حياض النجاة


الحلقة مفرغة

الحمد لله، قضى ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه، لا مانع لِمَا أعطاه، ولا رادَّ لِمَا قضاه، ولا مظهر لما أخفاه، ولا ساتر لما أبداه، ولا مضلَّ لمن هداه، ولا هاديَ لمن أعماه، سبحانه خلق آدم بيده وسوَّاه، وأمره ونهاه، ثم تاب عليه ورحمه واجتباه، حاله ينذر من سعى فيما اشتهاه. طرد إبليس فأصمَّه وأعماه وأبعده وأشقاه، وفي قصَّته نذير لمن خالف الله وعصاه.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أخذ موسى من أمِّه طفلاً ورعاه، وساقه إلى حِجْر عدوِّه فربَّاه، وجاد عليه بالنِّعم وأعطاه، فمشى في البحر وما ابتلَّتْ قدماه، وأهلك عدوَّه بالغرق وَوَارَاه، خرج يطلب ناراً فشرَّفه الله وناداه. إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي [طه:14].

حمداً لمن نبيه قد بعثا     فدوَّخت بعوثه مَن قد عثا

ثم الصلاة والسلام ما حكت     حمائم حمائماً إذا بكت

وهزَّت الغصون أنفاس الصبا     فهيَّجا صبابة لمن صبا

وَلَمَعَ البرق إذا الغيث وكف     وطاف بالبيت منيب واعتكف

على أجلِّ مُرْسَلٍ وآله     وصحبه وتابعي منواله

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ [آل عمران:102].

عباد الله: إنَّ النَّاظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجباً، يجدهم غادِين جادِّين في بيع أنفسهم؛ ففائز رابح، ومَغْبُون خاسر، فرابح قد رجح ميزانه، وخاسر أَوْبَقَهُ عدوانه، رابح دان نفسه وحاسبها، وعمل لما بعد الموت فزكا، وصعد بها وارتقى، وخاض المتاعب وركب الأهوال وانتقى، وإلى العلياء ارتقى، فكان الكيِّس العاقل الفاطن ذا الذكا، خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فآفة المرء الهوى، فمن علا على هواه عَقْلُه فقد نجا، أعتق نفسه وشرَّفها وزكَّاها، وقد أفلح من زكَّاها.

فأَرْبِحْ بها من صَفْقَةٍ لمبايع     وأَعْظِمْ بها أعظم بها ثمَّ أعْظِمِ

وخاسر نَسِيَ مصيره فانغمس في المحرَّمات على غير بصيرة، وأقبلَ على الدنيا لاهِثاً في شَرَهِ بهيمة، يجيد السباحة من أجلها في كل بحر، ويلبس لها أكثر من ثوب، ويمثِّل بها أكثر من دور، ويتكلم لها بأكثر من لسان، ويركب لها كل مطيَّة.

باع دينه بعَرَضٍ منها، وهبط والهبوط هيِّن، والهابط لم تكن نفسه يوماً أَبِيَّةٌ، أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني حتى داهمته المنيَّة.

فَهَمُّه في اليوم أكلٌ وكِسَا     وهَمُّه بالليل خَمْرٌ ونِسَا

خائب عاجز خائر بَائِر، خسر نفسه فأوبَقَهَا وأهلكها، وبثمن بخسٍ باعها، فيا لها من رزيَّة! دسَّاها وقد خاب من دسَّاها.

فكان كفاقئ عينيه عمداً     فأصبح لا يضيء له نهار

بل كان كالحمار لا يُذكى     فيدفع الجوع ولا يُزكَّى

شاد للأولى فهلا     كان للأخرى يشيد

مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ [فصلت:46] لا نعجب من خطئه واتباع هواه معشر المؤمنين؛ إذ لا عجب ولا غرابة أن يخطئ الإنسان، وتصدر منه الإساءة والسَّفه والجهل والظلم، فكل ابن آدم خطَّاء، والمعصوم من عصمه الله، لكن العجب منه يوم يدرك خطأه وإساءته وسفهه وجهله وظلمه، ثم يظل متلبساً بذلك مصرّاً عليه، آمناً مكر الله به ووعيده له: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] يقول ابن القيم رحمه الله: الذنب بمنزلة شرب السمِّ، والتوبة تِرْيَاقُه ودواؤه، والطَّاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة يتخللها مرض وشرب سمٍّ، وصحة يتخللها مرض وشربُ سمٍّ خير من بلاء دائم.

