صراع الدعاة مع المنافقين


الحلقة مفرغة

يقول الحق تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:57-58]

ها هو صلى الله عليه وسلم يقارب الأربعين من عمره ذاهب إلى الغار، ما يمر بشجر ولا حجر إلا سلم عليه صلى الله عليه وسلم، ويأتيه جبريل بالوحي فيعود فزعاً خائفاً إلى زوجه خديجة رضي الله عنها وأرضاها يقول: (زملوني زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، وأخبر خديجة بالأمر، وقال: (قد خشيت والله على نفسي) قالت: [[كلا والله لا يخزيك الله أبداً إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة]] .

ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وقد قرأ الكتب السابقة فأخبرته الخبر فقال: [[هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك]] قال: (أَوَمُخرِجِيَّ هم) قال: [[نعم. ما أتى أحد بمثل ما جئت به إلا عودي]] والآن .

أرى خلل الرماد وميض جمر     وأخشى أن يكون لها ضرام

أقول هذا في وقت لا نزال نسمع عن كثير ممن قل حظهم من مراقبة الله وخشيته والخوف منه، ونسوا حظاً مما ذكروا به، لا تحلوا لهم مجالسهم، ولا يطربون في حديثهم، ولا ينبسطون في جلساتهم حتى يتناولوا أعراض عباد الله القائمين بأمر الله من علماء الأمة، ودعاة الملة، ورجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الذين جردوا سواعدهم لرفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذين بذلوا أوقاتهم وأنفسهم لله عزَّ وجلَّ في وقت خرست فيه الألسن، قالوا وقد سكت الناس، ونطقوا وقد خرست الألسن، وجاهدوا في وقت ركن فيه كثير من الناس إلى الدعة والسكون، وأخلدوا إلى الحياة الدنيا وملذاتها، وتسابقوا إلى الوظائف والمناصب، ومع ذلك فقد قام هؤلاء المخلصون بأمر الله؛ لا يبتغون إلا رفعة وإعلاء كلمة الله، ودحر الباطل وأهله من أعداء الله.

تجد هؤلاء الفسقة بل كثير منهم يسارع إلى تناول أعراض الدعاة وتتبع عوراتهم، والتلذذ بالحديث عنهم في المجالس، يلمز هذا، ويتكلم في عرض هذا، ويردد ما أشيع عن هذا، لم تتورع ألسنة بعض هؤلاء من اختلاق الأكاذيب وإلصاق التهم بهم، وترديد بعض الأباطيل التي تلصق بهم، والتي هي -والله- من اختلاق أعداء الإسلام وخصومه الذين تتقطع قلوبهم غيظاً وهم يرون راية الدعوة إلى الله ترفع في هذه البلاد؛ لأن هؤلاء المحتسبين من الدعاة والعلماء يُقِضُّون مضاجعهم، ويفسدون عليهم ملذاتهم وسكرهم وعربدتهم وفجورهم، ودعوتهم إلى منكرهم؛ ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء يلفق التهم والأكاذيب ليرميهم بها، فيتلقفها خفاف الأحلام والسذج من الناس، ويطيرون بها فرحاً يبلغون بها الآفاق

أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم      من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

لكن لا ضير ولا ريب، هذه هي سمة الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، أوذي صلى الله عليه وسلم؛ وقيل عنه بأنه ساحر، وقيل عنه بأنه كاهن، وقيل عنه بأنه مجنون، ورمي في عرضه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أتم الله النور وأكمل الدين رغم أنف الكفار والمشركين والمنافقين، خرجت فئة المنافقين يوم عز الإسلام تدعي الإسلام وهي منه براء، تريد ضرب الإسلام ودعاته؛ فاتخذت النفاق طريقاً وياله من طريق موحش مظلم مبتور، إنه مرض عضال، ومقت ووبال، من تلبس به فقد أغضب الله الواحد القهار، وأسكن نفسه الدرك الأسفل من النار.

لا إله إلا الله! ماذا فعل المنافقون والمغرضون والحاقدون بالإسلام ودعاته في الماضي والآن! لا إله إلا الله كم كادوا لرسول الأنام عليه الصلاة والسلام؛ هم في كل عصر يعيشون، يعشعشون ويبيضون ويفرخون، همهم إطفاء كل نور يدعي له المسلمون.

تهاونوا بنظر الله تعالى، وعملوا من المنكر أعمالاً.

