أرشيف المقالات

أول مرة أركب الطائرة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
أول مرة أركب الطائرة
 
ركب بجانبي..
وأخذ يصرخ ويصيح: أين المضيفة؟ فجاءت المضيفة فنظر إليها وزاد تذمره..
لماذا أعطونا هذه المضيفة المكشرة الوجه، العابسة، الكالحة..؟.
إن مضيفات الطائرة الفلانية ومضيفات الطائرة الفلانية ومضيفات الطائرة الفلانية...-وسمى دولاً عربية- يكرمونك بمضيفة تهتز أمامك رونقاً ودلالاً وتأخذك بيدها وتجلسك على مقعدك وتقدم لك وردة ثم تقوم على ضيافتك مبتسمة لك..
وتبتسم لك طول رحلتك..
 
نظرتُ إليه وتأملت ملامح وجهه فإذا به قد اشتعل رأسه شيباً، يزحف عمره للستين..
فقلتُ له ياعم: وإن كنتَ أكبر مني سناً وتبدو عليك ملامح الدبلوماسية في لباسك وأناقتك لكن دعني أقول لك...
نحن نعصي الله في الأرض أتريدنا أن نعصيه كذلك في الهواء..
 
سكتَ إثر هذه الكلمة وكأنه يقول عجيب ما سلمنا من هؤلاء حتى في الجو...
التفتُّ إلى الذي عن يساري وإذا به يكفكف دموعه..
شاب في الثلاثينيات من عمره قاصداً ماليزيا لزيارة أخته عرفت أنه أول مرة يركب الطائرة..
فهزه الخوف من الله..
لتتساقط عبراته.
الموقف كان لدي صعباً..
عن يميني دبلوماسي يركب الطائرة كل أسبوع وينظر إلى المضيفة الفاتنة التي تتعطف في مشيتها وملابسها ترسم جسمها ولم يرضَ بذلك، بل يريد أن ترحب به ترحيباً خاصاً أكثر من ذلك..
وعن يساري شاب كانت تتقطع نفسه أثناء كل زفرة لطائرتنا التي بدا عليها التعب وأكل الزمان عليها وشرب...
تأملتُ في حالي فإذا بي في الجو الرفيع على بعد أكثر من ثلاثين ألف قدم..
 
لأول مرة أركب الطائرة
أدركت حفظ الله لهذا الإنسان وعنايته به ولطفه عز وجل..
من الذي يمسك الطير في الهواء..؟
من الذي يحفظ اتزانه وهو يتنقل من عالم إلى عالم؟

سألني صديقي المسافر إلى لندن أنت تحفظ ما يقرب من ستة آلاف بيت أسمعنا..
التفتُّ إليه وكان خلفي فقلت له: لقد نسيت كل بيت وما عدت أذكر إلا قول الشاعر:






ونركب الجو في أمن وفي دعة
وما سقطنا لأن الحافظ اللهُ






 
للحفظ نتذكر فائدة حزام الأمان، وكابح السرعة، والبالون الواقي، والمظلات الجوية، وننسى من يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا بل وأرسل ملائكة حفظة مهمتهم حفظنا ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11] ، ﴿ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [الطارق: 4]..
 
في هذه اللحظات التي أنت تقرأ فيها مقالتي تذكر أنه حافظ لعقلك من الجنون، وقلبك من التوقف، وعينيك من العمى، وأذنيك من الصمم، ولسانك من الخرس، وشرايينك من الانسداد، ودماغك من الجلطة، وكبدك من التليف، وأطرافك من الشلل، وكليتيك من الفشل، ورأسك من الصداع، وعظمك من الكسر، ولحمك من الورم، وأمعاءك من القولون، وأعصابك من الانهيار.
تذكر أنه حفظك في بطن أمك وأنت لا تملك حولا ولا قوة ويحفظك الآن وفي كل آن.
 
