شرح العقيدة الطحاوية [14]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فقال المصنف رحمه الله: [ ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم.

والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة.

ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه. ]

قوله رحمه الله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) تقدم أن هذا الكلام ينفي فيه المؤلف رحمه الله عقد المرجئة الغلاة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب مهما كان، ويعرِّفون الإيمان بأنه المعرفة، ولا شك أن هذا من أردى الأقوال في تعريف الإيمان، وفي هذا تجرئة لكل صاحب عصيان أن يقع فيما شاء من مخالفة الملك الديان؛ لأنه إذا كان لا يضر مع الإيمان ذنب فالإيمان لا يتأثر ولا ينقص ولا يتغير بما يرتكب الإنسان من الذنوب وما يواقع من السيئات، فإن هذا يحمل العاصي على الاستمرار في عصيانه، والتمادي في خروجه عن الصراط المستقيم، وقد تقدم الكلام على هذا.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين) المحسنون من أهل الإيمان هم: الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن قصروا فهم يعبدون الله جل وعلا موقنين بأنه يراهم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) والمراد: أنهم عملوا بالطاعات، وانتهوا عن المعاصي والسيئات الظاهرة والباطنة، فهؤلاء نرجو لهم أن يعفو الله جل وعلا عنهم ما يكون منهم من التقصير والخطأ، فإنه مهما بلغ الإنسان في الإحسان فلابد وأن يكون عنده تقصير وإخلال مهما كان، حتى الأنبياء والرسل يكون منهم شيء من التقصير؛ ولذلك لا يأمن أحد على نفسه، ولا يجوز أن يأمن من مكر الله سبحانه وتعالى كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، بل يجب عليه أن يلاحظ ما معه من التقصير، وأن يراقب الله جل وعلا، وأن يخاف أن يؤاخذه سبحانه وتعالى بذنبه وسيئاته.

يقول رحمه الله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم) يعني: أن يعفو الله جل وعلا عنهم ما كان من التقصير، والعفو يتضمن الستر والتجاوز والصفح، فيستر عليهم ما كان من الذنوب، ويعفو ويتجاوز ويصفح عما كان من الذنوب.

قال: (ويدخلهم الجنة برحمته لا بعملهم) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنه لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني بالله برحمته) وهذا يوجب للإنسان عدم الاغترار بما يكون معه من الأعمال، مهما زكت، ومهما صلحت، ومهما كثرت، ومهما اجتهد في إتقانها فإنه إن لم تدركه رحمة الله جل وعلا فلا فلاح له ولا نجاح.

ومن توفيق الله ورحمته: أن يوفق الله جل وعلا العبد إلى العمل الصالح، فلا نجزم لأحد بفوز، ولا نقول: إنه من أهل الجنة كما قال رحمه الله: (ولا نأمن عليهم) أي: لا نأمن أن يغير الله حالهم، ولا نأمن أن يعاقبهم الله جل وعلا، فقد يغير الله حال المحسن إلى الإساءة، وقد يؤاخذ الله جل وعلا من ظاهره الإحسان بسيئ عمله، ومعلوم أن من أعمال القلوب التي لا تظهر للناس ما يكون سبباً لحبوط العمل مهما زكى وحسن.

فينبغي لأهل السنة ألا يأمنوا على أحد، ومن ذلك: ألا يأمنوا على أنفسهم، فإنه من أمن على نفسه مكر الله جل وعلا فإنه داخل في قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وهذا نفي الأمن إلا من الخاسرين: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] أتى في تقرير ذلك بالنفي والإثبات الدال على أن كل من أمن من مكر الله فهو خاسر، ومكر الله جل وعلا يدرك العبد بسيئ عمله، فإن الله لا يظلم الناس شيئاً، فإذا تمادى الإنسان في معاصيه ولو كانت صغيرة، أو اغتر بعمله الصالح وأعجب به، ورأى لنفسه فضلاً على الناس وارتفاعاً وعلواً؛ فلا يأمن أن يؤاخذه الله بما في قلبه، فيفضحه ويسيء خاتمته، وهذا معنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -في بعض الروايات : فيما يرى الناس- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).

