شرح كشف الشبهات [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.

وبعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد)، كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا لهم، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات، أو نبياً مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18] وكما قال تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ [الرعد:14]، وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم؛ عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله ].

يواصل الشيخ رحمه الله التقديم لهذه الشبهات التي سيجيب عليها، فيقول رحمه الله: (فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا) أي: بتوحيد الربوبية (ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد)، كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم إلى الله ليشفعوا لهم، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات، أو نبياً مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجـن:18]).

هذا فيه بيان أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا ينقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، إذ أن الإقرار بتوحيد الربوبية أمر فطر الله سبحانه وتعالى عليه الخلائق، فكل الخلق يقرون بأن الله هو المالك، وأنه هو الخالق، وأنه هو المدبر، وأنه هو الرزاق، وإنما اختلف الخلق، وتشعبت طرقهم، وتباينت مذاهبهم؛ في صرف العبادة لله سبحانه وتعالى؛ فمن الخلق من أفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة، فلم يصرفوها لغيره، وهؤلاء هم المتبعون للرسل، ومنهم من تنكب عن هذا السبيل، وخالف طريق المرسلين؛ فصرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء هم أعداء الرسل الذين بعثت الرسل لمحاربتهم، ودعوتهم إلى دين الحق.

يقول رحمه الله: (وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها لله، وجميع العبادات كلها لله) علمت بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا إلى التوحيد، وأنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس بألا يصرفوا أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، وبهذا تفهم أن الدعوة التي جاءت بها الرسل هي إفراد الله بالعبادة؛ فمعنى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله، وبالتالي لا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره تعالى، فكل ما ثبت أنه عبادة فصرفه لله سبحانه وتعالى توحيد جاءت به الرسل، وصرفه لغيره سبحانه وتعالى شرك نهت عنه الرسل.

يقول: (وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك، هو الذي أحل دماءهم وأموالهم؛ عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وأنه توحيد الألوهية الذي مقتضاه إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة).

لا شك أن المشركين أبوا الإقرار بهذا التوحيد، ولذلك وقعت الخصومة بينهم وبين الرسل.

قال رحمه الله: (هو الذي أحل دماءهم وأموالهم)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)، وفي حديث طارق بن أشيم عند مسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله)، فعلمنا أن الذي جعله الله سبحانه وتعالى ورسوله محرِّماً للدم والمال، وعاصماً لهما؛ هو الإقرار بالتوحيد، الذي هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، فمن لم يقم بذلك فإنه مباح الدم والمال، ولا حرمة لدمه وماله.

ثم قال رحمه الله: (وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله)، فمعنى قولك: لا إله إلا الله: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وذكرنا لكم أن العبادة هي: كل ما أمر الله به ورسوله، فكل ما أمر الله به ورسوله من العبادة التي لابد من إفراد الله سبحانه وتعالى بها، فقولك: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله.

يستطرد الشيخ رحمه الله في بيان التوحيد الذي جاءت به الرسل فيقول: [فإن الإله عندهم -يعني: عند العرب- هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور]، لأجل هذه الأمور المراد بها العبادة، وقد تنوعت أقوال العلماء رحمهم الله في تعريف الإله، فمنهم من قال: الإله اسم جنس يطلق على كل ما عبد بحق أو باطل، فكل ما عبد بحق أو باطل فإنه يطلق عليه إله، لكن غلب استعمال هذا اللفظ فيمن عبد بحق، وعرّفه شيخ الإسلام رحمه الله بأنه المعبود المطاع، وعرفه ابن القيم بأنه الذي تألهه القلوب، يعني: تعبده وتحبه، فإله بمعنى مألوه، ككتاب بمعنى مكتوب، وأشمل ما وقفت عليه من التعاريف لهذه الكلمة هو ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبعض تلاميذه وأتباعه على دعوته حيث ذكروا أن الإله هو الذي يقصد بشيء من العبادة كما هو ظاهر من كلامه هنا، قال: (فإن الإله هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور) أي: لأجل العبادة، فالإله اسم جنس لكل ما قصد بشيء من العبادة، فكل ما توجه إليه العبد بشيء من العبادة أو قصده بصورة من صور التعبد فإنه قد اتخذه إلهاً، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة خارجين لغزوة حنين، وطلب منه بعضهم أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط؛ جعل ذلك اتخاذاً لهذه الشجرة آلهة، فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده! كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ))، وهذا يدل على أن كل من قصد بشيء من التعبد فإنه إله، ولو كان القصد بشيء من التعبد، وليس بكل التعبدات، فمن صرف مثلاً الدعاء لغير الله، فسأل غير الله فإنه قد وقع في الشرك، ولو كان قد أخلص في الصلاة وفي الحج وفي الصيام وفي باقي العبادات، فصرف أي نوع من أنواع العبادة يوقع الإنسان في الشرك الذي هو اتخاذ إلهٍ من دون الله.