إن الله خلق الخلق وجعل لكل مخلوق سلاحا يدافع به عن نفسه ليكون محميا به فخلق سرعة الجري لدى الأرنب ليكون سببا في حفظها، وخلق الضخامة في الفيل، والسم في الثعبان، والصعقة الكهربائية في فانوس البحر، والتلون في الحرباء، والقدرة على التحليق في الهواء عند الطير، والقرون عند وحيد القرن وحفظ بعضها بالتسلق وبعضها بالمراوغة...وهكذا..
 
إنك في مأمن من النوازل عندما تستودع الله جهاتك الست..
اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي..
 
أول مرة أركب الطائرة..
أدركت حلم الله على هذا الإنسان المتغطرس في الأرض فهو يذنب ويتكبر ويعصي ثم الله تعالى منعم عليه بأنواع من النعم سخر له ما في السماوات وما في الأرض والهواء بينهما وهو مع ذلك بعيد كل البعد عن مولاه..
ولو شاء الله لأهلكه بذنبه بأن يسلط عليه عذابا من السماء أو زلزالا في الأرض لكنه عز وجل حليم على عباده.






والناس يعصونه جهراً فيسترهم
والعبد ينسى وربي ليس ينساه






 
أول مرة أركب الطائرة..
لأول مرة ينتابني فيها الشعور بالخوف الذي تملك نفسي وبالخطر الداهم الذي كنت أشعر به أنه سيلتهمني في أي لحظة وأني سأسقط من جو السماء حالا...
فمنذ أن أخذنا مقاعدنا قال الكابتن في مكبرات الصوت وأشار علينا بربط أحزمة الأمان ونبهنا على مخارج الطوارئ وكيفية استخدام بعض الحلول عند الطوارئ فأسرعت ونبضات قلبي أسرع لاستخدام حزام الأمان ولِتحسس مخارج الطوارئ وهي أبواب تفتحها بسرعة ثم تنجو بنفسك والنجاة في الطائرة عند حدوث شيء -لا قدر الله- أن تُخلي الطائرة بسرعة، لأن البقاء فيها وهي تحمل الوقود والكهربائيات يعرضك لانفجارها والاحتراق فورا..
إذن مَخارج الطوارئ يعني أن تَثِبَ من جو السماء فلا أمان لك حيئنئذ في الطائرة..
فالنجاة في الطائرة هو الهلاك بعينه..
 
فكنتُ في قمة الخوف والوجل، ونحن بين السماء والأرض تعرضت طائرتنا لمطبات هوائية والمطبات الهوائية هي مثل المطبات الأرضية سواء بسواء فرأيت وسمعت وشعرت بالخطر الداهم الذي ليس بيني وبينه فاصل..
وكنت أقول في نفسي لو نزلت سالما آمنا فليس بعد هذا خطر..
بينما قد يموت الإنسان على فراشه كصديقي الذي أغلق بابه قبل سفري ونام نوما عميقا ولم يقم بعدها.
 
بقيت أستعرض مشهد الهلاك في الطائرة فذكرت أن حوادث السيارات أكثر من حوادث الطائرات بل لا يوجد مقارنة أصلاً..
وقد مات في هذا العام أكثر من مليونين ونصف المليون بالسرطان، ومليون ونصف بسبب التدخين، وأكثر من ثلاثمائة وثلاثين ألف حالات انتحار، وأكثر من ثلاثمائة ألف بالملاريا، وأكثر من سبعمائة ألف بسبب المشروبات الكحولية، وأكثر من أربعمائة ألف بسبب حوادث السير البري وسجلت بالعموم ثمانية عشر مليون حالة وفاة في العالم هذا العام وبالمقابل فمن مات في حوادث الجو أعداد لا تكاد تذكر..
فلا تخف كما خفتُ أول مرة ركبتُ الطائرة.
 
