شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب الأذان - حديث 193-198


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

حصة هذا اليوم من الأحاديث: هو حديث أبي محذورة وحديث أنس بروايتيه، وإن أمكن أن نأخذ حديث أبي جحيفة فسنفعل إن شاء الله تعالى.

فالحديث الأول حديث أبي محذورة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان، فذكر فيه الترجيع). يعني: ذكر أبو محذورة فيه الترجيع.

أخرجه مسلم، ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط، وأخرجه الخمسة فذكروه -أي: التكبير- مربعاً.

ترجمة الراوي

أولاً: أبو محذورة هو صحابي جليل اشتهر بكنيته، واختلف في اسمه فقيل: اسمه أوس. وقيل: سُمير. واختلف أيضاً في اسم أبيه فقيل: اسم أبيه معير بكسر الميم وسكون العين وفتح الياء: معير. وقيل: بضم الميم وفتح العين وتشديد الياء معيّر. وقيل: عمير، وهو ابن لوذان الجمحي من الذين أسلموا عام فتح مكة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان وأمره أن يؤذن به في مكة، وظل مؤذناً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم كان بنوه من بعده يتوارثون الأذان في مسجد الكعبة، واشتهر براوية حديث الأذان عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأذان قصة ذكرها النسائي وغيره وهي أنهم: ( لما رجعوا من حنين كان مجموعة من الناس يقلدون المؤذن يستهزئون به، يقلدونه بأصواتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا مسمع صوت إنسان حسن الصوت هاهنا؟ فأمر بهم فجيء بهم إليه فأذنوا واحداً واحداً، فلما أذن أبو محذورة

دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم وضع يده على صدره ودعا له وقال له: قم فأذن أنت، فقال: يا رسول الله! علمني الأذان، فعلّمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان )، وبدأ يؤذن كما سلف.

هذا حديث أبي محذورة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان فذكر فيه الترجيع ) .

تخريج الحديث

يقول المصنف: أخرجه مسلم، مسلم رحمه الله أخرج الحديث عن أبي محذورة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: الله أكبر الله أكبر )، يعني: مرتين، الله أكبر الله أكبر فقط.

هكذا جاء في رواية مسلم في معظم أصوله: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله -يقولها بصوت منخفض ثم يعود مرة أخرى- أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يكمل بعد ذلك الأذان مثنى مثنى، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله )، هذه رواية مسلم لصيغة الأذان في حديث أبي محذورة رضي الله عنه.

وهذه الصيغة أيضاً رواها جماعة من العلماء -كما أشار المصنف- بشيء من الاختلاف، فأخرجها أصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، ورواها أيضاً البغوي والبيهقي والطحاوي وغيرهم.

وجوه الاختلاف بين حديث أبي محذورة وحديث عبد الله بن زيد في الأذان

وفي هذا الحديث اختلاف عن حديث عبد الله بن زيد في صيغة أذان بلال الذي كان صدر أحاديث الباب، في حديث أبي محذورة اختلاف عن حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي صدّر المؤلف به الباب من ثلاثة وجوه:

الوجه الأول في الاختلاف

الوجه الأول في الاختلاف: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان بتثنية التكبير في أوله كما في هذه الرواية، حيث يبدأ الأذان بقوله: الله أكبر الله أكبر فقط، في حين أنه في حديث عبد الله بن زيد يكبر أربع تكبيرات كما هو المعمول به هنا.

إذاً: حديث أبي محذورة فيه التكبير في أول الأذان مرتين فقط، وليس أربعاً كما هو في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه.

وهذا الموضع ذكر أهل العلم أن الراجح فيه: تربيع التكبير، يعني: موافقة الأئمة الأربعة أصحاب السنن في إخراج الحديث، فإن المصنف ذكر أنهم أخرجوا الحديث -الأربعة، بل الخمسة- يعني -مضافاً إليهم الإمام أحمد - أخرجوا الحديث بتربيع التكبير، أو أخرجوه فذكروه مربعاً في أول الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. فقد رجح جماعة من أهل العلم أن الصحيح أن التكبير مربع في أول حديث أبي محذورة، كما قال ابن القطان: الصحيح في هذا تربيع التكبير.