من حاد حب الكمال تعنُّتاً     يتبدل الأدنى ويبقى الأحقرَا

فاغتنم حياتك عمرك فلكل غادٍ روحة ولكل وضَّاءٍ سِرَار .

يا من بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك! عودة عودة إلى أفْيَاء الطاعة، الباب مفتوح، والظل والرخاء من وراء الباب فالزم سدة الباب، وقم في الدُّجا، واصرخ بلسان الذُّل، مع وجيف القلب، وواكف الدَّمع: يا أيها العزيز! مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ.

هيا فالنَّفَس يخرج ولا يعود، والعين تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يديْ العزيز الحميد.

فلابد من ساعة طاهرة      تكون الرءوس بها فاغرة

إذا استوفت النفس مكيالها      وزُلْزِلت الأرض زلزالها

فما لك من فرصة للإياب      ولن يرجع العمر بعد الذهاب

تقدم فما زال للصلح باب      وبالموت يغلق باب المتاب

وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيماً [النساء:27]

رِيدِي حياض النجا يا نفس واطَّرحي     حياض حبِّ الهوى للشاء والنَّعِمِ

بادر قبل أن تُبَادَر! بادر بالإقلاع عن الذنب بشعور بالألم، يقضُّ المضاجع، ويؤرِّق المنام، ويقرِّح الجفون، ويزرع في القلب الحسرة والندامة، مع عزم أَكيد على استئناف حياة صالحة نقية تقية طاهرة.

بادر فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى توبة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن [النساء:18].

بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب، فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يُحال بين صاحبه وبين قلبه، وقد يُسلَب إيمانه فبادر.

أرأيت لو أن رجلاً أُمِرَ باقتلاع شجرة باسقة كبيرة أصولها وهو شاب، فرآها كبيرة فهابها، وقال: فلندعها إلى الغد، فلمَّا جاء الغدُ قال: لندعها إلى العام القادم ... إلى الذي يليه ... إلى الذي يليه ... فإنه بمرور الوقت تضعف قوته ويخور، ثم لا يستطيع بعدها قلعها، فما لا تقدر عليه في الشباب لا تقدر عليه -غالباً- وقت المشيب.

فمن العناء رياضة الهَرِم، ومن التعذيب تهذيب الذيب، والقضيب الرطب يقبل الانحناء، فإن جفَّ وطال عليه الزَّمن صعب واستعصى، والغصن أقرب تقويماً من الخشب وما عجزت عنه اليوم قد تكون غداً أشد عجزاً.

فلا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ     لعل غداً يأتي وأنت فقيد

فبادر! يُفعل الذنب فَيَخْلَقُ الإيمان في القلب كما يَخْلَق الثوب، ثم يُغلَّف بالرَّان فيذبل، ثم يقسو: فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم من ذِكْرِ اللهِ [الزمر:22] ثم يموت، وعندها يُحْرم الإنسان لذَّة مناجاة الله، فعباداته بعد ذلك آليَّة لا روح فيها، لا تزكِّي نفسه، ولا تطهِّر رجْسَه، تلك عقوبة وبلية أي بلية، ثم ينسى القرآن إن كان معه شيء من القرآن، ثم يُهْمِل الاستغفار، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به، كلما حاول أن يعود أُرْكِسَ في ذنبه مع همٍّ وغمٍّ وحزن وخوف وذلٍّ لا يفارقه، أبى الله إلا أن يذلَّ مَنْ عصاه.

قصة رجل ارتد عن دينه

ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية ، في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي -بتصرف- قال: وفيها توفي ابن عبد الرحيم -قبَّحه الله- هذا الشقي، كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلمَّا كان في بعض الغزوات، والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم؛ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، ما غضَّ بصره، والله يقول: قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30] أتْبَع النَّظْرة النظرة، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وكم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل والآلام والحسرات.