فقوله: (فإن الإله هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور) يفيدنا أن الإله هو ما قصد بشيء من العبادة، وعليه نعرف ونفهم بطلان ما ذهب إليه الذين يفسرون كلمة الإله بالخالق، أو بالقادر على الاختراع، أو بالصانع، كما سيتبين بعد قليل من كلام الشيخ.

يقول: (سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو شجرة، أو قبراً، أو جنياً) يعني: سواء كان المقصود بهذه الأنواع من العبادات أو ببعضها ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرةً أو قبراً أو جنياً، فكل ما قصدته بشيء من العبادة فهو إله.

قال: (لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر) فالعرب لم يكونوا يفهمون من كلمة الإله أنه الخالق الرازق المدبر.

قال: (فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده) أي: يعلمون أن الخلق والملك والرزق والتدبير لله وحده، كما تقدم في الآيات الدالة على أن المشركين كانوا يقرون بأن الله هو المالك، وأن الله هو الرازق، وأن الله هو المدبر، وأن الله هو الخالق، يقول: (وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) الذي يصرفون له أنواع العبادة، وهذا موجود في بعض البلدان والأماكن فيطلقون على من يصرفون لهم أنواع العبادة: السادة أو الأولياء أو الصالحين، أو بما اصطلحوا عليه من الألفاظ التي سموا بها هؤلاء الذين يصرفون لهم العبادة من دون الله.

قال الشيخ رحمه الله: [فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله] فإنها هي دعوة الرسل، وتقدم الدليل على ذلك، وفي حديث ابن عمر في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، فالدعوة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم هي دعوتهم إلى عبادة الله وحده دون غيره، ولا إله إلا الله معناها الذي يجهله كثير من المسلمين هو: لا معبود بحق إلا الله، وتقدم لنا أن الإله هو المعبود المطاع، فتنزيل هذا المعنى على هذه الجملة يبين لك أن معناها لا معبود بحق إلا الله، واحتجنا إلى تقدير الخبر؛ لأن الجملة الاسمية لا تتم إلا بمبتدأ وخبر، فاحتجنا إلى التقدير، وهنا إذا قلنا: لا إله إلا الله، ولم نقدر خبراً، فإن الجملة لا تتم، إذ أن (لا) لا تعمل في المعارف، وبالتالي لا يصلح أن يكون لفظ الجلالة في قوله: (إلا الله) خبراً، فاحتجنا إلى تقدير الخبر، والخبر المقدر أصح ما يقال فيه: إنه حق، يعني: لا إله حق إلا الله، ودليل صحة ذلك التقدير قوله جل وعلا: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32] فيكون أحسن ما قدر في هذه الجملة أن تقول: لا معبود حق أو بحق إلا الله، فيكون لفظ الجلالة بدلاً عن الخبر وليس هو الخبر.

إذاً: عرفنا أن هناك تقديراً، والتقدير أصح ما يقال فيه: إنه حق، ووجه هذا التقدير قوله تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ [يونس:32]، ولو قال قائل: لا حاجة للتقدير، والمعنى: لا معبود إلا الله، قلنا: هذا لا يستقيم على لسان العرب، بل لابد من التقدير، وبعضهم قدر (موجود) وهذا فيه نظر، يعني: لا إله موجود إلا الله، قدر الخبر بموجود، وهذا فيه نظر، وأصح ما يقال في التقدير هو ما ذكرناه قبل قليل، وهو الذي يسلم من الاعتراضات الواردة على تقديره بموجود.

