شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب الأذان - حديث 190-191


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

الحديث الأول عندنا هو حديث عبد الله بن زيد، ثم الزيادة التي رواها الإمام أحمد في آخره، ثم حديث ابن خزيمة عن أنس.

تخريج الحديث وكلام العلماء فيه

والحديث عزاه المصنف رحمه الله لـأحمد وأبي داود، والحديث رواه أيضاً الترمذي كما يدل عليه قول المؤلف: وصححه الترمذي، أي: أنه أخرجه وقال: حديث حسن صحيح. وكذلك أخرجه ابن خزيمة وصححه، وأخرجه الدارمي في سننه وابن الجارود في المنتقى وابن ماجه، وزاد ابن ماجه في آخره رواية مرسلة عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه أنه كان يقول بعد ذلك شعراً:

أحمد الله ذا الجلال وذا الإكرام حمداً على الأذان كثيرا

إذ أتاني به البشير من الله فأكرم به لدي بشيرا

في ليال وافى بهن ثلاث كلما جاءت زادني توقيرا

وهي رواية مرسلة ساقها ابن ماجه في آخر الحديث ولا تصح، ليست على شرط الحديث من حيث الصحة، والحديث رواه أيضاً ابن خزيمة -كما أشار المصنف- وقال عقب روايته: سمعت محمد بن يحيى يقول: ليس في أخبار عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان خبر أصح من هذا. وهذا -يعني: تصحيح محمد بن يحيى لهذا الحديث- وإن كان لا يدل ضرورة على أنه يصححه، فهو يقول: ليس هناك خبر أصح منه، ولا يلزم من ذلك قطعاً أن يكون صحيحاً، لكنه يومئ إلى ذلك، وقد صح الحديث، صححه جماعة من أهل العلم كما سيأتي.

وممن خرج الحديث أيضاً ابن حبان في صحيحه والبيهقي.

وإذا أردنا أن نعرف من صحح الحديث، فممن صححه -كما سبق- الترمذي، قال: (حسن صحيح) عقب روايته.

وكذلك نقل الترمذي تصحيح الحديث عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، يقول -كما في كتاب العلل الكبير للترمذي، وهو مطبوع منفرد العلل الكبير للترمذي - قال: سألت محمد بن إسماعيل عن حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان، فقال: هو عندي صحيح. يعني البخاري قال: هو عندي صحيح. وكذلك ابن خزيمة قال: هو حديث صحيح من جهة النقل، وأخرجه في صحيحه، ونقل كلمة محمد بن يحيى كما أسلفت قبل قليل، وهي قوله: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في الأذان خبر أصح من هذا.

وممن صححه أيضاً ابن حبان، فإنه أخرجه في صحيحه، وهذا يعني تصحيحه له، وكذلك صححه الإمام الدارقطني والشوكاني في السيل الجرار وغيرهم من أهل العلم.

والحديث رجاله ثقات، إلا أن في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السير والمغازي، وقد سبق معنا مراراً أنه صدوق مدلس، فحديثه حسن، وقد صرح بالتحديث ابن إسحاق في هذا الحديث، فحديثه حسن لذاته ولكنه صحيح لشواهده، فإنه جاء لحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان شواهد عديدة، أحسنها وأصحها حديث أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار، وفيه ذكر القصة، قصة الحديث بتمامها تقريباً، وفيه: [ أن عبد الله بن زيد ذهب إلى بيته وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في المنام ]، وفيه أيضاً: ( أن عمر لما سمع الأذان في بيته جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أري الأذان أيضاً فكتمه عشرين يوماً ).

وحديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار رواه أبو داود والبيهقي، وقال ابن حجر في فتح الباري : إسناده صحيح. وهو كما قال؛ فإن رجال الإسناد ثقات لا مطعن في أحد منهم، وبه يرتقي حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه -حديث الباب- من كونه حسناً لذاته لحال محمد بن إسحاق إلى كونه صحيحاً لغيره.