فالواجب على المؤمن أن يحذر من الأمن من مكر الله، وألا يغتر بحاله الحاضرة، بل يكون على وجل مما يستقبل.

عدم الشهادة لمعين بالجنة إلا بنص

قال: (ولا نشهد لهم بالجنة) أي: لا نقول: إن فلاناً منهم في الجنة بعينه، فلا نشهد لهم بالجنة يعني: على وجه التعيين.

أما على وجه الإجمال فإننا نشهد بأن المؤمنين في الجنة، فقوله: (ولا نشهد لهم) أي: على وجه التعيين، أما على وجه الإجمال فإن أهل الإيمان وأهل الإحسان في جنات النعيم كما جاء ذلك في آيات كثيرة، أثبت الله جل وعلا فيها الجنة لأهل الإيمان.

ومما يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (ولا نشهد لهم بالجنة) الشهود لهم بموجب الجنة، فمن قتل في سبيل الله، لا نشهد له بأنه شهيد؛ لأننا إذا شهدنا بأنه شهيد فقد شهدنا له بالجنة؛ ولذلك عقد البخاري رحمه الله باباً في صححيه فقال: (باب: لا يقال: فلان شهيد) لأن في ذلك الشهادة له بأنه من أهل الجنة، بل الواجب ألا يشهد له بموجب الجنة.

ومما يلاحظ على هذه العبارة وهي قول المؤلف: (ولا نشهد لهم بالجنة) أنه أطلقها، وهذا يشمل كل أحد، وهذا ليس بصحيح، فإننا نشهد لمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، فنشهد للعشرة المبشرين بالجنة، ونشهد لكل من بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أنه من أهل الجنة؛ ولذلك كانت عبارة الإمام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله أتقن من عبارة المؤلف هنا، فإنه قال: ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا معناه بمفهوم المخالفة: أنهم لا يشهدون لمن لم يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهذا أحسن من قول المصنف هنا: ولا نشهد لهم بالجنة.

والذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كثر، وقد جمعهم بعض طلبة العلم من الأحاديث التي فيها الشهادة لهم بالجنة، ومن أبرز من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة العشرة المبشرون، وكذلك ثابت بن قيس بن شماس، وكذلك أمهات المؤمنين، وغيرهم كثير.

والمراد: أننا لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقيد هذا الإطلاق بهذا القيد.

قال: (ولا نشهد لهم بالجنة) أي: لا نقول: إن فلاناً منهم في الجنة بعينه، فلا نشهد لهم بالجنة يعني: على وجه التعيين.

أما على وجه الإجمال فإننا نشهد بأن المؤمنين في الجنة، فقوله: (ولا نشهد لهم) أي: على وجه التعيين، أما على وجه الإجمال فإن أهل الإيمان وأهل الإحسان في جنات النعيم كما جاء ذلك في آيات كثيرة، أثبت الله جل وعلا فيها الجنة لأهل الإيمان.

ومما يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (ولا نشهد لهم بالجنة) الشهود لهم بموجب الجنة، فمن قتل في سبيل الله، لا نشهد له بأنه شهيد؛ لأننا إذا شهدنا بأنه شهيد فقد شهدنا له بالجنة؛ ولذلك عقد البخاري رحمه الله باباً في صححيه فقال: (باب: لا يقال: فلان شهيد) لأن في ذلك الشهادة له بأنه من أهل الجنة، بل الواجب ألا يشهد له بموجب الجنة.

ومما يلاحظ على هذه العبارة وهي قول المؤلف: (ولا نشهد لهم بالجنة) أنه أطلقها، وهذا يشمل كل أحد، وهذا ليس بصحيح، فإننا نشهد لمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، فنشهد للعشرة المبشرين بالجنة، ونشهد لكل من بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أنه من أهل الجنة؛ ولذلك كانت عبارة الإمام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله أتقن من عبارة المؤلف هنا، فإنه قال: ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا معناه بمفهوم المخالفة: أنهم لا يشهدون لمن لم يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهذا أحسن من قول المصنف هنا: ولا نشهد لهم بالجنة.

والذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كثر، وقد جمعهم بعض طلبة العلم من الأحاديث التي فيها الشهادة لهم بالجنة، ومن أبرز من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة العشرة المبشرون، وكذلك ثابت بن قيس بن شماس، وكذلك أمهات المؤمنين، وغيرهم كثير.

والمراد: أننا لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقيد هذا الإطلاق بهذا القيد.

ثم قال رحمه الله: (ونستغفر لمسيئهم) الضمير يعود إلى المسيء من المؤمنين؛ لأنه قال: (نرجو للمحسنين من المؤمنين) والجملة معطوفة على ذلك، والمعنى: ونستغفر للمسيء من المؤمنين، والإساءة تكون إما بترك ما وجب عليه من الطاعات، أو بفعل ما نهاه الله عنه من المعاصي والسيئات.

فقوله: (نستغفر لمسيئهم) أي: نطلب من الله المغفرة لمسيئهم.

قوله: (ونخاف عليهم) أي: نخاف أن يدركهم ما ذكره الله جل وعلا في حق العصاة والمسيئين.

قوله: (ولا نقنطهم) أي: ولا نيئسهم من رحمة الله، ونقطع طمعهم في فضله ورحمته، بل نقول كما قال الله جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، وهذا يشمل كل ذنب صغير أو كبير، من الشرك فما دونه، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، لكن الشرك لابد فيه من التوبة، ولابد فيه من الإقلاع، قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فالشرك لا يغفره الله سبحانه وتعالى إلا بالتوبة منه والإقلاع عنه.

وأما ما عدا ذلك من الذنوب فإنه تحت المشيئة: إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء أخذه به، والمراد أننا نرجو لأهل الإحسان الخير، ونخاف على أهل الإساءة من المؤمنين أن يدركهم العذاب الذي ذكره الله للمسيئين.

حكم الشهادة لمعين بالنار

والمؤلف رحمه الله لم يذكر الشهادة بالنار، والشهادة بالنار هي كالشهادة بالجنة، فلا نشهد لأحد بعينه أنه في النار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه من أهل النار كـأبي جهل ، وفرعون، وأبي لهب ، وغيرهم ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم في النار، ومن عدا ذلك من الناس ولو كان من الكافرين فإننا لا نشهد له بعينه أنه في النار، فإذا مات كافر من الكفار لم نشهد له بعينه أنه من أهل النار؛ لأننا لا ندري ما الذي ختم له، وهذا هو الذي يظهر من اعتقاد أهل السنة والجماعة.

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكافر إذا مات على الكفر، وأدركنا عدم إسلامه بأن استمر على كفره إلى موته فإنه يشهد له أنه من أهل النار، واستدلوا لذلك بأثر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حيثما مررت بقبر عامري أو قرشي فبشره بالنار)، وفي رواية (حيثما مررت بمشرك فبشره بالنار)ولكن هذا الحديث في ثبوته نظر.

وإذا نظرنا إلى الكتاب والسنة نجد أنها لم تشهد بالنار في غالب الموارد إلا على الأوصاف لا على الأشخاص، فلا نشهد على أحد معينٍ بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، لكن نقول: ظاهر حاله أنه في النار؛ لأن القول بالظاهر لا إشكال فيه، لكن الشهادة التي هي القطع والجزم لا تكون إلا عن علم، والعلم لا يكون إلا ممن لا ينطق عن الهوى، وهو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

والمؤلف رحمه الله لم يذكر الشهادة بالنار، والشهادة بالنار هي كالشهادة بالجنة، فلا نشهد لأحد بعينه أنه في النار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه من أهل النار كـأبي جهل ، وفرعون، وأبي لهب ، وغيرهم ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم في النار، ومن عدا ذلك من الناس ولو كان من الكافرين فإننا لا نشهد له بعينه أنه في النار، فإذا مات كافر من الكفار لم نشهد له بعينه أنه من أهل النار؛ لأننا لا ندري ما الذي ختم له، وهذا هو الذي يظهر من اعتقاد أهل السنة والجماعة.

