شرح كشف الشبهات [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المؤلف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه كشف الشبهات:

[بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وعلى سائر عباد الله الطيبين الصالحين. أما بعد:

اعلم -رحمك الله- أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسّر صور هؤلاء الصالحين، أرسله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده؛ مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين].

نبدأ بهذه الرسالة المباركة، التي ألفها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وسماها كشف الشبهات، وقد أجاد وأفاد رحمه الله في هذه الرسالة كعادته في رسائله وكتبه؛ فإنه فند شبه المبطلين، ودحض أقوالهم، وبين زيفها، مستنداً في ذلك كله على الكتاب والسنة، ومعتصماً بما جاء عن السلف الصالح رحمهم الله.

وهذا الكتاب له منزلة عظيمة، إذ فيه تفنيد أقوال أعداء الله ورسوله من المشركين والمعاندين لدعوة الرسل؛ ولذا فقد أثنى عليه الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله ثناءً عاطراً في كتابه (الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق)، فقال رحمه الله في الثناء على هذا الكتاب وبيان منزلته: (صنف الشيخ رحمه الله كشف الشبهات، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان ما أورده أعداء الله ورسوله من الشبهات، فأدحض حججهم، وبين تهافتهم، وكان كتاباً عظيم النفع على صغر حجمه، جليل القدر انقمع به أعداء الله، وانتفع به أولياء الله، فصار علماً يقتدي به الموحدون، وسلسبيلاً يرده المهتدون، ومن كوثره يشربون، وبه على أعداء الله يصولون، فلله ما أنفعه من كتاب، وما أوضح حججه من خطاب، لكن لمن كان ذا قلب سليم، وعقل راجح مستقيم).

وهذا الثناء العاطر في محله، وسيتبين لنا هذا إن شاء الله تعالى من خلال استعراض ما في هذا الكتاب من شبه، وكيف أجاب الشيخ رحمه الله على هذه الشبه، وفندها شبهةً شبهة.

الكتاب اسمه (كشف الشبهات) والكشف هو: الإبانة والإزالة، والشبهات جمع شبهة، والشبهة في اللغة هي: الالتباس والاختلاط، وفي الاصطلاح: التباس الحق بالباطل واختلاطه حتى لا يتبين، وقد عرف الشبهة ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة تعريفاً جيداً فقال: (وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق).

والشبهات أحد نوعي الفتن التي ترد على القلوب؛ فإن القلب مغزوٌ بفتنة الشبهة وبفتنة الشهوة، وفتنة الشبهة أخطر إذ أنها إذا أنشبت أظفارها في قلب العبد قلَّ أن ينجو؛ ولذا فإن السلف رحمهم الله كانوا يتباعدون عن الشبه، ويحرصون على عدم الجلوس في المجالس التي تورد فيها الشبه، بل كان أحدهم لا يسمع من المشبهين المبتدعين أهل الأهواء حتى قول الله وقول الرسول، كما ورد ذلك عن ابن سيرين رحمه الله، فإنه جاءه رجلان ممن عرفوا بالبدعة والشبهة فجلسا بين يديه يريدان أن يقرأا عليه آية، فقال: (إما أن تقوما وإما أن أقوم) فلا حل وسط، وذلك أن دينهم عزيز عليهم، فكانوا يحرصون على التباعد عن الشبهات إلى هذه الدرجة، بل كانوا لا يسمحون لأهل البدع وأهل الشبهات وأهل الأهواء ولا بكلمة واحدة، وهذا مستفيض، ويمكن الوقوف عليه من خلال مطالعة الكتب التي حفظت أقوال السلف، ككتاب السنة للإمام عبد الله بن أحمد والإبانة للعكبري وغيرهما من الكتب.

منهج السلف في البعد عن الشبهات

كان السلف رحمهم الله يحرصون على التباعد عن الشبه، وهذا منهج قرآني، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر العباد بأن يبعدوا عن الذين يخوضون في آيات الله، فقال سبحانه وتعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:140]، وقال جل ذكره: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:68]، والخوض في الشبهات وإيرادها هو من الخوض في آيات الله؛ ولذلك تدل هذه الآية على ما كان عليه السلف رحمهم الله من تباعد عن الشبهات، وحرص على النأي عنها.

سبب الشبهة ومآلها

سبب الشبهة أحد أمرين: قلة في العلم أو ضعف في البصيرة، فكل شبهة تنشب أظفارها في قلب عبد إنما هي لأجل ضعف في علمه، أو ضعف في بصيرته، فمن كان على علم راسخ وبصيرة نبوية نجا من الشبهات.

ومآل الشبهات الكفر أو النفاق أو البدعة، فمن أنشبت الشبه أظفارها في قلبه فإما أن يقع في الكفر، وإما أن يقع في البدعة، وإما أن يقع في النفاق، فما كفر من كفر ولا ابتدع من ابتدع ولا نافق من نافق إلا لأجل شبهة في قلبه أوجبت هذا الأمر، ولا نجاة للعبد من الشبهات إلا بتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اقتفى العبد أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهديه ظاهراً وباطناً، وحكّم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في دق أمره وجليله، وفي ظاهر أمره وباطنه؛ فإنه ينجو من الشبهة، وقد تكلم ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً في إغاثة اللهفان في المجلد الثاني في صفحة ستين ومئة (160) عن فتنة الشبهة، وطريق النجاة منها، فمراجعته مفيدة.