كان كمن أدخل في جحر يدا     فأخطأ الأفعى ولاقى الأسْوَدَا

نظر فهَوِيَهَا، ثم راسلها؛ هل إليك من سبيل؟ فقالت: لا سبيل إلا أن تتنصر وتتبرأ من الإسلام، ومن محمد صلى الله وسلم على نبينا محمد فأجابها، وقال -ونعوذ بالله مما قال-: هو بريء من الإسلام، ومن محمد، وتنصَّرَ وصعد إليها.

لا إله إلا الله! نعوذ بالله من الحَوَر بعد الكَوَر، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، نعوذ بالله أن نردَّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله.

المعاصي بريد الكفر، وكم من معصية جرَّت أختها وأختها وأختها، حتى كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد، وهذا مَثَلٌ من الأمثلة.

ما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتمَّ المسلمون لذلك غمّاً شديداً، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة، صَدْرٌ وَعَى القرآن يعود ليعبد الصُّلبان!

لما كان بعد فترة مرُّوا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، عليه ذلّ الكفر وغبرته وقترته، فقالوا: يـابن عبد الرحيم ما فعل علمك؟ ما فعلت صلاتك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعل القرآن؟

فقال في حمأة ذل الكفر: أُنْسِيتُه، ما معي منه سوى آيتين -لكأنه المَعْنِيُ بهما- رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:2-3] ولقد صار لي فيهم مال وولد؛ يعني: صار منهم: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرِّف القلوب! اصرف قلوبنا إلى طاعتك، يا رب! ثبتنا على الإيمان، ونجِّنَا من سُبُل الشَّيطان، نسألك اللهم حُسْن الخاتمة؛ فهي وربي لحظات حاسمة، ونسأل الله لنا السعادة والفوز عند الموت بالشهادة.

بادر قبل أن تُبَادَر! هل تنتظر إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هِرَماً مفنِّداً، أو موتاً مُجْهِزاً، أو الدَّجال فشَرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ.

ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية ، في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي -بتصرف- قال: وفيها توفي ابن عبد الرحيم -قبَّحه الله- هذا الشقي، كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلمَّا كان في بعض الغزوات، والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم؛ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، ما غضَّ بصره، والله يقول: قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30] أتْبَع النَّظْرة النظرة، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وكم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل والآلام والحسرات.

كان كمن أدخل في جحر يدا     فأخطأ الأفعى ولاقى الأسْوَدَا

نظر فهَوِيَهَا، ثم راسلها؛ هل إليك من سبيل؟ فقالت: لا سبيل إلا أن تتنصر وتتبرأ من الإسلام، ومن محمد صلى الله وسلم على نبينا محمد فأجابها، وقال -ونعوذ بالله مما قال-: هو بريء من الإسلام، ومن محمد، وتنصَّرَ وصعد إليها.

لا إله إلا الله! نعوذ بالله من الحَوَر بعد الكَوَر، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، نعوذ بالله أن نردَّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله.

المعاصي بريد الكفر، وكم من معصية جرَّت أختها وأختها وأختها، حتى كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد، وهذا مَثَلٌ من الأمثلة.

ما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتمَّ المسلمون لذلك غمّاً شديداً، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة، صَدْرٌ وَعَى القرآن يعود ليعبد الصُّلبان!

لما كان بعد فترة مرُّوا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، عليه ذلّ الكفر وغبرته وقترته، فقالوا: يـابن عبد الرحيم ما فعل علمك؟ ما فعلت صلاتك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعل القرآن؟

فقال في حمأة ذل الكفر: أُنْسِيتُه، ما معي منه سوى آيتين -لكأنه المَعْنِيُ بهما- رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:2-3] ولقد صار لي فيهم مال وولد؛ يعني: صار منهم: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرِّف القلوب! اصرف قلوبنا إلى طاعتك، يا رب! ثبتنا على الإيمان، ونجِّنَا من سُبُل الشَّيطان، نسألك اللهم حُسْن الخاتمة؛ فهي وربي لحظات حاسمة، ونسأل الله لنا السعادة والفوز عند الموت بالشهادة.

بادر قبل أن تُبَادَر! هل تنتظر إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هِرَماً مفنِّداً، أو موتاً مُجْهِزاً، أو الدَّجال فشَرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ.

إن أول قدم في الطريق بَذْل الروح، فإن كنت تستطيع على بذل الروح فتعال وبادر، وإلا فاذهب والْعب مع اللاعبين حتى يأتيك اليقين.

