شرح كشف الشبهات [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول:

لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر مرتد معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون: إن هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه حق، ولكننا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، كما قال تعالى: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً [التوبة:9] وغير ذلك من الآيات، كقوله: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].

فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].

وهذه المسألة مسألة طويلة تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به، لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد، وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً، فإذا سألته عما يعتقده بقلبه فإذا هو لا يعرفه. ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله:

أولاهما قوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفاً من نقص مالٍ، أو جاهٍ، أو مداراة لأحد، أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.

والآية الثانية: قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:106-107] الآية، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو مشحةً بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذك من الأغراض إلا المكره.

فالآية تدل على هذا من جهتين:

الأولى: قوله تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ)، فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.

والثانية: قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:107] فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد والجهل والبغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم وأعز وأكرم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم].

ختم الشيخ رحمه الله هذه الرسالة المباركة بهذا التنبيه المهم، فإنه بعد أن أبطل حجج المشبهين، وبين لنا ظاهراً صدق قول الشاعر فيها:

حججٌ تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور

فلما تبين هذا السراب، وانكشف الغطاء، واتضح أنه ليس معهم شيء بل هم كما قال الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83]، وليس عندهم من العلم إلا ظاهره، وإلا فحقيقته قد تجردوا عنها؛ ذكر رحمه الله تنبيهات مهمة، فبعد أن أبطل الحجج التفت رحمه الله إلى مهرب نفسي يلجأ إليه بعض الذين تنكشف لهم الحقائق، فيعلمون أن ما أوردوه من شبه وما ذكروه من أباطيل إنما هي ذرائع تتساقط واحدة تلو أخرى، فذكر أن من الناس من يفر إلى تحكيم عادته، وتحكيم ما عليه أهل بلده، وتحكيم ما يخشاه من مواجهة الناس، وما يخشاه من إنكارهم لما جاء به، وبين أن هذا لا يفيد أيضاً في ترك الحق، فلو أن إنساناً اعتمد في ترك الحق على هذه الأمور، وهي أن أهل البلد ينكرون هذا أو أنه يخشى أن يسلب الجاه أو يسلب المال أو يخشى أن يفقد مكانته أو ما إلى ذلك؛ لم ينفعه ذلك.

فقال رحمه الله: ولنختم الكلام إن شاء الله سبحانه وتعالى بمسألة عظيمة مهمة جداً، تفهم مما تقدم، ولكن يُفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها. وهذه المسألة هي قوله رحمه الله: (لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل)، وهذا لا شك فيه فإنه عقد أهل السنة والجماعة في الإيمان والتوحيد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، وعلى هذا تواطأت أقوال السلف رحمهم الله، وقد قال الناظم في نظم عقيدة من سلف:

إيماننا قول وصدق وعمل يزيد بالتقوى وينقص بالزلل

فلابد من الإيمان بالقلب، ولابد من الإيمان باللسان، ولابد من الإيمان بالجوارح، ولا يكفي الإيمان بالقلب مع تخلف إيمان الجوارح واللسان، ولا اللسان مع تخلف الباطن، ولا الجوارح مع تخلف الباطن، بل لابد من تواطؤ هذه الأشياء حتى يتحقق التوحيد.

قوله: (لا خلاف) أي: بين أهل السنة والجماعة (أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً)، وتوضيح ذلك: (إن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر)، لا شك أن من عرف التوحيد، وعرف أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة وحده دون غيره، ثم صرف العبادة لغيره، ولم يقم بمقتضى هذه المعرفة؛ فإن تلك المعرفة لا تفيده شيئاً، فهو كافر معاند. قال رحمه الله: وكفره ككفر فرعون، فإن فرعون يعرف ربوبيته سبحانه وتعالى، ويعرف إلهيته، وإنما أنكرها علواً واستكباراً كما قال الله سبحانه وتعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] ومع ذلك لم يفده هذا الإقرار. وإبليس عليه من الله ما يستحق من اللعن والسخط أيضاً مقر بألوهية الله سبحانه وتعالى، وإنما اعترض على أمر من أوامره، فأبى -استكباراً- السجود لآدم، فكان عاقبته أن عُوقب بما ذكره الله سبحانه وتعالى من اللعن والطرد، والعقوبة التي تنتظره في الآخرة أعظم وأكبر، وأمثالهما.

