أسماء الله الحسنى - البارئ


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة, والنعمة المسداة, والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

الاسم السابع عشر من أسماء ربنا جل جلاله: البارئ. وهذا الاسم المبارك قد تكرر في القرآن ثلاث مرات:

في خواتيم سورة الحشر، قال تعالى: هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ[الحشر:24].

وفي سورة البقرة في موضع واحد مرتين، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[البقرة:54].

ومناسبة ذكر هذا الاسم دون غيره في هذا الموضع: أن بني إسرائيل قد أنجاهم الله عز وجل من عدوهم, وواعدهم جانب الطور الأيمن, ونزل عليهم المن والسلوى بعدما كانوا مستضعفين في الأرض قد تسلط عليهم فرعون يسومهم سوء العذاب, فجعلهم الله عز وجل سادة ممكنين, لكنهم لم يقابلوا نعمة الله بالشكر؛ ولذلك لما ذهب موسى لميقات ربه صنع لهم دجال يقال له: السامري عجلاً من ذهب، وقال لهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ[طه:88]. أي: نسي إلهه وذهب يبحث عنه.

وتبعه أكثر بني إسرائيل في عبادة هذا العجل فأخذوا يطوفون حوله، ويتمسحون به, ويدعونه ويرجونه.

قال تعالى: َوَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ[الأعراف:150], ثم بعد ذلك جاءت التوبة من السماء.

وكانت التوبة: أن يجلس كل من عبدوا العجل جلسة الاحتباء, ثم يقوم عليهم الذين لم يعبدوا العجل بالسيوف، وهم الذين ثبتوا على دينهم وصبروا على إيمانهم، وقال لهم نبي الله موسى عليه السلام: لعن الله من رفع يده, أي ليتقي بها السيف, لعن الله من حل حبوته.

وبدأ هؤلاء المؤمنون الذين لم يعبدوا العجل يقتلون هؤلاء العابدين للعجل، كما قال تعالى: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ[البقرة:54], أي: إخوانكم, أي: اقتلوا إخوانكم الذين عبدوا العجل؛ كما قال الله عز وجل: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ[الحجرات:11], أي: إخوانكم. وكما قال: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ[النور:61], أي: إخوانكم, فهاهنا قال لهم نبي الله موسى : فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ[البقرة:54], ثم بعد ذلك تضرع موسى إلى الله عز وجل بالدعاء، فرفع الله عنهم تلك الظلة التي أظلتهم في حالة القتل, وجعلها لمن قتل شهادة ولمن بقي توبة.

وقد ذكر موسى عليه السلام هذا الاسم المبارك: البارئ؛ من أجل أن يذكر بني إسرائيل بأن الذي برأكم أي الذي خلقكم جل جلاله هو المستحق للعبادة وحده.

وهذا العجل الذي عبدتموه هل يخلق؟ وهل يرزق؟ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا[طه:89]، وهذا كما قال إبراهيم عليه السلام لقومه: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[الأنبياء:66-67].

هذا الاسم المبارك مذكور أيضاً بصيغة الفعل في سورة الحديد في قول ربنا جل جلاله: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ[الحديد:22].

فما معنى هذا الاسم: (البارئ)؟

ذكر المفسرون في معناه أقوالاً أربعة:

القول الأول: أن البارئ هو الذي برأ الخلق فأوجدهم بقدرته؛ كما قال ابن جرير رحمه الله, فيكون معنى هذا الاسم هو معنى اسم الله: الخالق, والخالق هو الذي أوجد الخلق على غير مثال سابق, فالبارئ مساوٍ للخالق في المعنى.

القول الثاني: أن البارئ من برأ إذا فصل وقطع, أي: فصل الخلق بعضهم عن بعض وميزهم, فهذا طويل وهذا قصير, وهذا بدين، وذاك نحيف, وهذا أسود، وذاك أبيض، وهذا أحمر, وميزهم في ألسنتهم, وفي ألوانهم, وفي طبائعهم, وفي مواهبهم, وفي خصائصهم. فهذا هو معنى اسمه جل جلاله: البارئ.

القول الثالث: ذكره الزمخشري فقال: البارئ: هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت, واستدل بقول الله عز وجل: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ[الملك:3], أي خلقهم خلقاً مستوياً, ليس فيه اختلاف ولا نقص ولا تنافر ولا عيب ولا خلل, بل هم أبرياء من ذلك كله.

القول الرابع: البارئ أي الذي خلق خلقه من تراب, فأصلهم من البري الذي هو التراب.

فهذه أربعة معان:

الأول: الذي أوجد خلقه على غير مثال سابق.

والثاني: من برأ إذا فصل, أي: فصل خلقه وميز بعضهم على بعض.

والثالث: الذي خلق خلقه بريئاً من التفاوت فلا نقص ولا عيب ولا خلل ولا تنافر.

والرابع: الذي خلق خلقه من تراب؛ لأن كلمة البري معناها التراب.

لكن لو قيل بأن البارئ هو نفس معنى الخالق فلا يستوي الأمر؛ لأننا نوقن بأنه ليس في أسماء الله عز وجل اسمان متطابقان, بحيث يغني أحدهما عن الآخر, بل كل اسم يفيد معنى جديداً فهاهنا البارئ يمكن أن نقول: إنه الذي خلق خلقه بريئاً من التفاوت, والذي خلق خلقه من تراب, والذي خلق خلقه مستوياً لا تنافر ولا خلل ولا عيب ونحو ذلك من المعاني.

ولو تأملنا في برئه جل جلاله لخلقه فإنك سترى عجباً، فمثلاً تجد نبتتين في أرض واحدة ولكنهما مختلفتان في الطعم تماماً, كما قال الله عز وجل: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ[الرعد:4].

وهكذا لو تأملت في خلق الله عز وجل, فمثلاً الدودة، ستجد أن دودة القز تخرج لنا الحرير, وبالمقابل دودة القطن مهلكة, وهذه دودة وتلك دودة.

ولذلك كما قال بعض العلماء: افتخرت العنكبوت والدودة، فقالت لها: أنت تنسجين وأنا أنسج.. فقالت لها الدودة: نسجي رداء الملوك, ونسجك شبكة الذباب، مع أن هذا نسج وذاك نسج.

المقصود بأن الله عز وجل بارئ بمعنى أنه أوجد على ما يشاء.

أسأل الله أن يزيدنا إيماناً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.