قال الشيخ رحمه الله: [والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها]، وهذه أول الانحرافات التي وقعت في هذه الكلمة، وهي أن بعض المنتسبين لملة الإسلام ظنوا أن الكلمة تفيد ما يترتب عليها من أحكام بمجرد نطق اللفظ دون التقييد بالمعنى، ولا شك أن هذا انحراف خطير؛ فإن (لا إله إلا الله) كلمة يطلب لفظها ومعناها؛ ولذلك وقعت الخصومة بين الرسول وقومه؛ فإنه لو كان المطلوب مجرد الكلمة لقالوها وأدوها، لكن علموا أن المراد هو معنى الكلمة، وسيذكر الشيخ عنهم ما يدل على أنهم فهموا أن المعنى هو المراد فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب منهم مجرد التلفظ بهذه الكلمة لما استعجبوا ولما استغربوا من هذا الطلب، إذ أنه لفظ مجرد عن معناه، ولا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا باستيفاء شروطها، وتقييدها بالقيود كما ورد ذلك عن السلف.

قال الشيخ رحمه الله: [والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه]، فمعنى لا إله إلا الله: إفراد الله بالعبادة، ومعناها البراءة من الشرك وأهله، ولذلك ذكر الشيخ رحمه الله في الثلاثة الأصول أن الذي يفسر معنى هذه الآية هو قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27] فجعل تفسير لا إله إلا الله البراءة من الشرك وأهله، وإفراد الله سبحانه وتعالى بالتوحيد والعبادة؛ ولذلك لا يصح التوحيد إلا بالجمع بين إفراد الله بالتوحيد وبين البراءة من الشرك وأهله، فلو أفرد العبد الله بالتوحيد لكنه لم يقم بالبراءة من الشرك وأهله؛ فإنه لا ينفعه ذلك بشيء، قال الله جل ذكره: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256].

فرتب الله سبحانه وتعالى الاستمساك بالعروة الوثقى على أمرين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، فلو آمن بالله: بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ولم يكفر بالطاغوت؛ لم ينفعه ذلك بشيء، إذ أن من مقتضيات إفراد الله بالعبادة الكفر بما يعبد من دونه، كما قال جل ذكره: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، ويدل عليه أيضاً ما في صحيح مسلم من حديث طارق بن أشيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه) ، فرتب تحريم الدم والمال على قول: (لا إله إلا الله)، والكفر بما يعبد من دون الله، ولذلك فسر الشيخ رحمه الله المراد بهذه الكلمة فقال: هو إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، يعني: البراءة مما عبد من دون الله؛ فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]؛ فاستعظموا واستغربوا -قاتلهم الله- أن يفرد الله بالعبادة، مع أنهم يقرون أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا محيي ولا مميت إلا الله، ومع ذلك استغربوا كيف تصرف العبادة لواحد؟! وضاقت عقولهم عن أن يتوجهوا لله سبحانه وتعالى وحده دون غيره فقالوا: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) يعني: في منتهى العجب، ومنتهى الاستغراب، أن نصرف العبادة لواحد.

ولا شك أن ما استعجبوا منه ليس بعجيب، بل هو الذي تدل عليه العقول الصحيحة؛ فإن من كان يرزق وحده، ومن كان يملك وحده، ومن كان يخلق وحده، ومن كان يدبر وحده؛ فهو المستحق أن يعبد وحده، ولذلك كانت الرسل تستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية، وتقرر توحيد الإلهية بتقرير توحيد الربوبية، ولكن لما فسدت قلوب المشركين فسدت عقولهم.