كان السلف رحمهم الله يحرصون على التباعد عن الشبه، وهذا منهج قرآني، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر العباد بأن يبعدوا عن الذين يخوضون في آيات الله، فقال سبحانه وتعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:140]، وقال جل ذكره: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:68]، والخوض في الشبهات وإيرادها هو من الخوض في آيات الله؛ ولذلك تدل هذه الآية على ما كان عليه السلف رحمهم الله من تباعد عن الشبهات، وحرص على النأي عنها.

سبب الشبهة أحد أمرين: قلة في العلم أو ضعف في البصيرة، فكل شبهة تنشب أظفارها في قلب عبد إنما هي لأجل ضعف في علمه، أو ضعف في بصيرته، فمن كان على علم راسخ وبصيرة نبوية نجا من الشبهات.

ومآل الشبهات الكفر أو النفاق أو البدعة، فمن أنشبت الشبه أظفارها في قلبه فإما أن يقع في الكفر، وإما أن يقع في البدعة، وإما أن يقع في النفاق، فما كفر من كفر ولا ابتدع من ابتدع ولا نافق من نافق إلا لأجل شبهة في قلبه أوجبت هذا الأمر، ولا نجاة للعبد من الشبهات إلا بتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اقتفى العبد أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهديه ظاهراً وباطناً، وحكّم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في دق أمره وجليله، وفي ظاهر أمره وباطنه؛ فإنه ينجو من الشبهة، وقد تكلم ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً في إغاثة اللهفان في المجلد الثاني في صفحة ستين ومئة (160) عن فتنة الشبهة، وطريق النجاة منها، فمراجعته مفيدة.

قال الشيخ رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم] تقدم لنا أن البسملة متعلقة بفعل مقدر مناسب لحال الذاكر مؤخرٍ غالباً، وذكرنا غالباً لأجل أي شيء؟ لإخراج ما قدم فيه الفعل أو المتعلق قبل البسملة، مثل قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] فإنه قدم الفعل على البسملة وذلك لأهمية الأمر، وأيضاً في مثل قوله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، فبين مصدر الرسالة قبل البسملة لأهمية هذا الأمر، وإلا فالغالب أن الفعل يكون مؤخراً، وفهم هذا يفيدك لأن البسملة ترد في كل كتاب.

قال رحمه الله: [اعلم -رحمك الله- أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة] افتتح رحمه الله رسالته بتعريف التوحيد، فقال: التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهذا التعريف هو لأهم أنواع التوحيد؛ فإن أهم أنواع التوحيد هو توحيد الإلهية، الذي دعت إليه الرسل، وجاءت به الأنبياء، فإن الرسل دعت إلى إفراد الله بالعبادة، وإن كانت قد دعت إلى توحيد الربوبية واستدلت به وذكرته، وأيضاً ذكرت توحيد الأسماء والصفات، إلا أن أصل البعثة هو لتقرير عبودية الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فعرّف الشيخ رحمه الله التوحيد بأهم أنواعه وهو توحيد الإلهية.

والتعريف العام للتوحيد هو: إفراد الله تعالى بما يختص به في الربوبية وفي الإلهية وفي الأسماء والصفات، وهذا أشمل ما يقال في تعريف التوحيد، أما تعريفه هنا فهو -كما ذكرنا- بأهم أنواعه، ويمكن أن يقال: إن الشيخ رحمه الله اقتصر بذكر تعريف توحيد الإلهية؛ لأنه في هذا الموضع سيجيب على الشبه الواردة على توحيد الإلهية، فهو لن يتكلم على شبه المبتدعة والضالين في باب الأسماء والصفات، إنما سيتكلم على شبه الذين ابتدعوا في باب توحيد الإلهية، ولذلك عرّف التوحيد بقوله رحمه الله: هو إفراد الله تعالى بالعبادة.

والعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا أحد التعاريف التي تعرف بها العبادة، وذكر شيخ الإسلام تعريفاً آخر، وهو مختصر وجامع، فقال: العبادة هي كل ما أمر الله به ورسوله، فكل ما أمر الله به ورسوله فهو عبادة، والأمر إما أن يكون أمر إيجاب أو يكون أمر استحباب.

التوحيد هو دين الرسل

ثم قال رحمه الله: [وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده] الضمير في قوله: (وهو) المراد به توحيد العبادة، دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فالله سبحانه وتعالى أرسل الرسل إلى عباده بإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، ودليل هذا قول الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، (لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) أي: لا إله إلا الله، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وهي تقتضي إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وأيضاً قال جل ذكره: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2]، وقال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين: (الأنبياء إخوة لعلات: أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)، فهذا يدل على وحدة الرسالة، وأن الرسل جاءوا جميعاً بتقرير توحيد الإلهية، وبدعوة الناس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده دون غيره.

قال الشيخ رحمه الله: [فأولهم نوح عليه السلام]، ودليل أوليته قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، فهذه الآية تشير إلى أن أول من أوحى الله إليه من الرسل هو نوح عليه السلام، وأصرح من هذا في الدلالة على أولية رسالة نوح عليه السلام ما في الصحيحين من حديث أنس وغيره في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء؛ فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، وفي رواية مسلم قال: (فيأتون نوحاً ويقولون: أنت أول الرسل إلى الأرض)، وكل هذا صريح بيّن في أن أول الرسل نوح عليه السلام.