بادر قبل أن تبادر! واصدق الله في توبتك، واجعلها نصوحاً خالصة؛ فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ [التحريم:8] ويَعِد بالفلاح على ذلك فيقول: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]

فلو داواك كل طبيب داء     بغير كلام ربي ما شفاك

الصادق في توبته لا يزال ذنبه نصب عينيه، خائفاً منه، مُشْفِقاً، وَجِلاً، باكياً، نادِماً مستحياً من ربه، نَاكِساً الرأس بين يديه، دائم التَّضَرُّع إليه، واللجوء إليه، حتى يقول عدو الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أوقعه في ذلك الذنب.

روى مسلم في صحيحه : أن امرأة وقعت في كبيرة الزنا في لحظة من لحظات ضعفها، فتذكرت عظمة الله وعقابه ووعيده، فأنابت، بشعور عظيم بمرارة المعصية، وعِظَم الكبيرة، وأرادت البراءة بطريق مُتَيَقَّن لا يتطرق له أدنى احتمال، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: ( يا رسول الله! طهرني، فقال ويحك: ارجعي واستغفري الله، وتوبي إليه -كان يكفيها ذلك- لكنها قالت: يا رسول الله، أراك تريد أن تردني كما رددتَّ ماعز بن مالك ، والله! إني لحُبْلَى من الزنا، فطهرني يا رسول الله! قال: أأنت؟ قالت: نعم، فقال لها: ارجعي حتى تضعي ما في بطنك.

وبضعة أشهر تمرُّ وهي على خوفها ووَجَلِها وإشفاقها، ثم تضع، وتأتي بالصبي في خِرْقة، وتقول: هو ذا قد وَضَعْتُه فطهرني يا رسول الله! قال: اذهبي فأرضِعِيه حتى تفطميه -وحولان كاملان على خوفها وإشفاقها وعزمها على تطهير نفسها بالحدِّ، والحد كفَّارة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطمتْه، وأتت النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي وفي يده كسرة الخبز، فقالت: هو ذا يا نبي الله، قد فطمته، وأكل الطعام، فطهرني يا رسول الله! -قلبها:

كأنه مهجة نِضْو ببلقعةٍ      يعتادها الضاريان الذئب والأسد
-

دفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أُمِر بها فَحُفِر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فكان في من رجمها خالد رضي الله عنه وأرضاه، فتنضَّخ الدم على وجه خالد ، فسبَّها وشتمها، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مهلاً يا خالد ! فو الذي نفس محمد بيده! لقد تابت توبة لو قُسِّمت على أمة لوسعتهم، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكسٍ لغُفِرَ له ).

ما ضرها، وكأن الذنب لم يكن، وقد بقيَ لها صدقها، وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى توبتها وعملها الصالح، وبقي لها شرف الصحبة، والذي لا إله إلا هو لو سجد أحدنا حتى ينكسر صلبه ما بلغ منزلتها؛ إذ هي منزلة الصحبة وكفى بها من منزلة، بقي لها فوق ذلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ودفنه لها، فرضي الله عنها وأرضاها.

بالصدق زكا الأصل فطاب الفرع وطاب المولد فزكا المَحْتِد.

فنبِّه فؤاداك من رقدة     فإن الموفَّق مَن ينتبه

وإن كنتُ لم أنتبه بالذي     وُعِظْتُ به فانتبه أنت به

بادر قبل أن تُبَادَر! ولا تيئس ولا تقنط وإن عَظُم الذَّنْب: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن الإنس، والبهائم والهَوَام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، حتى ترفع الدَّابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله بهذه الرحمة، حتى إن الشيطان ليتطاول، يظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم) فيارب!

ارأف بعين حرمت طِيب الكَرَى     تشكو ودمع المقلتين قد جرى

في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبيٌ، فإذا امرأة من السبي تبتغي وليداً لها، وتسعى، حتى إذا وجدت صبياً أخذته، ألصقته ببطنها -أرضعته- فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألاَّ تطرحه يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).

لا إله إلا هو! هو الغني بذاته سبحانه، جلَّ ثناؤه وتعالى شأنه! العفو أحب إليه من الانتقام، والرَّحمة أحب إليه من العقوبة، سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، الفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، لا إله إلا هو!