قال الشيخ رحمه الله: [فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار!]، ما الذي عرفه جهال الكفرة من هذه الكلمة؟

عرفوا أن تفسير هذه الكلمة: هو إفراد الله بالعبادة، والكفر بما عبد من دونه، والبراءة منه، هذا الذي فهمه الكفار، فالعجيب ممن ينتسب إلى الإسلام ولا يفهم من هذه الكلمة ما فهمه جهال الكفار!

قال الشيخ رحمه الله: [بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني].

انتهينا من الانحراف الأول الذي وقع في مفهوم لا إله إلا الله، والانحراف الثاني أشار إليه الشيخ رحمه الله فيما تقدم، ونص عليه ثانياً هنا.

فقال رحمه الله: [والحاذق منهم -يعني من هؤلاء الجهال- يظن أن معناها -أي: معنى لا اله إلا الله- لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله].

ثم قال الشيخ: [فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله]، ولا شك أن تفسير لا إله إلا الله بهذه الكلمات انحراف وضلال، وقد تقدم الإشارة إلى هذا، ووجه ضلال من فسر لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، ولا صانع إلا الله، ولا مخترع إلا الله، يتبين من عدة وجوه:

الوجه الأول: أن المعنى اللغوي لكلمة (إله) المعبود المطاع، وليس في معاجم العرب ولا في ألسنتهم أن معنى الإله الخالق، ولا أن معنى الإله الرازق، ولا أن معنى الإله المالك، ولا أن معنى الإله المدبر، ولا أن معنى الإله المتصرف والمخترع والصانع، بل لسان العرب يدل على أن معنى الإله هو المألوه، أي: المعبود، وهذا يمكن الوقوف عليه من خلال مطالعة معاجم اللغة، بل من معرفة الكفار للمعنى الذي طولبوا به؛ فإنهم فهموا من مطالبة الأنبياء لهم بلا إله إلا الله أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة.

الوجه الثاني: التفسير لكلمة لا إله إلا الله بأنه لا خالق أو لا مدبر أو لا مالك أو لا مخترع أو لا صانع إلا الله، لم يعرف ولم ينقل عن أحد من السلف.

الوجه الثالث: أن المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بأنه لا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، كما تقدم بيانه، فلو كان معنى لا إله إلا الله لا خالق إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مخترع ولا صانع إلا الله، لما كانت هناك خصومة بين الرسل وأقوامهم، ولما وقع الخلاف، ولما قالوا: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)، إذ أنهم يقرون بأنه لا خالق ولا مالك ولا مدبر ولا صانع إلا الله.

الوجه الرابع مما يتبين به بطلان هذا التفسير: أن هذا تفسير باللازم؛ فإن من لازم الإله أن يكون خالقاً ومالكاً ومدبراً وصانعاً ومخترعاً ورازقاً، والتفسير باللازم لا يسوغ إذا كان يقتضي تعطيل المعنى الحقيقي للكلمة، فلابد من تعريف الشيء بحقيقته، ولا بأس بذكر اللوازم، أما أن نقصر معنى الكلمة على لوازمها، ونعطلها عن معناها الذي تدل عليه؛ فإن هذا انحراف وضلال.

إذاً: تبين لنا بطلان هذا التعريف من خلال هذه الأربعة الأوجه.

إذاً: هناك نوعان من الانحراف في لا إله إلا الله.

الانحراف الأول عند من يقولون: نكتفي بلفظها دون معناها: والانحراف الثاني: عند من يفسرونها بأنه لا خالق ولا مالك ولا مدبر إلا الله.

واعلموا -أيها الإخوة- أن كثيراً من الكتاب المتأخرين يفسرون لا إله إلا الله بهذا التفسير، وهذا ناشئ؛ لأن التوحيد -الذي هو غاية المطلوب- عند كثير من المتكلمين هو أن تقر بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ولا شك أن هذا انحراف، فإنهم انتهوا إلى حيث ابتدأ الرسل، فالرسل كانوا يبتدئون من توحيد الربوبية وينتهون إلى تقرير توحيد الإلهية، وهؤلاء يبتدئون من أنواع من الضلالات وينتهون إلى تقرير توحيد الربوبية.