ووجوه ترجيح كون التكبير أربع مرات كثيرة، منها ما يلي:

أولاً: أن لفظ التكبير أربعاً رواه بعض رواة صحيح مسلم، فقد جاء في إحدى روايات الفارسي عن مسلم : أنه ذكر التكبير في هذا الحديث أربعاً وليس مرتين. إذاً: هو في بعض روايات مسلم بالتربيع.

الأمر الثاني: أن الإمام النسائي روى هذا الحديث عن شيخ من شيوخ مسلم في الحديث نفسه وهو إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، رواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم وهو شيخ مسلم في نفس الحديث، يعني: مسلم روى عنه الحديث نفسه، فـالنسائي روى عنه الحديث فذكر فيه تربيع التكبير، ومسلم روى عنه الحديث فذكر فيه التثنية، فـالنسائي وافق مسلماً في شيخه وخالف في الرواية، فـالنسائي ذكر التربيع في التكبير، أما مسلم فإنه اقتصر على التثنية.

الوجه الثالث: أن هذا اللفظ الذي هو تربيع التكبير فيه زيادة ثقة، فلم يقتصر على ثنتين بل زادها إلى أربع، فيجب قبولها خاصة مع وجود المرجحات الأخرى كما سلف.

الوجه الرابع: أن الأئمة الذين أخرجوا الحديث -كـأبي داود والترمذي وابن ماجه - ذكروا عدد ألفاظ الأذان فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان تسع عشرة كلمة، وعلمه الإقامة سبع عشرة كلمة، فلما قال: علمه الأذان تسع عشرة كلمة أصبحت كلمات الأذان معدودة مربوطة كما يقال: إن هذا جامع مانع، فلما عدها وقال تسع عشرة كلمة تبين بيقين أن التكبير مربع؛ لأننا لو اقتصرنا على تكبيرتين يصبح الأذان سبع عشرة كلمة، فإذا كان الأئمة: أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم ذكروا أن عدد جمل الأذان تسع عشرة؛ فلابد أن يكون التكبير في أول الأذان أربعاً، وهذه الرواية عندهم رواية صحيحة أخرجها الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححها جماعة من أهل العلم.

المرجح الخامس: أن هذا هو الموافق لحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه السابق، فإنه ذكر التكبير في أوله أربعاً.

والمرجّح السادس: أن هذا ينسجم مع ما رواه الشيخان -وسيأتي بعد قليل- من حديث أنس رضي الله عنه قال: ( أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة )، وقد سبق أن بينت معنى قوله: ( ويوتر الإقامة )، فإن الإقامة تبدأ بتكبيرتين: الله أكبر الله أكبر، نكون اعتبرنا لفظ الله أكبر الله أكبر في الإقامة وتراً بالنسبة إلى الأذان؛ لأنه في الأذان يكبر أربعاً فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أما في الإقامة فيقتصر على إحداهما وهي مكونة من تكبيرتين: الله أكبر الله أكبر، فهذا يرجح أنه في الأذان أربع وفي الإقامة اثنتان، ولذلك قال النووي رحمه الله: إنه يستحب له أن يقول كلاً من التكبيرتين الأوليين في الأذان بنَفَس واحد باعتبار أنهما جملة واحدة.

هذه ستة مرجّحات تقريباً ترجّح أن التكبير في أول حديث أبي محذورة أربع وليس تكبيرتين فقط. هذا هو الموضع الأول الذي يخالف فيه حديث أبي محذورة حديث عبد الله بن زيد .