يقول رحمه الله: (وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون: إن هذا حق) يعني: ما ذكرنا من وجوب إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وأن هذا الذي جاءت به الرسل، يقولون: إن هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكنا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، فيُسوغون وقوع الشرك منهم بهذا الذي ذكروه من أن هذا لا يجوز عند أهل بلدهم، وأنه لا يوافق أهل بلدهم إلا بموافقتهم على الشرك أو غير ذلك من الأعذار !

قال رحمه الله: (ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق)، فمعرفة الحق ليست هي المطلوبة فقط، بل المطلوب معرفة الحق والعمل بمقتضاه؛ ولذلك قال: غالب أئمة الكفر يعرفون الحق كما قال تعالى عنهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14]، واليقين مُنتهى العلم لكن جحدوها فلم تنفعهم هذه المعرفة ولا هذا اليقين، يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، وتختلف أعذار الناس؛ فمن الناس من يعتذر بالقبيلة وبالعشيرة، ومن الناس من يعتذر بالأهل، ومن الناس من يعتذر بالبلد، ومن الناس من يعتذر بالمال والجاه والمنصب، ومن الناس من يعتذر بالضعف، وما إلى ذلك من الأعذار، فتعددت الأعذار والمآل أو المنتهى واحد، وهو عدم القيام بما فرض الله سبحانه وتعالى من وجوب إفراده بالعبادة كما قال تعالى: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً [التوبة:9] فهم يعرفون آيات الله سبحانه وتعالى إلا أنهم استبدلوا بهذه الآيات البينات ثمناً قليلاً بخساً، فأخذوا هذه الدنيا عوضاً عن جنة عرضها السماوات والأرض.

يقول: وغير ذلك من الآيات كقوله: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] أي: يعرفون الحق ويعرفون صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم.

الآن انتهينا من القسم الأول، وهو أن التوحيد لابد فيه من المعرفة مع العمل، فلا يكفي في التوحيد المعرفة فقط، حتى لو كان معتذراً بالمعاذير التي ذكر.

(فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه؛ فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145])، فمن أظهر الإيمان، والتزم شعائر الإسلام إلا أنه لم يقرَّ بذلك قلبه، ولم يرسخ ذلك في قلبه، فإن ذلك لا ينفعه، إذ أنه ممن حسن ظاهره، وخبث باطنه، والله سبحانه وتعالى إنما يطلع ويحاسب العبد في الأصل على قلبه، وما يظهر من الجوارح هو فرع عما في القلب: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، هذا في الأصل، وأعمالكم في الفرع، فلابد من إقامة الباطن وإقامة الظاهر على ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه.

قال رحمه الله: (فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص)، لاشك أن دلالة القرآن على أن المنافقين شر من الكفار ظاهرة، فالله سبحانه وتعالى أخبر عن عذاب الكفار إلا أنه خص المنافقين بقوله جل وعلا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].

ثم قال رحمه الله: (وهذه المسألة مسألة طويلة، تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مُداراة لأحد، وترى من يعمل به ظاهراً -يعني: بالدين- لا باطناً، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه، ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله)، يعني: هاتين الآيتين من كتاب الله توضح لك صدق ما تقدم من وجوب الإقرار بالتوحيد ظاهراً وباطناً، وأنه لابد فيه من قول القلب وعمل القلب، وقول اللسان وعمل الجوارح.

قال رحمه الله: (أولاهما قوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] فإن الله سبحانه وتعالى لم يقبل منهم عذراً بعد أن وقع منهم ما يناقض التوحيد، فأبطل عذرهم ورده عليهم.