كما أن من شواهد حديث الباب مرسل عن سعيد بن المسيب رواه عبد الرزاق والبيهقي، وشاهده الثالث أيضاً مرسل عن الشعبي، رواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتاب المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، وفي النسخة المسندة من كتاب المطالب العالية -وهي نسخة لا تزال مخطوطة ذكرت فيها تلك الأحاديث بالأسانيد- قال ابن حجر : وهذا مرسل صحيح، وهو شاهد جيد لحديث محمد بن إسحاق الذي في السنن.

إذاً: الحديث حسن لذاته صحيح لغيره باختصار.

الحديث طويل في بعض المصادر كما في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد، وفيه: ( أن عبد الله بن زيد بن عبد ربه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تشاوروا فيما ينادون به إلى الصلاة، فقال بعضهم: نتخذ قرناً أو بوقاً مثل بوق اليهود، وقال آخرون: بل ناقوساً مثل ناقوس النصارى، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الناقوس على كره منه، قال: ثم انصرفنا، فبينا أنا نائم إذ مر بي رجل يحمل معه ناقوساً، فقلت: يا عبد الله! أتبيع هذا؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ننادي به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ قلت: بلى. قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر -وذكر الأذان المعروف إلى آخره- قال: ثم استأخر عني قليلاً -رجع إلى الوراء- ثم قال: وتقول في الإقامة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله -وذكر الإقامة المعروفة أيضاً-. قال: فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إنها لرؤيا حق ) .

( إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً. قال: فقمت فألقيته على بلال فأذن به، فلما سمعه عمر وهو في بيته أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، ويقول: يا رسول الله! والله لقد رأيت الذي رأى -وكأن عمر علم بخبر الرؤيا- فقال: والله -يا رسول الله- لقد رأيت الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله، الحمد لله ).

معاني ألفاظ الحديث

هذا سياق الحديث، وفيه كلمات -سواء في أصل سياقه أو في اللفظ الذي ساقه المصنف مختصراً- تحتاج إلى شرح، منها: ذكر الناقوس، فإن الناقوس هو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، فالخشبة الطويلة تسمى الناقوس، والخشبة الصغيرة التي تضرب بها تسمى الوبيل كما ذكر ذلك الأزهري في تهذيب اللغة وغيره من علماء اللغة، هذا هو الناقوس، وكانت النصارى تستخدمه في النداء إلى صلواتها وعباداتها.

أما البوق فهو القرن، وهو شيء مجوف مثل القمع ينفخ فيه فيحدث زمراً وصوتاً، وكانت اليهود أيضاً تستخدمه في الدعاء إلى عباداتها وصلواتها.

هذا معنى ذكر الناقوس وذكر القمع، فهي أشياء يدعو بها أهل الكتاب إلى صلواتهم بدون ذكر معها، ليسوا يذكرون الله فيها أو ما أشبه ذلك كما يتوهم بعض الجهلة، كلا، وإنما يضربون بهذه الخشبة على الأخرى للنداء إلى الصلاة.

أما بالنسبة لليهود فهم ينفخون مثل الصفير -مثلاً- أو مثل نوع من الموسيقى، ينفخون ينادون به إلى صلواتهم، وقد وجد في المسلمين من يضاهيهم، كما رأينا في بعض بلاد الإسلام في المساجد طبولاً عظيمة، فسألنا: لماذا هذه؟! قالوا: ينادى بها إلى الصلاة؛ فإن المؤذن إذا أراد أن يؤذن أتى وبدأ يضرب هذا الطبل العظيم ضرباً شديداً يسمع على مسافة بعيدة، فقلنا: ولماذا؟ قالوا: لأن المؤذن لا يرى الأذان بالميكروفون؛ لأنه بدعة الميكروفون! هذا في أندونيسيا، فيضطر إلى هذا الطبل حتى يبلغ من لم يبلغه الأذان. وهذا من الانتكاس في المفاهيم، وأحياناً تقول العرب: شر البلية ما يضحك.

أما قوله: (طاف بي وأنا نائم رجل) فمعنى الطواف: طاف يطيف، أي: إشارة إلى الخيال الذي يلم به عند النوم.

وأما الدوران فيقال: طاف يطوف، كما تقول: طاف بالكعبة يطوف بها، أي: يدور حولها.