الوجه الثاني في الاختلاف

الموضع الثاني: الذي يخالف فيه حديث أبي محذورة حديث عبد الله بن زيد هو الترجيع، والترجيع هو أن يقول لفظ الشهادتين بصوت منخفض ثم يرجع فيصوت بهما، فيذكر الشهادتين معاً بصوت منخفض ثم إذا انتهى رجع من جديد وجهر بهما ورفع صوته، ولذلك سمي ترجيعاً؛ لأنه يرجع إليهما بعدما يفارقهما ويغادرهما.

فالترجيع هل هو مذكور في حديث عبد الله بن زيد ؟ كلا. حديث عبد الله بن زيد لم يذكر فيه الترجيع، لكنه مذكور هاهنا في حديث أبي محذورة، ولذلك قال المصنف: [ فذكر فيه الترجيع ]. ولا شك أن أبا محذورة لم يذكر لفظ الترجيع، وإنما ذكر أن الرسول عليه السلام علّمه أن يقول: ( أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله -قال: ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرة أخرى- )، فقوله: فذكر فيه الترجيع هذا هو من تعبير المصنف، وهو معلوم لا إشكال فيه.

حكم الترجيع في الأذان

وقد اختلف أهل العلم في الترجيع في الأذان ما حكمه؟

فذهب جماعة كثيرة من أهل العلم إلى أن الترجيع في الأذان سنة. ومن أشهر من قال بسنية الترجيع في الأذان: الإمام الشافعي، بل إن البغوي نسب القول بالترجيع وأنه سنة إلى جمهور العلماء، نسب للإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أنهم يقولون بسنية الترجيع في الأذان؛ أخذاً بحديث أبي محذورة هذا، وهو حديث صحيح كما هو معلوم، وكذلك ممن نسبه إلى الجمهور: الإمام الصنعاني في سبل السلام .

القول الثاني: يقول بعدم مشروعية الترجيع، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله والثوري، يقولون: إن الترجيع ليس بسنة ولا مشروعاً في الأذان.

والقول الثالث: هو مذهب الإمام أحمد وإسحاق وجماعة من فقهاء أهل الحديث، يقولون: إن الترجيع سنة وعدم الترجيع أيضاً سنة، فعله سنة وتركه سنة، أي: أن هذا من الاختلاف المباح، فهو من باب التنوع في العبادات، مثلما ورد -مثلاً- في صيغ وصفات صلاة الخوف، كلها سنن، ومثلما ورد في أنواع التشهدات، كلها سنن، ومثلما ورد في أدعية الاستفتاح، كلها سنن، وما أشبه ذلك من العبادات التي جاءت على أنحاء مختلفة ثابتة، فيعمل بهذا تارة ويعمل بهذا تارة.

وهذا القول هو أحسن الأقوال وأعدلها، إن يقال: إن الترجيع سنة وتركه سنة، فيرجع أحياناً ويترك أحياناً، ويرجع في مكان ويترك في مكان آخر؛ ليعمل بالسنة كلها، ولا يكون عطّل شيئاً من السنة؛ وذلك لأن ترك شيءٍ من السنة قد يفضي إلى أن يعدها الناس بدعة إذا نسيت وأهملت؛ وقد يجعل بعضُ الناس بسبب ترك السنة المستحب واجباً، ويترتب على ذلك التفرق والاختلاف، فمن يفعل هذه السنة يعتب على من لم يفعلها، ومن لا يفعلها يعتب على من يفعلها، فيترتب على ذلك التفرق والتمزق والاختلاف، فلذلك فإن القول الراجح في هذه المسألة هو مذهب فقهاء الحديث كـأحمد وإسحاق وغيرهما، وهو أشمل من قول الشافعي وأشمل من قول أبي حنيفة، أنهم يقولون: يرجع أحياناً ويترك أحياناً.

وهذا ما نسبه الإمام ابن عبد البر إلى أحمد وإسحاق وداود الظاهري وابن جرير الطبري وغيرهم، فإنه قال رحمه الله: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن هذا كله من الاختلاف المباح، فإن شاء كبر في أول الأذان تكبيرتين، وإن شاء كبر أربعاً، وإن شاء رجع في الأذان في التشهدين وإن شاء لم يرجع، وإن شاء ثنّى الإقامة كلها وإن شاء أفردها إلا لفظ: قد قامت الصلاة، هذا كله من المباح. هذا معنى كلام الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله، وهذا القول قول حسن.