في المنكرات والصد عن سبيل الله ينشطون، وعن الصالحات والدعوة إلى سبيل الله يتباعدون: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142] يستهزئون بأهل الاستقامة والصلاح، ومن الدعاة إلى الله يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، فالله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.

لا يريدون أن يتكلم داعية، لا يريدون أن يأمر بمعروف ولا ينهى بناهية، لا يريدون علماً ولا دعوة ولا أن تقام ولو محاضرة.

لا إله إلا الله ما أخس وأنذل حالهم! إن سألتهم عن آيات الله البيانات ما عرفوا إلا المغنيين والممثلين والراقصات أحياءهم وأمواتهم، يدّعون الإيمان وما هم بمؤمنين، هم في كل عصر يعيشون يرمون بالتهم وبالأكاذيب دعاة الإسلام، رموا نبي الله موسى قبل نبينا عليهما الصلاة والسلام بالزنا فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً، ورموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه، وهم أصحاب الإفك في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم هم في كل زمان ومكان بهذا الدور يقومون، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيوجدون، فقاتلهم الله أنى يؤفكون.

لنقف قليلاً مع حديث الإفك لنأخذ منه الدروس والعبر، إن في ذلك لذكرى لمن له قلب، فاسمعوا لـعائشة المبرأة من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وأرضاها، صاحبة المعاناة في حديث الإفك يوم تقول: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، ولما دنونا من المدينة نزلنا منزلاً فبتنا فيه بعض الليل، ثم أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل.

قالت: فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش لأقضي حاجتي، وفى عنقي عقد لي، فلما قضيت شأني انسَلَّ من عنقي ولا أدري، ثم أقبلت إلى رحلي وتلمست صدري فلم أجد العقد، وقد أخذ الناس في الرحيل، قالت: فرجعت أتلمس عقدي فحبسني طلبه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً؛ فلم يستنكروا خفة الهودج.

قالت: فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، جئت منازلهم فإذا هي بلقع ليس بها داعٍ ولا مجيب، جلست في مكاني متلففة بحجابي أسبح الله وأستغفر الله، قالت: فأخذني النوم، وإذا برجل من أهل بدر من الذين اطلع الله عليهم فقال: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو صفوان بن المعطل رضي الله عنه -هذا المجاهد الذي يقول عن نفسه بعد أن رمي بالفاحشة: [[والذي نفسي بيده، ما كشفت خمار أنثى لا تحل لي في جاهلية ولا إسلام]]- أتى إلى مكان عائشة فرآها وعرف أنها زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه يعرفها قبل الحجاب، قالت عائشة : والذي نفسي بيده ما كلمني كلمة ولا سلم عليّ حتى السلام، وإنما سمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم أناخ بعيره فقمت وركبت بعيره، فأخذ زمام البعير يمشي به ولا يلتفت ولا يتكلم.

إطلاق المنافقين للشائعات

وإنما تقول عائشة : كنت أسمعه يسبح الله، وأتى بها في الظهيرة وهي على بعيره.

فأما الذين في قلوبهم إيمان فاطمأنوا إلى موعود الله، وهم في كل زمان يطمئنون لذلك، وأما الذين في قلوبهم زغل وحقد وغشش على الإسلام وعلى رسول الإسلام، وعلى دعاة الإسلام، فأخذوها فرصة لا تتعوض، قام كبيرهم الذي علمهم الخبث - ابن أبي - بين المنافقين يقول لهم: لماذا تأخرت؟ لماذا أتت مع هذا الأجنبي؟ لم ركبت على بعيره؟ لم تركها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الكلام، هو واثق من زوجه أنها أطهر من حمام الحرم، وأنقى من ماء الغمام، قريشية من القرشيات:

حور حرائر ما هممن بريبة     كظباء مكة صيدهن حرام

متحجبات في الخدور أوانس     ويصدهن عن الخنا الإسلام

انطلق الجيش إلى المدينة ، ولا زال المنافقون يُشَّهرون ويلصقون هذه التهمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبفراشه الطاهر.

لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سمع الخبر، وأتاه النبأ العظيم، ضُرب في صميم قلبه، ضرب في قواعد دعوته، ضرب في صميم رسالته الخالدة، أُصيب في شرفه وفى بيته ومروءته، فلما أتاه الخبر عن طريق رجل من المسلمين، أتاه وقال: يا رسول الله! إن المنافقين يقولون كذا وكذا، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] تحمل صلى الله عليه وسلم هذه اللطمة التي لم يصب بمثلها.