أما الإحاطة إذا كان هناك شيء محيط بشيء مثل جدار أو غيره فإنك تقول: أطاف يطيف.

إذاً: هناك فرق بين طاف يطيف هذا يستخدم للطيف الذي يلم بالإنسان عند النوم أو السِنة، أما طاف يطوف فيستخدم للدوران، أما أطاف بهمزة التعدية -أطاف يطيف- فهذا يستخدم في الشيء المحيط بشيء آخر.

[(فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر). فذكر الأذان بتربيع التكبير] هذا من كلام المصنف رحمه الله: (بتربيع التكبير) أي: أنه يقول في أول الأذان التكبير أربع مرات: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.

بغير ترجيع، والترجيع مأخوذ في اللغة من الرجوع إلى الشيء بعد تعديه وتجاوزه.

والترجيع في الأذان: هو أن المؤذن يقول الشهادتين بصوت منخفض ثم يعود مرة أخرى فيصوت بهما، فيقول -مثلاً-: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. ثم يقول بصوت منخفض يسمعه من حوله فقط: أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله .. أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يعود مرة أخرى فيصوت بصوت مرتفع: أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن لا إله إلا الله، وهكذا شهادة أن محمداً رسول الله. هذا هو المقصود بالترجيع في الأذان، وقد ثبت ذكر الترجيع في الأذان وأنه مشروع في حديث أبي محذورة في صحيح مسلم، وسيأتي خبره إن شاء الله تعالى. هذا معنى الترجيع.

قول المصنف رحمه الله: [والإقامة فرادى] يعني: أن ألفاظ الإقامة فردية، وليس هذا على إطلاقه، فإنه يحتمل أحد أمرين: إما أن يكون المقصود بقوله: (والإقامة فرادى) أي: في غالب ألفاظها بأنه يقول الشهادتين كل واحدة منهما على انفراد، وكذلك: (حي على الصلاة .. حي على الفلاح) يقولها كل واحدة منها على انفراد، والتكبير في الأخير يقوله على انفراد، فيحتمل أن قوله: (والإقامة فرادى) أي: في غالب ألفاظها.

ويحتمل معنى آخر، وهو أن قوله: (والإقامة فرادى) أي: بالنسبة للأذان، فكأنه جعل قول المؤذن -مثلاً- في أول الأذان: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) جعل كل تكبيرتين كأنهما شيء واحد، فالمقيم أخذ واحدة منهما، وإن كانت تكبيرتين مكونة من لفظين، لكنها واحدة بالقياس إلى الأذان، ولذلك قال النووي -رحمه الله- في المجموع : ولهذا قال أصحابنا: يستحب أن يجمع التكبيرتين بنفس واحد، هكذا قال النووي عن فقهاء الشافعية، قال: يستحب أن يجمع التكبيرتين بنفس واحد، فيقول: الله أكبر الله أكبر، يعني في الأذان، وكأنهما جملة واحدة، فيكون قوله: (والإقامة فرادى) أي: بالنسبة إلى الأذان، وإلا فلفظ التكبير مثنى.

وكذلك قوله: (قد قامت الصلاة) فإنه مثنى، ولكنه قد استثناه في هذا الحديث كما استثناه في حديث أنس بن مالك في الصحيح: ( أُمر بلال

أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة )، يعني: إلا قوله: (قد قامت الصلاة) فإنه يكرر مرتين، فيقول: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة؛ وذلك لأنه هو المقصود بالإقامة، يعني: هو لب الإقامة كما سيأتي.

قال: ( فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق... ) إلى آخر الحديث. هذه أهم الألفاظ التي تحتاج إلى بيان في هذا الحديث.

ترجمة راوي الحديث

بالنسبة لصحابي الحديث هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة بن زيد الخزرجي الأنصاري، شهد العقبة وبدراً، فهو عقبي بدري، وشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى خبر الأذان، وله أحاديث أخرى، لكن لا يصح له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خبر الأذان، كما قال البخاري عنه: لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خبر الأذان. ومقصود البخاري : أنه لم يثبت، وإلا فقد روي عنه أحاديث لكن لا تصح، ولهذا قال -أيضاً- ابن عدي : لم يثبت له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خبر الأذان. أو: لا نعرف له شيئاً يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خبر الأذان.

