بين الرجل والمرأة ففيه قصاص.

الحكم الحادي عشر: من لم يجد في الكفارة رقبة، فعليه صيام شهرين متتابعين، فلو أفطر يوماً بغير عذر انقطع التتابع، ووجب عليه أن يستأنف الصيام.

الحكم الثاني عشر: لا ينقطع التتابع بالمرض أو الحيض، واختلفوا في السفر، فقال مالك رحمه الله: وليس له أن يسافر فيفطر.

الحكم الثالث عشر: دية الكتابي عند الجمهور: نصف دية المسلم، ودية نسائهم النصف من ذلك.

نسأل الله عز وجل أن يعلمنا علماً نافعاً، والحمد لله أولاً وآخراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.