ذهب إلى بيته وسلَّم على زوجه وهي مريضة في فراشها، بعد السفر أصابتها حمى ولم تدرِ أنها متهمة، وأن المنافقين قد ألصقوا بها أعظم فرية، هي مريضة على الفراش، فسلَّم عليها صلى الله عليه وسلم.

قالت عائشة : ولم أر منه ذاك الحنان والعطف الذي كنت أراه منه كلما مرضت، قالت: فاستأذنته لأمرض -في بيت أبي في بيت خليفة الإسلام، في بيت المجاهد الأول، في بيت الرجل الأول بعد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- فأذن لها صلى الله عليه وسلم.

قالت: فأخذني النساء إلى بيت أبي، وإذا بأبيها الآخر يعلم بالنبأ وينزل عليه كالصاعقة، ويأتيه الخبر فيصاب ويبكي ويقول: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] ويأتي الخبر أمها فتصاب في قلبها، وتنتشر الفرية في المدينة وتسري سريان النار في الهشيم، ويشارك كثير من الصحابة رسول الله في هذا المصاب فيحزنوا لحزنه ويتأثروا لتأثره:

إن أولى الموالي من تواليه     عند السرور كما والاك في الحزن

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا     من كان يألفهم في الموطن الخشن

قالت عائشة : ولم أعلم الخبر، ولم أدر ما السر، قالت: فلما شفيت من مرضي خرجت مع نساء في ضاحية من ضواحي المدينة وكان معنا امرأة اسمها أم مسطح صالحة من الصالحات، وولدها صالح من الصالحين من أهل بدر ، لكنه وقع في هذه الريبة ونشر الخبر، وساعد في نشر التهمة كما يفعل بعض الناس الآن، فلما أصبحنا في الصحراء عثرت هذه المرأة الصالحة فقالت: تعس مسطح -والعرب تدعو على عدوها بالتعاسة إذا أصيبت- قالت عائشة : فقلت لها: كيف تدعين على ابنك وهو من الصالحين من أهل بدر ؟ قالت: إنك ما علمت ماذا قال وماذا فعل.

قالت عائشة : وماذا قال؟ قالت: اتهمك هو وأمثاله في عرضك، وقالوا: إنك ارتكبت الفاحشة مع صفوان .

لا إله إلا الله! قالت عائشة : فسقطت على وجهي مغشياً عليّ من البكاء، رفعها النساء إلى فراشها في بيت أبيها، وأما رسول الله فبقي شهراً كاملاً لا ينزل عليه الوحي، يتلمس متى يسمع النداء العلوي ليشفي غليله في هذه المشكلة، ما عنده دلائل ولا براهين، لا يعلم الغيب، اضطربت عنده الأمور صلى الله عليه وسلم، يثق في زوجه لكنه بشر.

استشارة النبي لبعض أصحابه

دخل صلى الله عليه وسلم يستشير بعض أقاربه، استشار علياً رضي الله عنه قاضي قضاة الدنيا وهو منه بمنزلة هارون من موسى، فقال علي: [[ يا رسول الله! لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلها تصدقك فو الله ما عهدناها كاذبة ]] .

قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً     فما اعتذارك من قول إذا قيل

ذهب صلى الله عليه وسلم بعده إلى أسامة ، حبه وابن حبه، إلى المولى الذي رفعه الإسلام، فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم الأمر وعُمْر أسامة أربع عشرة سنة، فيقول أسامة -وهو يعرف من هي عائشة رضي الله عنها-: [[يا رسول الله! أهلك أهلك، والله ما نعلم عنهم إلا خيراً، والله إنها صوامة قوامة بارة رشيدة، فاسأل جاريتها يا رسول الله! ]]

فيذهب صلى الله عليه وسلم إلى الجارية التي معها في البيت واسمها بريرة، فتقول: [[ والله يا رسول الله ما علمت عن عائشة إلا خيراً، أحمي سمعي وبصري، إنها صوامة قوامة، والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً أعيبه أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله ]] والداجن هي الشاة التي تربى في البيت.

قام صلى الله عليه وسلم على المنبر، وشكى إلى الناس ما لقيه من المنافقين في عرضه، ما لقيه من اتهامات جريئة في دعوته، شكي من عبد الله بن أبي رأس الضلالة، وعمود الجهالة، المريد التدمير لهذا الدين، فكان مما قاله صلى الله عليه وسلم: {ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً} فقام الأوس والخزرج فكادوا يقتتلون على اختلاف بينهم في المسجد دفاعاً عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم.