أول مرة أركب الطائرة..
أدركت مدى العلم الذي وصل إليه هذا الإنسان وأن الله ألهمه وفتح عليه وسخر له ما في السماوات وما في الأرض ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5].
فلو قيل لرجل قديما في عصر الجاهلية إن هذا الإنسان سيركب الجو ويطير لَعُدّ هذا القائل مجنونا لكن عندما أعمل الإنسان عقله وفكر واخترع وأبدع جاءه التوفيق والفتح والإلهام من الله تعالى.
 
أول مرة أركب الطائرة..
أدركت كم نحن مقصرون في شكر الله تعالى على ما أنعم به علينا من نعم ظاهرة وباطنة فالمسافة التي كنا نقطعها شهراً من صنعاء إلى جدة..
أصبحنا نقطعها في ساعة وربع الساعة تقريبا فالأصل أن نشكر الله تعالى المنعم المتفضل الجواد الكريم المعطي الوهاب..
لكن تجد بعض الناس يجاهر الله بالمعاصي حتى في الطائرة من مشاهدة للحرام ونظر للحرام وربما أكل وشرب للحرام، وفعل للحرام..
أهذا رد الجميل يا معشر البشر؟
إن خير الله إلينا نازل وشرنا إليه صاعد..
ما شكرنا الله حق شكره على هذه النعم.
 
أول مرة أركب الطائرة..
أدركت أنه لا شيء مستحيل فبإمكانك أيها الإنسان أن تبدع وتنجح وتتفوق وتخترع وتبتكر فكما اخترع غيرك ركوب الجو بإمكانك أن تخترع ما يقرب من اختراعه أو ما يضاهيه أو ما يفوقه فلا تستسلم في الحياة للأراجيف والكسل والخمول.
إني أعرف شابًّا عزم على حفظ تحفة الأطفال ثم تكاسل وإلى الآن كلما وجدني يطلب مني طريقة لحفظها وهذا حاله منذ عشر سنوات..
ولو كان عنده جد وعزيمة لحفظها وحفظ معها الجزرية وسلم الوصول وألفية ابن مالك واحمرار ابن بونا ومراقي السعود وألفية العراقي وذلك في خمس سنوات..
 
أيُّ كسل وخمول وفتور أصيبت به أمتنا..؟
وصل القوم سطح القمر ولا زلنا بين الحفر.
لا بد من نهضة شاملة في المجالات العسكرية والاقتصادية والصناعية وفي مجال الطاقة والانتاج إذا ما أردنا أن نقود القافلة ونوجه الركب.
 
أول مرة أركب الطائرة..
تواردت عمليات العصف الذهني على ذاكرتي عن أحداث قرأتها لكتاب وأدباء عن ركوب الجو وكان منهم من كان ركوب الطائرة بداية تحوله في الحياة..
بل كان منهم من أسلم واستسلم لله وأصبح رجلاً آخر وذلك بعد ركوب الطائرة وأذكر أن خمسة عشر ملحداً كانت رحلتهم الجوية قد أطلقوا عليها "رحلة لا إله!"، لكن كادت أن تحترق طائرتهم بسحابة مغناطيسية مكهربة فأصبحوا بدون شعور يهتفون بكلمة التوحيد وأسلموا فنجوا بأعجوبة.
 
ففي الجو تشعر وأنت في عين الخطر بالاضطرار فيستجيب لك تعالى..
وفي كتاب"لا تحزن" ذكر الدكتور عائض القرني أنه ركب الطائرة ذات مرة فتوقفت عجلاتها عن الهبوط ودارت أكثر من مرة وارتفع بكاء النساء والصبيان وكثر الخوف والهلع ورأوا الموت رأي العين وجأروا إلى الله بالدعاء الحار ثم بعد محاولات هبطت الطائرة وأشرقت البسمات على الوجوه وعادوا للحياة من جديد..
ومثل هذه الرواية كتب الأستاذ المبدع حذيفة العمقي في أحد كتبه قصة الموت الذي رآه في أحد أسفاره وبقي يتساءل كيف لو مت في تلك الرحلة..؟
 