الوجه الثالث في الاختلاف

الموضع الثالث الذي اختلف فيه حديث أبي محذورة عن حديث عبد الله بن زيد هو الإقامة، الإقامة لم يذكرها المصنف رحمه الله في هذا الموضع، لكنها مذكورة في عدد من المصادر، فقد رواها أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وسندها جيد، وذكروا فيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الإقامة فكانت إقامته تشبه أذان بلال رضي الله عنه ) .

لا شك أن عدد كلماتها سبع عشرة كلمة كما جاء، لكن هذه الكلمات السبع عشرة هي أنه يكبر في أول الإقامة أربعاً، يعني: هكذا إقامة أبي محذورة التي علمها إياه النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان قال له: ( قل في الإقامة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر )، فيكبر في أول الإقامة أربع تكبيرات ثم يقول: ( أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ) . فهي كأذان بلال إلا أنه زاد فيها قوله: (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة) مرتين.

اختلاف العلماء في صيغ الإقامة

وقد اختلف أهل العلم في صيغ الإقامة كم هي؟

القول الأول: أن جُمل الإقامة تسع جمل

فقيل: إن عدد جمل الإقامة تسع فقط، وعلى هذا القول معنى ذلك أن كل لفظ من ألفاظ الإقامة يقال مرة واحدة، فيقول مثلاً: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر، لا إله إلا الله، يذكر كل كلمة مرة واحدة، فتكون الإقامة تسع جمل.

على كل حال هذا قول مهجور متروك أشبه ما يكون بالقول الشاذ، وقد نسبه الإمام النووي في كتاب المجموع إلى أنه قول شاذ في مذهب الشافعية.

القول الثاني: أنها عشر جمل

القول الثاني في الإقامة: أن عدد جملها عشر، وهو كالسابق، وهذا هو قول الإمام مالك رحمه الله وهو كالسابق، يعني: كالإقامة المعتادة إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة مرة واحدة، فيقول: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة يفردها ولا يثنيها، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، هذا مذهب الإمام مالك في الإقامة، وهو أيضاً وجه للشافعي قديم ذكره عنه الإمام الخطابي ..

ولا شك أن دليل هؤلاء ظاهر، فإنهم استدلوا بحديث أنس القادم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة )، الإمام مالك قال: إن معنى قوله: يوتر الإقامة يعني: يوتر لفظ (قد قامت الصلاة) فيجعله واحداً. وكذلك ذهبوا إلى أن بقية ألفاظ الإقامة وتر جلها، لا أقول: كلها بل جلها، وإلا فإن التكبيرتين في أول الإقامة عند مالك يقول بهما، وكذلك التكبير في آخره، لكن يعتبر هذا إفراداً بالقياس إلى الأذان، أو يعتبر أن غالب ألفاظ الإقامة قد ثنيت.

القول الثالث: أنها إحدى عشرة جملة

القول الثالث في هذه المسألة: أن ألفاظ الإقامة أحد عشر، وهي الإقامة المعمول بها عندنا، فألفاظها إحدى عشرة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فألفاظها أحد عشر لفظاً أو إحدى عشرة كلمة، وهذا مذهب الجمهور، هو مذهب عمر وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك والحسن البصري وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والإمام أحمد والشافعي وغيرهم من أهل العلم، وأكثر التابعين رضي الله عنهم نُسب إليهم هذا القول، القول بأن ألفاظ الإقامة أحد عشر لفظاً، بل إن البغوي أيضاً نسب هذا إلى جمهور أو أكثر العلماء.

حجة أصحاب هذا القول: أولاً حديث أنس رضي الله عنه: ( أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة )، وسبق بيان معناه، وسيأتي مزيد شرح له.