يورد ابن القيم رحمه الله عن بعض العارفين: أنه رأى في بعض السكك باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت.

فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكِّراً، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخْرِج منه، ولا مَنْ يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مُرْتَجاً مُغْلَقاً، فتوسَّدَه ووضع خدَّه على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلمَّا رأته على تلك الحال لم تملك أن رَمَت بنفسها عليه والْتزمته تُقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي! أين تذهب عني؟ من يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني؟ ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك؟ ثم ضمَّتْه إلى صدرها، ودخلت به بيتها.

فتأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وتأملْ قوله صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أرحم بعباده من الوالدة بولدها) فأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟

رحمة الله هل تُنال بالتواني والكسل، أم بالجدِّ والعمل؟ لمن كتبها الله؟ اسمعوا معشر المؤمنين إلى قول الله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل [الأعراف:156-157] إنها للعاملين. كتبها الله للعاملين لا للخاملين البطَّالين.

أتخطب الحور لم تهد الصَدَاق لها     ولم تقدم لها عقداً ولا قُرْطاً

أم تشتري الخلد بالمغشوش من عملٍ     وسلعة الله لا تُشرى بما خُلِطَا

فيا عبد الله! اعرف عزة الله في قضائه، وبرِّه في ستره، وحلمه في إمهالك، وفضله في مغفرته، فلله عليك أفضال وأفضال:

أولها: ستره عليك حال ارتكابك للذنب، أما -والله- لو شاء الله لفضحك على رءوس الخلائق، فما جلست مجلساً، ولا حضرت مَجْمَعاً إلا وعُيِّرت بذلك الذنب؛ فكم من عاصٍ نفس معصيتك فُضِحَ وسترك الله الذي لا إله إلا هو!

ويا عجباً! لأقوام باتوا يسترهم الله، فأصبحوا يتحدثون بذنوبهم، قد هتكوا ستر الله عليهم! أولئك غير معافين، إنهم المجاهرون، وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافى إلا المجاهرين، فاشكر ربك أنْ سترك، وتب إليه قبل أن يفعل بك ما فعل بغيرك، وقل: اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب، اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب.

ثانيها: حلم الله عليك. حلم الله عليك في إمهالك، ولو شاء الله لعاجلك بالعقوبة، فما كنت ممن يسمع الآن سعة رحمته.

ثالثها -وهو من أعظمها-: فرح الله عز وجل بتوبتك، فرح إحسان وبرّ ولطف، لا فرحة محتاج إلى توبة عبده، فلن يَتَكثَّر بك من قِلَّة، ولن يتعزز بك من ذلَّة، ولن ينتصر بك من غَلَبَة، تبارك الله وجل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم : (لَلهُ أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيَّة مهلكة قَفْر خالية، معه راحلة عليها طعامه وشرابه، فنام، ثم استيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، توسَّد ساعده ينتظر موته؛ فإذا براحلته عنده عليها طعامه وشرابه وزاده، فأخطأ من شدة الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك) لا إله إلا الله! كيف بلغ به الفرح حتى أخطأ فقال: أنت عبدي وأنا ربك؟!

فرح لا تنقله الألفاظ، وحب الله للعبد أشد من حب العبد لله. فيفرح بتوبته، ويجازيه بأن يجعل في قلبه من اللذة والفرح والسعادة والسرور ما يُرى بادياً على قسمات وجهه إن صدق ونصح وأخلص، والله ما هو إلا كرجل برز للقتل، ثم عفي عنه، والجزاء من جنس العمل.

رابعها: تبديل السيئات إلى حسنات. قال الله: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً [الفرقان:68-70] فما النتيجة؟ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الفرقان:70].

فإن هوى بك إبليسُ لمعصية     فأَهْلِكَنْه بالاستغفار يَنْتَحِبِ

بسجدة لك في الأسحار خاشعة     سجود مُعْترف لله مُغْتَرب

روى المنذري بسند جيد عن عبد الرحمن بن جبير قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير هَرِم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدَّعمُ على عصا -أي: متكئاً على عصا- حتى قام بين يديْ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجَّة ولا حاجَّة إلا أتاها، لو قُسِّمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقتهم -لأهلكتهم- أله من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟! قال: نعم. وغدراتك وفجراتك، فقال: الله أكبر! الله أكبر! ثم ادَّعم على عصاه، فلم يزل يردد: الله أكبر! حتى توارى عن الأنظار).