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكافر إذا مات على الكفر، وأدركنا عدم إسلامه بأن استمر على كفره إلى موته فإنه يشهد له أنه من أهل النار، واستدلوا لذلك بأثر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حيثما مررت بقبر عامري أو قرشي فبشره بالنار)، وفي رواية (حيثما مررت بمشرك فبشره بالنار)ولكن هذا الحديث في ثبوته نظر.

وإذا نظرنا إلى الكتاب والسنة نجد أنها لم تشهد بالنار في غالب الموارد إلا على الأوصاف لا على الأشخاص، فلا نشهد على أحد معينٍ بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، لكن نقول: ظاهر حاله أنه في النار؛ لأن القول بالظاهر لا إشكال فيه، لكن الشهادة التي هي القطع والجزم لا تكون إلا عن علم، والعلم لا يكون إلا ممن لا ينطق عن الهوى، وهو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ثم قال رحمه الله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) الأمن: هو عدم الخوف والخشية، والإياس: هو قطع الأمل والقنوط من الرحمة، وهذان جاءا متقابلان، فالأمن يحمل على الاسترسال في المخالفة والمعصية وعدم العمل بالطاعة، والإياس يحمل على اليأس وقطع الرجاء والقنوط من رحمة الله، وكلا هذين مما جاء التحذير منه.

أما الأمن من مكر الله فقد قال الله جل وعلا في إنكار من أمن مكره: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وحذر فقال: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]متين أي: شديد، وهذا يوجب الحذر من كيد الله ومكره.

وأما اليأس الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (والإياس) فقد جاء ما يدل على النهي عنه وذلك في قوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] وقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]فوصفهم الله عز وجل بالكفر ووصفهم بالضلال، ونهى أهل الإيمان والإسلام أن ييئسوا من رحمته فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]والنهي يقتضي التحريم، فالأمن والإياس محرمان في شريعة الإسلام، ولكن هل ينقلان عن ملة الإسلام بمعنى: أنه ينتقل إلى الكفر؟

الجواب: هذا فيه تفصيل، فليس كل أمن ينقل عن ملة الإسلام، ولا كل يأس ينقل عن ملة الإسلام، بل منه ما ينقل، ومنه ما لا ينقل.

فاليأس التام من رحمة الله ينقل، وكذلك الأمن التام ينقل، أما ما كان دون ذلك كما يعرض لبعض أصحاب الذنوب أو يعرض لأصحاب الشهوات فإنه سيئة وخطيئة وذنب لكن لا ينقل.

ومما يدلك على أن اليأس من رحمة الله لا ينقل في كل أحواله وموارده: أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه -كما ذكرنا في الدرس السابق- أصابه شدة يأس من جراء استباحته ما حرم الله من الخمر، فكتب له عمر رضي الله عنه ما كتب مما ذكر الله في أول سورة غافر، ثم قال: فلا أدري أي ذنبيك أعظم: استباحة الخمر أو يأسك من رحمة الله؟!

فينبغي للمؤمن أن لا ييئس من رحمة الله مهما عظم ذنبه، فإنه جل وعلا تتلاشى في جانب مغفرته وعفوه ورحمته وكرمه وبره وإحسانه الذنوب، فينبغي للمؤمن ألا يتعاظم ذنباً، ولا يظن أن الله لا يغفره، ولا يعني هذا: أن يستسيغ المعاصي والسيئات، وأن يهونها فتكون كالذباب الذي يقع على أنفه ويقول به هكذا ويطير، بل ينبغي أن تكون في خاطره وباله، ويكون منها على حذر ووجل، فإن الله إذا أخذ العبد بسيئته أهلكه ولو كانت صغيرة، ولذلك جاء تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الذنوب الصغير منها والجليل فقال: (إياكم ومحقرات الذنوب)محقرات أي: ما يحقره الإنسان، وما يراه سهلاً، (فإنهن يجتمعن على الرجل فيهلكنه) -نعوذ بالله من الخذلان- ومن خلى الله بينه وبين ذنوبه وأخذه بها فلا تسأل عنه، فإنه الهلاك الواضح المبين، لكن نسأل الله أن يعاملنا بعفوه، وأن يعيننا على طاعته.