ثانياً: حديث عبد الله بن زيد السابق وفيه النص على هذه الصيغة كما سبق بيانه، وهو يعتبر نصاً في هذا الباب.

ومن أدلتهم ما رواه أبو داود السجستاني وكذلك أبو داود الطيالسي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم بسند صحيح صححه ابن خزيمة وصححه النووي وصححه ابن سيد الناس اليعمري وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( كان الأذان على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم -أو قال: إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- مثنى مثنى والإقامة فرادى، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة )، فهذا من حججهم على أنه يستحب أو يشرع للمؤذن أن يفرد الإقامة بالنسبة لألفاظ الأذان.

القول الرابع: أنها سبع عشرة جملة

ذكرنا أن القول الأول أنها تسع كلمات، والقول الثاني أنها عشر كلمات، والقول الثالث أنها إحدى عشرة.

القول الرابع: أنها سبع عشرة كلمة، وهذا هو مذهب أبي حنيفة والثوري وابن المبارك، وهنا تكون الإقامة كأذان عبد الله بن زيد الذي ورد في الحديث الأول، سوى أنه يضيف إليها قد قامت الصلاة.

وحجة أصحاب هذا القول حديث أبي محذورة في الباب، وهو حديث صحيح لا مطعن فيه بوجه من الوجوه فلذلك يحتج به لذلك .

ولذلك نقول: إن القول الراجح في موضوع الإقامة هو كالقول الراجح في موضوع الأذان، أن أذان بلال وأذان أبي محذورة كلاهما جائز ومشروع، فكذلك إقامة بلال وإقامة أبي محذورة كلتاهما جائزة وكلتاهما مشروعة، فلا بأس أن يقيم مرة هكذا ومرة هكذا.

القول الخامس: ارتباط الإقامة بصيغة الأذان

ومن الآراء الطريفة في هذا الباب: أن ابن خزيمة رحمه الله صاحب الصحيح ذكر رأياً غريباً استغربه جماعة من العلماء كـابن حجر والنووي وغيرهما، ولم أر أحداً وافقه عليه، فقال: إن المؤذن إن أذن وربع الأذان ورجع فيه يشرع له أن يثني الإقامة، يجعل ألفاظها لفظين لفظين، وإن لم يفعل ولم يرجع في الأذان فإنه لا يشرع له أن يثني في الإقامة بل يوترها إلا الإقامة، فكأنه جعل تثنية الإقامة مربوطة بتربيع التكبير والترجيع في الأذان، كأن الإمام ابن خزيمة يقول: إن أذن المؤذن كأذان أبي محذورة، أقام كإقامة أبي محذورة وإن أذن كأذان بلال أقام كإقامة بلال، وكأنه يقول: لا يجوز له أن يؤذن أذان بلال ويقيم إقامة أبي محذورة، أو يؤذن أذان أبي محذورة ويقيم إقامة بلال. هذا مفهوم كلامه رحمه الله لا نصه.

وهذا القول في الواقع تحكم ولا دليل عليه، فإذا ثبت أن للأذان صيغ كلها واردة وللإقامة صيغ كلها واردة فلا داعي لأن نربط الأذان بالإقامة، بل يمكن أن يؤذن أذان بلال ويقيم إقامة أبي محذورة، أو يؤذن أذان أبي محذورة، ويقيم إقامة بلال، لا حرج في ذلك.

الجمع بين حديث الأسود أن بلالاً كان يثني الأذان والإقامة وحديث: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة)

وقد روى الطحاوي وغيره بسند جيد عن الأسود بن يزيد رضي الله عنه أنه قال عن بلال رضي الله عنه: إنه (كان يثني الأذان ويثني الإقامة، ويبدأ بالتكبير ويختم بالتكبير).

وهذا الحديث مشكل وإن احتج به من يقولون بتثنية الإقامة إلا أنه مشكل؛ من جهة أنه ذكر أن بلالاً يثني الإقامة.