هدأ صلى الله عليه وسلم الأوضاع، وعاد إلى عائشة في بيت أبيها ليجلس معها مجلس التحقيق والمحاكمة، إما أن تعترف وتتوب إلى الله، وإما أن تتبرأ من هذا، وإما أن يعلن الله توبتها من فوق سبع سماوات.

جلس صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: وما جلس بعدها إلا ذاك المجلس، وجاء الفرج من مفرج الكروب ومنفس الهموم، قالت: ومعي أبي وأمي ونساء يبكين معي يشاركنني مصيبتي.

فلابد من شكوى إلى ذي قرابة     يواسيك أو يسليك أو يتوجع

نزول الوحي ببراءة أم المؤمنين

قالت: فجلس صلى الله عليه وسلم، ثم شهد أن لا إله إلا الله، ثم حمد الله الذي بنوره تقوم السماوات والأرض، ثم قال: {يا عائشة ! إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه} .

تلعثمت من البكاء لا تستطيع الكلام، تقول لأبيها: أجب عني رسول الله فيما قال، فيبكي أبو بكر ويقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وماذا يقول أبو بكر في اتهام كهذا، ماذا يقول في فرية المغرضين من أعداء الإسلام؟!

قالت: فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فتبكي أمها، وتقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فاستجمعت قواي وجف الدمع من عيني، وقلت: إني والله قد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر لم أعمله لتصدقنني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].

قالت: فاندفع أبي وأمي باكيين، أما رسول الله فلم يتحرك، مهموم به من الهم ما به، قالت: فوالله ما غادر مكانه صلى الله عليه وسلم حتى أتاه الوحي، وكان إذا أتاه الوحي من السماء ثقل جسمه، فاضطجع على فراشه، وأخذ عرقه يتصبب من جبينه الطاهر، فعرفنا أنه الوحي، قالت: فوالله ما فزعت، أما أبي فكادت نفسه أن تخرج خوفاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس.

تحدر العرق بعد ما استفاق صلى الله عليه وسلم كالجمان من على وجهه، فجعل يمسح العرق وهو يبتسم ويقول: {يا عائشة ! أبشري إن الله قد برأك من فوق سبع سماوات} براءة من الله، ولطف من الله، ورحمة من الله، يوم أن توصد الأبواب فلا يوجد إلا باب الله، يوم أن تسدل الحجب فلا يأتي إلا عطف الله وحنان الله.

فلرب نازلة يضيق بها الفتى     ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها     فرجت وكنت أظنها لا تفرج

تهلل وجهها رضي الله عنها، قال لها أبوها أبو بكر رضي الله عنه: يا عائشة ! قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمي عليه واحمديه، قالت: لا والله لا أقوم ولا أحمده ولا أحمدك ولا أحمد أمي، وإنما أحمد الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه.

يدخل صلى الله عليه وسلم بعدها المسجد منتصراً على أعداء الرسالة الذين ألصقوا به التهمة في عرضه وشرفه، يجمع الناس ويقف على المنبر يتلو آيات الله البينات، تنزل من على المنبر كأنها القذائف، يسمعها المؤمن والمنافق والذكر والأنثى، وتقرؤها الأمة إلى قيام الساعة؛ لأن التهمة كانت فيه صلى الله عليه وسلم.

اسمعوا إلى الآيات التي نزلت قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:11-12] إلى أن قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:14-15].

وليست التهمة له صلى الله عليه وسلم؛ بل تتجدد يوماً بعد يوم في صور ومخططات رهيبة مفزعة، لكن العاقبة مع ذلك للمتقين والإسلام منتصر في كل مكان: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].

ألا فليخسأ الذين يريدون هدم هذا الدين من الذين يلصقون التهم بدعاته وعلمائه العاملين، وإن نجحوا فالنجاح مؤقت والعاقبة للمتقين، نسأل الذي بيده مقاليد الأمور أن يفضح من أراد علماء الإسلام من اليهود والمنافقين وأذنابهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم على رءوس الأشهاد.

اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.

اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود تقر به أعين الموحدين الآمرين والناهين.

اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، واكلأهم برعايتك، وسدد رميهم، واجعل كلماتهم فوارق على كل من أراد بهم الخذلان، وافضح أعداءهم على رءوس الأشهاد، اللهم واهدنا إلى الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وإنما تقول عائشة : كنت أسمعه يسبح الله، وأتى بها في الظهيرة وهي على بعيره.