قال الشيخ رحمه الله: (فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفاً من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها) كان هذا أعظم لأنه تبين له الحق وعرفه وخالفه عن قصد وإرادة جازمة، وأما الذي يمزح فهو هازل فهو دون ذلك الذي قصد المخالفة وعلم بعاقبتها، وهو ما خالف هازلاً ولاعباً، وليس كالذي خالف قاصداً عازماً جازماً، فينبغي للعبد أن يحذر الكفر، وألا يعتذر لنفسه في مواقعة الكفر بأي عذر كان، بل يجب عليه أن يقلع عن الكفر، وقد قال الله سبحانه وتعالى في انتفاء العذر عمن تبين له الحق وعرفه: بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15]، فقد تغش الناس بأعذارك، وقد يعذرك الناس بظاهر حالك أو بحسن بيانك وقولك، ولكن الله الذي يطلع على السرائر، قد قالها في كتابه جل ذكره: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66]، فالكفر لا تقبل فيه الأعذار؛ ولذلك ينبغي على العبد أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يحذر الشرك صغيره وكبيره، فإن الشرك أعظم الظلم كما تقدم بيانه في غير هذا الموضع.

قال رحمه الله: (والآية الثانية: قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:106-107] قال رحمه الله في التعليق على الآية: (فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان -منشرحاً بالإسلام- وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة) فمن واطأ كفره الظاهر الذي أكره عليه انشراحاً في القلب وميلاً وسكوناً وطمأنينة بالكفر فإنه يكفر ولو كان مكرهاً، والذي استثناه الله سبحانه وتعالى من فعل الكفر أو قاله وهو مكره عليه مع انشراح قلبه بالإسلام، واطمئنانه إلى الإيمان، أما ما عدا ذلك فهو كافر.

قال رحمه الله: (أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعل على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره).

قال رحمه الله: (فالآية تدل على هذا من وجهين أي: على أنه لا يعذر إلا من أكره مع اطمئنان قلبه وانشراحه بالإيمان، قوله: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ) فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل)، وأما على الاعتقاد فلا يكرهك أحد على أن تعتقد ما حرم الله سبحانه وتعالى عليك اعتقاده، فالقلب لا سبيل إليه، أما الظاهر واللسان فإن السبل إليه كثيرة، فقد عذر الله سبحانه وتعالى ظهور الكفر بسبب الإكراه الملجئ على اللسان والجوارح، أما على القلب فإنه سبحانه وتعالى لم يعذر في ذلك أحداً؛ وذلك أنه لا سبيل إلى تحويل ما في القلب إلا إذا كان القلب فاسداً، أما إذا كان القلب مطمئناً بالإيمان، صحيحاً سليماً معافى فإنه لو وضع عليه ما وضع عليه من العذاب فإنه لا يمكن أن ينصرف عن الإيمان والإسلام إلى الكفر والإلحاد، بل سيكون مستقراً مطمئناً بالإيمان، وشواهد هذا في حياة الصحابة وحياة من بعدهم من التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين كثيرة جداً.

ويفهم من كلامه (لا يكره على الكلام أو الفعل) أن الآية تشمل الإكراه في القول والإكراه على الفعل، فمن أكره على قول الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان إكراهاً ملجئاً لم يضره ذلك، ومن أكره على فعل الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك أيضاً، وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إن الإكراه الذي يعذر به العبد هو في القول فقط، وأما الإكراه في الفعل فإنه لا يجوز أن يفعل فعلاً شركياً ولو أكره على ذلك، ولو كان الإكراه مُلجئاً يئول به إلى فقد حياته، والصواب هو القول الأول، وهو الذي عليه جمهور أهل العلم، أن الإكراه الذي يسوغ الوقوع في الكفر يستوي فيه الإكراه على قول الكفر أو الإكراه على فعل الكفر، ثم قال: (وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد).

ثم قال رحمه الله: (والثانية: قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:107] فلما استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة كان ذلك سبب كفرهم، فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد والجهل والبغض للدين ومحبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم وأعز وأكرم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين).

تم بحمد الله وتوفيقه، وبهذا نكون قد انتهينا من كشف الشبهات، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم من المباركين.