فضل الله واسع، لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر إليه الإشارة، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تجترئ على معصية الله، وتب كلما أذنبت.

قال بعضهم لشيخه: إني أذنب. قال: تب. قال: ثم أعود. قال: تب. قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان، ودَّ لو ظفر منك باليأس والقنوط.

دعاكم رب بالندى يعرف     يا من على أنفسهم أسرفوا

لا تقنطوا من رحمتي واعرفوا     إني لغفار الذنوب العظام

يا من وسِعْتَ برحمةٍ كل الورى     من قد أطاع ومن غدا يتأثَّمُ

إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ     فبمن يلوذ ويستجير المُجْرمُ

بادر قبل أن تُبَادر! بادر ولا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت:

إنه الله الجليل الأكبر     الخالق البارئ والمصوِّر

باري البرايا منشئ الخلائق     مبدعهم بلا مثالٍ سابق

الأول المبدي بلا ابتداءٍ      والآخر الباقي بلا انتهاءٍ

الأحد الفرد القدير الأزلي     الصَّمد البرُّ المهيمن العلي

علو قَهْر وعلو الشان      جلَّ عن الأضداد والأعوان

من نظر إلى عظمة الله وجلاله؛ عظَّم حُرُماته، وَقَدَره قَدْرَه، وأجَلَّ أمره ونهيه، وعَظُم عليه ذنبه ولو كان صغيراً، لكأنه الجبل هو في أصله يخشى أن يقع عليه فيهلكه، فقلبه كأنه بين جناحيْ طائر، تجده منكسر القلب، غزير الدمع، قلق الأحشاء، له في كل واقعة عبْرَة، إذا هدل الحمام بكى، وإذا صاح الطير ناح، وإذا شدا البلبل تذكَّر، وإذا لمع البرق اهتزَّ قلبه خوفاً ممن يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، الذلُّ قد علاه، والحزن قد وَهَّاه، يذم نفسه على هواه، ويصدع بأوَّاه.

أواه من غفلاتي ومن عسى ولعلا

يا من عليه اعتمادي بك اهتديت      ومن لم يَرْجُ الهدى منك ضلا

بادر وإياك ومحقِّرات الذّنوب! فإن لها من الله طالباً، بادر وردَّ المظالم إلى أهلها، أو تحلَّلْ منهم واطلب المسامحة؛ فإنها لا تتم التوبة إلا بذلك.

صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتُؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجَلْحَاء من الشاة القَرْنَاء).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها اليوم، قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينار، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مَظْلَمَتِه، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه، فطرحت عليه).

وفي حديث ابن أنيس : (يقول الله يوم القيامة: أنا الملك، أنا الدَّيَّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد عنده مظلمة حتى اللطمة) قال الله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:31].

لما حضرت عبادة بن الصامت رضي الله عنه الوفاة قال: [[أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرجوه، قال: اجمعوا لي مواليَّ وخدمي وجيراني ومن كان يدخل عليَّ. فجمعوهم له، فقال: إني لأرى يومي هذا آخر يوم يأتي عليَّ من الدنيا، وليلتي هذه أول ليلة من الآخرة، وإني لا أدري لعلّه فَرَطَ مني إليكم شيء بيدي أو بلساني هو والذي نفس عبادة بيده القصاص يوم القيامة، أحرِّج على أحد منكم في نفسه عليَّ شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج روحي، فبكوا جميعاً وضجُّوا وقالوا: بل كنت والداً، وكنت مربياً، وكنت مؤدباً، ولم يكن قال لخادم قط سوءاً، قال: تجودون لي بالدمع، وما يغني الدمع. أغفرتم لي؟ فضجُّوا وقالوا: أن نعم، قال: اللهم اشهد .. اللهم اشهد .. اللهم اشهد .. أشهد أن لا إله إلا الله]] ثم لقيَ الله.