فأما الذين في قلوبهم إيمان فاطمأنوا إلى موعود الله، وهم في كل زمان يطمئنون لذلك، وأما الذين في قلوبهم زغل وحقد وغشش على الإسلام وعلى رسول الإسلام، وعلى دعاة الإسلام، فأخذوها فرصة لا تتعوض، قام كبيرهم الذي علمهم الخبث - ابن أبي - بين المنافقين يقول لهم: لماذا تأخرت؟ لماذا أتت مع هذا الأجنبي؟ لم ركبت على بعيره؟ لم تركها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الكلام، هو واثق من زوجه أنها أطهر من حمام الحرم، وأنقى من ماء الغمام، قريشية من القرشيات:

حور حرائر ما هممن بريبة     كظباء مكة صيدهن حرام

متحجبات في الخدور أوانس     ويصدهن عن الخنا الإسلام

انطلق الجيش إلى المدينة ، ولا زال المنافقون يُشَّهرون ويلصقون هذه التهمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبفراشه الطاهر.

لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سمع الخبر، وأتاه النبأ العظيم، ضُرب في صميم قلبه، ضرب في قواعد دعوته، ضرب في صميم رسالته الخالدة، أُصيب في شرفه وفى بيته ومروءته، فلما أتاه الخبر عن طريق رجل من المسلمين، أتاه وقال: يا رسول الله! إن المنافقين يقولون كذا وكذا، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] تحمل صلى الله عليه وسلم هذه اللطمة التي لم يصب بمثلها.

ذهب إلى بيته وسلَّم على زوجه وهي مريضة في فراشها، بعد السفر أصابتها حمى ولم تدرِ أنها متهمة، وأن المنافقين قد ألصقوا بها أعظم فرية، هي مريضة على الفراش، فسلَّم عليها صلى الله عليه وسلم.

قالت عائشة : ولم أر منه ذاك الحنان والعطف الذي كنت أراه منه كلما مرضت، قالت: فاستأذنته لأمرض -في بيت أبي في بيت خليفة الإسلام، في بيت المجاهد الأول، في بيت الرجل الأول بعد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- فأذن لها صلى الله عليه وسلم.

قالت: فأخذني النساء إلى بيت أبي، وإذا بأبيها الآخر يعلم بالنبأ وينزل عليه كالصاعقة، ويأتيه الخبر فيصاب ويبكي ويقول: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] ويأتي الخبر أمها فتصاب في قلبها، وتنتشر الفرية في المدينة وتسري سريان النار في الهشيم، ويشارك كثير من الصحابة رسول الله في هذا المصاب فيحزنوا لحزنه ويتأثروا لتأثره:

إن أولى الموالي من تواليه     عند السرور كما والاك في الحزن

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا     من كان يألفهم في الموطن الخشن

قالت عائشة : ولم أعلم الخبر، ولم أدر ما السر، قالت: فلما شفيت من مرضي خرجت مع نساء في ضاحية من ضواحي المدينة وكان معنا امرأة اسمها أم مسطح صالحة من الصالحات، وولدها صالح من الصالحين من أهل بدر ، لكنه وقع في هذه الريبة ونشر الخبر، وساعد في نشر التهمة كما يفعل بعض الناس الآن، فلما أصبحنا في الصحراء عثرت هذه المرأة الصالحة فقالت: تعس مسطح -والعرب تدعو على عدوها بالتعاسة إذا أصيبت- قالت عائشة : فقلت لها: كيف تدعين على ابنك وهو من الصالحين من أهل بدر ؟ قالت: إنك ما علمت ماذا قال وماذا فعل.

قالت عائشة : وماذا قال؟ قالت: اتهمك هو وأمثاله في عرضك، وقالوا: إنك ارتكبت الفاحشة مع صفوان .

لا إله إلا الله! قالت عائشة : فسقطت على وجهي مغشياً عليّ من البكاء، رفعها النساء إلى فراشها في بيت أبيها، وأما رسول الله فبقي شهراً كاملاً لا ينزل عليه الوحي، يتلمس متى يسمع النداء العلوي ليشفي غليله في هذه المشكلة، ما عنده دلائل ولا براهين، لا يعلم الغيب، اضطربت عنده الأمور صلى الله عليه وسلم، يثق في زوجه لكنه بشر.