وقد جمع الحافظ ابن حجر -كما ذكر- في تهذيب التهذيب جمع مجموع روايات ذكرت عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه غير خبر الأذان في جزء منفرد، وأشار ابن حجر إلى أنه لا يصح منها شيء.

إذاً: الخبر الوحيد الذي صح عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خبر الأذان، أما بقية الأخبار فإنها لا تصح، وقد روى الإمام أحمد وغيره شيئاً من هذه الأخبار، يراجع في المسند .

وقد تأخرت وفاة عبد الله بن زيد بن عبد ربه، فتوفي عام (32) للهجرة كما ذكر ذلك يونس بن بكير وخليفة بن خياط وغيرهما من المؤرخين، وهذا هو الراجح أنه توفي سنة (32) للهجرة وتأخرت وفاته. وهو غير عبد الله بن زيد الذي سبق معنا في حديث صفة الوضوء، فصاحب صفة الوضوء هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، وكلاهما أنصاري، هو وصاحب الأذان كلاهما من الأنصار، لكن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني صاحب صفة الوضوء ذكر الواقدي أنه هو الذي قتله مسيلمة الكذاب في قصة معروفة عند أهل السير.

هذا فيما يتعلق براوي الحديث.

فوائد الحديث

الحديث فيه فوائد عديدة: الفائدة الأولى منها: بيان أين شرع الأذان؛ فإن الحديث صريح في أن الأذان شرع بـالمدينة المنورة، وقد جاءت روايات أخرى: أن الأذان شرع بـمكة ولا يصح منها شيء، كما ذكر الحافظ ابن حجر

في فتح الباري . الفائدة الثانية: بيان متى شرع الأذان، فإن الصحيح أنه شرع وأن هذه القصة -قصة الرؤيا- حدثت في السنة الأولى من الهجرة، وقيل: في السنة الثانية من الهجرة، وقيل: بل إن الأذان كان في أول الإسلام وأول ما فرضت الصلاة، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع الأذان من جبريل ليلة المعراج، وأيضاً قال الحافظ ابن حجر

: والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأخبار، وقد جزم ابن المنذر

-والكلام لا يزال لـابن حجر

- قال: وقد جزم ابن المنذر

بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينادي للصلاة منذ أن بعث إلى أن هاجر إلى المدينة . إذاً: فالصحيح أن الأذان شرع في المدينة في السنة الأولى من الهجرة. والفائدة الثالثة: بيان من رأى رؤيا الأذان، فإن الحديث في رواياته صريح في أن الذي رأى رؤيا الأذان هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه

، والثاني الذي رأى الرؤيا عمر بن الخطاب

، ولا يصح غير هذا، فقد ذكر بعضهم: أن أبا بكر رأى الرؤيا، وذكر آخرون أن بلالاً

رآها، بل ذكر الغزالي أبو حامد

وغيره من الفقهاء: أن من رأوا هذه الرؤيا -رؤيا الأذان- سبعة من الصحابة، بل أوصلهم بعضهم إلى أربعة عشر صحابياً، وهذا كله لا يصح، أنكره النووي

وابن الصلاح

وابن حجر

وغيرهم من أهل العلم، لا يثبت أن أحداً من الصحابة رأى رؤيا الأذان إلا عبد الله بن زيد بن عبد ربه

وعمر بن الخطاب

رضي الله عنهم أجمعين. ومن فوائد الحديث: بيان صفة الأذان، وهي الصفة المذكورة في الحديث، وهي صفة الأذان الموجودة في بلادنا هذه، وكذلك للأذان صفات أخرى سيأتي الإشارة إلى بعضها. ومن فوائده: بيان صفة الإقامة، وهي -أيضاً- إحدى صفات الإقامة، وهي الإقامة المعروفة في هذه الديار ثابتة في السنة، وقد جاءت الإشارة إلى صفات أخرى ثبتت أيضاً في السنة غير تلك الصفات. ومن فوائد الحديث: بيان الرؤيا الصالحة، وذلك فيما رآه عمر