الخلد تدعو فهل من مجيب     والحور تهفو للقاء الحبيب

وآفرحتاه لكل عبد منيب     لبَّى ندا الداعي لدار السلام

فبادر بردِّ المظالم أو التحلل منها؛ فلن يجاوز جسر جهنم إلى الجنة ظالم حتى يؤدي مظلمته. خفف عن ظهرك؛ فظهرك لا يطيق كل ما تجني؛ ظلم هذا، وأكل مال هذا، والوقوع في عرض ذاك، وشتم ذا، خفِّفْ قد خاب من حمل ظلماً، قال الله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

بادرْ قبل أن تُبادَر! ولا تصحب الفاجر؛ فإنه يزين لك فعله، ويود لو أنك مثله، وطبعك يسرق منه، والمرء على دين خليله.

لا تسكن أرضاً موبوءة؛ فإن جرثومة المرض تسري فتفري، اهجر المعصية ومكانها، وعليك بقوم يعبدون الله بأي أرض، فاحبس نفسك معهم؛ فإن بيئة المعصية بيئة سوء، والله الذي لا إله إلا هو، لأن تنقل الحجارة، وتأكل الحجارة، وتنام على الحجارة مع الأبرار، خير لك من أكل الحلوى، والجلوس على الحرير، والنوم على الحرير مع الفجار؛ أولئك يدعون إلى الجنة، وأولاء يدعون إلى النار.

فما ينفع الجرباء قُرْبُ صحيحة     إليها ولكن الصحيحة تجربُ

قال الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

اهجر مكان المعصية، وأطِلْ الصمت، وأَدْمِن السُّكوت، ولا تخُض مع الخائضين، وقف على أحوال التائبين، وإذا رأيت العصاة فلا تشمخ بأنفك، واحمد ربك، ودُلَّهم على ما أنت فيه، وقل: كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94] ففي ذلك ذكرى للمؤمنين.

هاهو أبو لبابة رضي الله عنه وأرضاه لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وقد أجهدهم الحصار، وقد غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا العهد، فقام إليه الرجال والنساء والأطفال يبكون، فرقَّ لهم، فقالوا: [[أننزل على حكم محمد؟ صلى الله وسلم على نبينا محمد، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، يقول: فوالذي لا إله إلا هو! ما زالت قدماي من مكانها حتى علمت أني خنت الله ورسوله]] ورجع نادماً أسيفاً، عظَّم الله عز وجل فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما رجع فارتبط بجذع في المسجد، لا يُطلق منه إلا ليصلي، ثم يعود إلى ذلك الجذع، يتلمس عفو الله، ولطف الله، ورحمة الله، وتوبة الله، حتى إذا ما نزلت توبته، أَبْشِرْ بخير يوم مرَّ عليك يا أبا لبابة ؛ لقد تِيبَ عليك. خرَّ ساجداً لله عز وجل، ثم قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه، فقال -وهو يرسم منهجاً لهجر المعصية، ومكان المعصية، وبيئة المعصية-: (يا رسول الله! والذي لا إله إلا هو! ما وطئت قدمايَ أرض بني قريظة ما حييت، والله لا أُرَى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً).

بادر قبل أن تُبَادر! وأتبع السيئة الحسنة تمحها، قال الله: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] لما راجع عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، فقال: (ألست نبي الله حقّاً؟! أو لسنا المؤمنين؟! أو لسنا على الحق وهم على الباطل؟! فعلام نعطي الدَّنيَّة في ديننا ولمَّا يحكم الله بيننا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري).

وقال أبو بكر : [[الزم غرزه يـابن الخطاب ! فوالذي نفسي بيده إنه لعلى الحق]].

يقول عمر : [[فعملت لذلك أعمالاً، يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق؛ مخافة مراجعتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية]].

بادر ولا تعجز إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة.

واذكر مسير العمر ما أسرعه     وارقب هجوم الموت ما أفظعه

وبادر قبل أن تبادر! دع المحدثات والبدع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) صحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب ، تدري أخي أين طريق الجنة؟! طريقها القرآن، ثم السُّنة.