والوارد في الصحيح -كما سمعتم- أن بلالاً أُمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة لا يثني الإقامة، ولا شك أن حديث الأسود بن يزيد -وإن كان فيه مقال- إلا أنه مع ذلك معارض لما في الصحيح، فإذا ثبت -على فرض ثبوته- فإنه يجمع بينه وبين حديث أنس بأحد وجوه:

إما أن يقال: إن قوله: (إن بلالاً كان يثني الإقامة) أن يكون يقصد بذلك لفظ (قد قامت الصلاة)، يعني: بلال إذا أقام قال: قد قامت الصلاة مرتين، وهذا لا إشكال فيه، بل هو موافق لما في الصحيح: إلا قد قامت الصلاة كما في صحيح البخاري . هذا وجه من وجوه الجمع.

الوجه الثاني: أن يقال بأن بلالاً كان يفعل هذا تارة وهذا تارة، فمرة كان بلال يوتر الإقامة كما أمره النبي عليه السلام في حديث أنس، فيقتصر من كل جمله على لفظ واحد، إلا التكبير -كما هو معروف- في أوله وآخره، وإلا قد قامت الصلاة، ومرة يؤمر بأن يثني الإقامة فيقول كل لفظ مرتين، فيقول مثلاً: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، فيكون يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا مثل ما سبق.

الاحتمال الثالث: أن يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر، وقد ذهب الطحاوي إلى ذلك، فقال: إن أحاديث التثنية -الأمر بتثنية الإقامة- ناسخة لأحاديث الإفراد، وهذا ينسجم مع مذهب الحنفية، والطحاوي رحمه الله حنفي كما تعلمون، وعكس المسألة البيهقي والحازمي في الاعتبار فقال: إن أحاديث الإفراد يحتمل أن تكون ناسخة لأحاديث التثنية، وهذا أيضاً موافق لمذهب الإمام الشافعي رحمه الله في الإقامة كما سبق.

والراجح أنه لا نسخ في ذلك، بل إقامة أبو محذورة هو صحابي جليل اشتهر بكنيته، واختلف في اسمه فقيل: اسمه أوس. وقيل: سُمير. واختلف أيضاً في اسم أبيه فقيل: اسم أبيه معير بكسر الميم وسكون العين وفتح الياء: معير. وقيل: بضم الميم وفتح العين وتشديد الياء معيّر. وقيل: عمير، وهو ابن لوذان الجمحي من الذين أسلموا عام فتح مكة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان وأمره أن يؤذن به في مكة، وظل مؤذناً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم كان بنوه من بعده يتوارثون الأذان في مسجد الكعبة، واشتهر براوية حديث الأذان عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأذان قصة ذكرها النسائي وغيره وهي أنهم: ( لما رجعوا من حنين كان مجموعة من الناس يقلدون المؤذن يستهزئون به، يقلدونه بأصواتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا مسمع صوت إنسان حسن الصوت هاهنا؟ فأمر بهم فجيء بهم إليه فأذنوا واحداً واحداً، فلما أذن أبو محذورة

دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم وضع يده على صدره ودعا له وقال له: قم فأذن أنت، فقال: يا رسول الله! علمني الأذان، فعلّمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان )، وبدأ يؤذن كما سلف.

هذا حديث أبي محذورة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان فذكر فيه الترجيع ) .

يقول المصنف: أخرجه مسلم، مسلم رحمه الله أخرج الحديث عن أبي محذورة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: الله أكبر الله أكبر )، يعني: مرتين، الله أكبر الله أكبر فقط.

هكذا جاء في رواية مسلم في معظم أصوله: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله -يقولها بصوت منخفض ثم يعود مرة أخرى- أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يكمل بعد ذلك الأذان مثنى مثنى، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله )، هذه رواية مسلم لصيغة الأذان في حديث أبي محذورة رضي الله عنه.

وهذه الصيغة أيضاً رواها جماعة من العلماء -كما أشار المصنف- بشيء من الاختلاف، فأخرجها أصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، ورواها أيضاً البغوي والبيهقي والطحاوي وغيرهم.