ثم عبد الله بن زيد

. وهل يدل الحديث على أن الرؤيا الصالحة قد يثبت بها شرع؟ هذا سؤال. الحديث دليل على فضل الرؤيا الصالحة، حتى قال الرسول عليه السلام: ( إنها لرؤيا حق ) وهي الموافقة، لكن هل يدل الحديث على أنه يثبت بالرؤيا شرع؟ لا يدل الحديث على أن الرؤيا يثبت بها شرع، لا يثبت الشرع إلا بالكتاب أو السنة، أما الرؤيا فلا يثبت بها شرع، وإنما ثبوت الأذان هنا بإقرار الرسول عليه الصلاة والسلام، ويكفي أنه قال: ( إنها لرؤيا حق ) وأمر بالتأذين، وأما الرؤيا فلها كلام آخر، مر شيء منه، وسيمر في درس ليلة الإثنين إن شاء الله تعالى، والكلام في الرؤيا وهل يثبت بها تشريع مر شيء منه. كما أن في الحديث من الفوائد: بيان أن من دلالات صدق الرؤيا أن تتواطأ، يعني: أن يتفق اثنان أو أكثر على أن يروا شيئاً معيناً في المنام، فهنا رآه ابن زيد

ورآه عمر

، ونظير ذلك ما ثبت في الصحيح في خبر ليلة القدر، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أرى رؤياكم قد تواطأت، فمن كان متحريها -أي: ليلة القدر- فليتحرها في السبع الأواخر ) . ومن فوائد الحديث: أنه يختار للأذان الأندى صوتاً؛ لأن الرسول عليه السلام قال لـعبد الله بن زيد

: ( قم مع بلال

فألقه عليه؛ فإنه أندى منك صوتاً ). ومن فوائد الحديث: جواز اجتهاد الرسول عليه الصلاة والسلام فيما لم ينزل عليه فيه نص ولا وحي ولا تشريع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في أول الأمر في اختيار الناقوس، وهو له كاره كما جاء في بعض الروايات، ثم بعد ذلك أقر هذه الرؤيا وأمر بالتأذين، فهو دليل على ما ذهب إليه كثير من الأصوليين من جواز وقوع الاجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه. ومن فوائد الحديث: جواز التلقين في الأذان، يعني: يجوز أن يؤذن إنسان قد يكون نسي الأذان أو حديث عهد بإسلام فلا يحفظه، فيلقن الأذان كلمة كلمة، فهذا الحديث دليل على جواز ذلك. ومن فوائده أيضاً: كراهية الإسلام للتشبه بالمشركين، وأن التشبه بهم فيما هو من خصائصهم حرام؛ وذلك لأن الله تعالى عوض المسلمين عن بوق اليهود وناقوس النصارى بهذه الكلمات المشروعات.

والحديث عزاه المصنف رحمه الله لـأحمد وأبي داود، والحديث رواه أيضاً الترمذي كما يدل عليه قول المؤلف: وصححه الترمذي، أي: أنه أخرجه وقال: حديث حسن صحيح. وكذلك أخرجه ابن خزيمة وصححه، وأخرجه الدارمي في سننه وابن الجارود في المنتقى وابن ماجه، وزاد ابن ماجه في آخره رواية مرسلة عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه أنه كان يقول بعد ذلك شعراً:

أحمد الله ذا الجلال وذا الإكرام حمداً على الأذان كثيرا

إذ أتاني به البشير من الله فأكرم به لدي بشيرا

في ليال وافى بهن ثلاث كلما جاءت زادني توقيرا

وهي رواية مرسلة ساقها ابن ماجه في آخر الحديث ولا تصح، ليست على شرط الحديث من حيث الصحة، والحديث رواه أيضاً ابن خزيمة -كما أشار المصنف- وقال عقب روايته: سمعت محمد بن يحيى يقول: ليس في أخبار عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان خبر أصح من هذا. وهذا -يعني: تصحيح محمد بن يحيى لهذا الحديث- وإن كان لا يدل ضرورة على أنه يصححه، فهو يقول: ليس هناك خبر أصح منه، ولا يلزم من ذلك قطعاً أن يكون صحيحاً، لكنه يومئ إلى ذلك، وقد صح الحديث، صححه جماعة من أهل العلم كما سيأتي.