وقد تحدث علي الطنطاوي في كتابه "نور وهداية" عن صديقه الذي كان مقيما في الرياض سنة1382ه فعرض له عمل ضروري اقتضى سفره إلى لبنان فحمل حقائبه وأمتعته وذهب إلى شركة الطيران فسلم أمتعته ورجع لينام ويستيقظ قبل الفجر ليسافر ورجا أمه أن توقظه فلم توقظه حتى بقي لموعد إقلاع الطائرة ثلاثة أرباع الساعة فقام مستعجلا واكترى سيارة وحث السائق على السرعة على أن يضاعف له الأجر وجعل يدعو الله مبتهلا أن يلحق الموعد فوصل قبل طيران الطائرة بربع ساعة فدخل المقصف وأراد أن يرتاح فغفت عينه ونام، ونودي من مكبر الطائرة بصعود الطائرة فلم يسمع وانتبه بعد علو الطائرة في الجو وكان علي الطنطاوي يجلس إلى جانبه، فجعل الرجل يعجب كيف أنه دعا دعاء المضطر الملهوف المخلص فلم يستجب له، فجعل الطنطاوي يهون عليه الأمر ويصبره ويذكره أن الإنسان أحيانا يدعو بالشر دعاءه بالخير والله أعلم بمصلحته منه ولكن الرجل أهمه الغضب والحزن عن حديث الطنطاوي..
ثم إن طيارة الشرق الأوسط التي فاتته في يومه ذلك وحزن عليها سقطت في ذلك السفر وهلك كل من كان فيها..
 
أعرف داعية شهيراً اقترب عمره من الثمانين أراد السفر في الثمانينيات من دولة إلى أخرى وحجز للسفر وأخبر برقم مقعده في الطائرة ثم إنه حصل له ظرف طارئ فتأخر عن الرحلة وكان الذهول الذي اعتراه عندما علم أن الطائرة فجرت واحترقت..
 
فإن كتب الله لك النجاة فلن يصيبك سوء ولو ركبت ثبج البحر..
أو علوت فوق السحاب بينما تجد آخرا لربما حدد مكان موته والمكان الذي سيدفن فيه لكن الله هو من يقلب الأمور ويدبر أحوال هذا الكون وقد كان ﺃﻛﺒﺮ ﺃﻏﻨﻴﺎﺀ ﻟﺒﻨﺎﻥ اميل البستاني له طائرة خاصة يطير حيث يريد فأﻧﺸﺄ ﻟﻪ ﻗﺒﺮﺍً ﻓﻲ ﺃﺟﻤﻞ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﻄﻠﺔ ﻋﻠﻰ ﺑﻴﺮﻭﺕ فوقعت ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤﺮ...
وﺩُﻓِﻌَﺖ ﺍﻟﻤﻼﻳﻴﻦ لاﻧﺘﺸﺎﻝ ﺟﺜﺘﻪ، ﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳُﻌﺜَﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ! بعد جهد ﻋﺜﺮﻭﺍ ﻋﻠﻰ حطام ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﻩ ﻓﻘﻂ، ﻭﻟﻢ يعثروا على جثته ليدفنوها ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﺍﻟﺬﻱ جهزه!
﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾[لقمان: 34].

أساتذتي القراء: الكابتن يأمرنا باستخدام حزام الأمان فقد أوشكنا على الهبوط في مطار الخرطوم بعد رحلة جوية دامت ثلاث ساعات من مطار سيئون الدولي...أستودعكم الله على أن ألقاكم في مقال آخر..
متعكم الله بالصحة والعافية والسلامة...

شارك الخبر


Warning: Undefined array key "codAds" in /home/islamarchive/public_html/templates_c/24203bf677d3c29484b08d86c97a829db7a16886_0.file.footer.tpl.php on line 33

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchive/public_html/templates_c/24203bf677d3c29484b08d86c97a829db7a16886_0.file.footer.tpl.php on line 33
مشكاة أسفل ٢