وخير أمور الدين ما كان سُنَّة     وشر الأمور المحدثاتُ البدائع

بادر وقف معي على أحوال التائبين؛ فإنها ذكريات متألِّمين، وذكرى المتألم تنفع المؤمنين بإذن رب العالمين، يقول صاحب رسالة: أخي الشاب إلى أين تسير : قال صاحب القصة: كنَّا ثلاثة من الأصدقاء يجمعنا الطَّيش والعبث، لا بل أربعة؛ فقد كان الشيطان رابعنا، نذهب لاصطياد أعراض المسلمين بالكلام المعسول، نستدرجهن إلى الاستراحات في المزارع البعيدة بعد موت قلوبنا وأحاسيسنا ومشاعرنا.

يقول: هكذا كانت حياتنا، يقول: أيامنا ليالينا في المزارع والمخيَّمات في السيارات على الشواطئ، إلى أن جاء يوم وذاك اليوم لا يُنسى.

ذهبت إلى المزرعة مع أصحابي، كل شيء جاهز، الشراب جاهز -ونعوذ بالله- الفريسة جاهزة -ونعوذ بالله- نسينا الطعام، ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته في حوالي السادسة تقريباً، مرت الساعات تلو الساعات دون أن يعود.

وفي العاشرة شعرت بالقلق، شعرت بالضيق، انطلقت بسيارتي أبحث عنه، وفي الطريق شاهدت ألسنة النيران تندلع على جانبي الطريق، يا للهول! فوجئت بأنها سيارة صديقي، النار تلتهمها، مقلوبة على أحد جانبيها، كالمجنون أسرعت أحاول إخراجه من السيارة، وجدت نصف جسده قد تفحَّم، لم يزل على قيد الحياة، سحبته إلى الأرض، فتح عينيه وأخذ يهذي: النار، النار،النار، قررت حمله بسيارتي إلى المستشفى.

فقال بصوت باكٍ حزين: لا فائدة، لن أصل، (ما عسى يُغني غريق عن غريق) خنقتني الدموع، أراه يموت أمامي، ثم فوجئت به يصرخ بأعلى صوته: ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟!

دُهشت وقلت له: من هو؟ قال: الله، الله، ماذا أقول له؟ ثم صرخ صرخة مدوِّية، ولفظ آخر أنفاسه.

اجتاح الرعب جسدي ومشاعري، صورته لم تفارقني، يصرخ: النار، النار. والنار تلتهمه، وهو يقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ تساءلت، وقلت: وأنا ماذا أقول له؟ لا إله إلا الله!

فاضت عيناي، اقشعرَّ جسدي، وإذا بالمنادي ينادي: الله أكبر، الله أكبر، نداء صلاة الفجر، أحيا فيَّ كل جارحة، أحسست لأول مرة أنه نداء خاص بي، يهز أعماقي، يدعوني لإسدال الستار على فترة مظلمة من حياتي، يدعوني إلى الهداية، إلى السعادة، اغتسلت، تطهرت، أسقطت عن جسدي وروحي ثقل رذائل غرقت فيها سنوات وسنوات، أدَّيت صلاة الفجر، ومن يومها لم تَفُتْنِي فريضة، والحمد لله رب العالمين!

واأسفاه من حياة على غرور، وموت على غفلة، ومنقلب إلى حسرة، ووقوف يوم الحساب بلا حجَّة!

ازرع لكي تحصد يوم الزحام      يا ويل من يلهيه عنه الحطام

يا عبد الله! أيها الشاب! مثِّل نفسك -أجارك الله- صاحب الحادث، ثم لا تسوِّف، عجِّل عجِّل، هيا هيا، إلى الله لا طاقة لقذارة الوسخ مع بياض الصابون، قل قلباً وقالباً:

أيا ملك الملوك أقل عثـاري     فإني عنك أنأتني الذنوب

وأمرضني الهوى لهوانِ نفسي     ولكن ليس غيرك لي طبيب

أيا ديان يوم الدين فرِّجْ     هموماً في الفؤاد لها دبيبُ


استمع المزيد من الشيخ علي بن عبد الخالق القرني - عنوان الحلقة اسٌتمع
صور وعبر 2803 استماع
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا 2674 استماع
هلموا إلى القرآن 2497 استماع
الإكليل في حق الخليل 2496 استماع
أرعد وأبرق يا سخيف 2410 استماع
هكذا علمتني الحياة [2] 2408 استماع
أين المفر 2328 استماع
اسألوا التاريخ 2276 استماع
حقيقة الكلمة 2243 استماع
الأمر بالمعروف 2202 استماع