وممن خرج الحديث أيضاً ابن حبان في صحيحه والبيهقي.

وإذا أردنا أن نعرف من صحح الحديث، فممن صححه -كما سبق- الترمذي، قال: (حسن صحيح) عقب روايته.

وكذلك نقل الترمذي تصحيح الحديث عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، يقول -كما في كتاب العلل الكبير للترمذي، وهو مطبوع منفرد العلل الكبير للترمذي - قال: سألت محمد بن إسماعيل عن حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان، فقال: هو عندي صحيح. يعني البخاري قال: هو عندي صحيح. وكذلك ابن خزيمة قال: هو حديث صحيح من جهة النقل، وأخرجه في صحيحه، ونقل كلمة محمد بن يحيى كما أسلفت قبل قليل، وهي قوله: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في الأذان خبر أصح من هذا.

وممن صححه أيضاً ابن حبان، فإنه أخرجه في صحيحه، وهذا يعني تصحيحه له، وكذلك صححه الإمام الدارقطني والشوكاني في السيل الجرار وغيرهم من أهل العلم.

والحديث رجاله ثقات، إلا أن في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السير والمغازي، وقد سبق معنا مراراً أنه صدوق مدلس، فحديثه حسن، وقد صرح بالتحديث ابن إسحاق في هذا الحديث، فحديثه حسن لذاته ولكنه صحيح لشواهده، فإنه جاء لحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان شواهد عديدة، أحسنها وأصحها حديث أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار، وفيه ذكر القصة، قصة الحديث بتمامها تقريباً، وفيه: [ أن عبد الله بن زيد ذهب إلى بيته وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في المنام ]، وفيه أيضاً: ( أن عمر لما سمع الأذان في بيته جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أري الأذان أيضاً فكتمه عشرين يوماً ).

وحديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار رواه أبو داود والبيهقي، وقال ابن حجر في فتح الباري : إسناده صحيح. وهو كما قال؛ فإن رجال الإسناد ثقات لا مطعن في أحد منهم، وبه يرتقي حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه -حديث الباب- من كونه حسناً لذاته لحال محمد بن إسحاق إلى كونه صحيحاً لغيره.

كما أن من شواهد حديث الباب مرسل عن سعيد بن المسيب رواه عبد الرزاق والبيهقي، وشاهده الثالث أيضاً مرسل عن الشعبي، رواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتاب المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، وفي النسخة المسندة من كتاب المطالب العالية -وهي نسخة لا تزال مخطوطة ذكرت فيها تلك الأحاديث بالأسانيد- قال ابن حجر : وهذا مرسل صحيح، وهو شاهد جيد لحديث محمد بن إسحاق الذي في السنن.

إذاً: الحديث حسن لذاته صحيح لغيره باختصار.

الحديث طويل في بعض المصادر كما في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد، وفيه: ( أن عبد الله بن زيد بن عبد ربه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تشاوروا فيما ينادون به إلى الصلاة، فقال بعضهم: نتخذ قرناً أو بوقاً مثل بوق اليهود، وقال آخرون: بل ناقوساً مثل ناقوس النصارى، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الناقوس على كره منه، قال: ثم انصرفنا، فبينا أنا نائم إذ مر بي رجل يحمل معه ناقوساً، فقلت: يا عبد الله! أتبيع هذا؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ننادي به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ قلت: بلى. قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر -وذكر الأذان المعروف إلى آخره- قال: ثم استأخر عني قليلاً -رجع إلى الوراء- ثم قال: وتقول في الإقامة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله -وذكر الإقامة المعروفة أيضاً-. قال: فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إنها لرؤيا حق ) .

( إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً. قال: فقمت فألقيته على بلال فأذن به، فلما سمعه عمر وهو في بيته أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، ويقول: يا رسول الله! والله لقد رأيت الذي رأى -وكأن عمر علم بخبر الرؤيا- فقال: والله -يا رسول الله- لقد رأيت الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله، الحمد لله ).




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4734 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4383 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4201 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4082 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4036 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4011 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3963 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3910 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3888 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3871 استماع