إذاً: هاتان السوءتان مما يحصل التأثيم للإنسان فيهما، وقد يصل إلى حد الكفر، وقد يكون دون الكفر، والأمن هو أصل شبهة المرجئة، واليأس هو أصل شبهة الخوارج، فالمرجئة لما أمنوا من مكر الله استرسلوا في المعاصي، وقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وأما من قابلهم وهم الخوارج فرءوا أن أدنى ما يكون من الذنوب سبب للكفر والخروج عن الصراط المستقيم، فجعلوا الذنوب مكفرة، وكفروا الناس بالزنا وشرب الخمر وسائر الكبائر، وهذا من قنوطهم.

وانظر إلى ما تئول إليه البدع القلبية، فإن الأمن واليأس من بدع القلوب وانحرافاتها التي توقع الإنسان في أنواع من الضلال! ولا يسلم إلا من سلمه الله سبحانه وتعالى، واستمسك بالكتاب والسنة.

الجمع بين الخوف والرجاء

ثم قال رحمه الله: (وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) سبيل أي: طريق، والحق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد جاء بالهدى ودين الحق، سبيل الحق بينهما أي: بين هاتين الضلالتين بين الأمن واليأس، فإنه ينبغي للمؤمن أن يستصحب فضل الله ورحمته وواسع كرمه وعظيم جوده، فإن الله سبحانه قال عن نفسه: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] وينبغي -أيضاً- أن يستصحب أن الله شديد العقاب كما قال الله جل وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، فإذا أدرك العبد مجموع ذلك في قلبه حمله على الطاعة وترك المعصية، والتعبد لله عز وجل على أكمل حال؛ لأنه يرجو فضل الله إذا أحسن، ويخاف عقابه إذا أساء، وهذان لا يجتمعان للإنسان إلا بالرجاء والخوف، وهو ما يشير إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وسبيل الحق بينهما) أي: بين الرجاء والخوف، فإذا جمع الإنسان بين هذين وفق إلى الخير، وسلم من الشر، ووقاه الله شر الاعتماد على أحد هذين الأمرين، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الخوف والرجاء أيهما يغلب على أقوال:

أصحهما: أنه يختلف هذا باختلاف حال الإنسان، وإن كان الأصل أن يستوي الخوف والرجاء، والأصل أن يستوي الخوف والرجاء كما قال سبحانه وتعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي دخل عليه في حال الاحتضار، فقال له: (كيف تجدك؟! قال: أجدني أرجو رحمة الله وأخاف ذنبي، قال: ما اجتمع في قلب عبد مثل هذا إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو) فدل ذلك على أن الأصل استواء هذين.

ولكن قد يحتاج الإنسان إلى تغليب جانب من هذين لعارض، لحال أو لظرف اقترن، ومثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) وهذا يدل على تغليب جانب الرجاء، ولكن من إحسان الظن بالرب أن يعلم العبد أن الرب يؤاخذ على السيئة، فإن من ظن أن الله لا يؤاخذ على السيئة لم يحسن الظن بربه، بل اغتر كما قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6]، قال أحد المستهترين لما قرئت عليه هذه الآية: غرني به كرمه، وهذا لا ينفعه، فإن الكريم أخبر بأنه شديد العقاب.

فالواجب على المؤمن أن يسير إلى الله عز وجل بهذين الجناحين: الخوف والرجاء، فإذا جاء ما يقتضي تغليب جانب منهما غلبه، فالعاصي إذا غلب الرجاء استمر في عصيانه فنقول له: غلب الخوف حتى تنتهي عن معاصيك، والطائع إذا غلب الخوف قد يبلغ درجة اليأس فنقول له: غلب الرجاء في هذه الحال، لكن الأصل هو استواء هذين في قلب العبد؛

ولذلك ورد عن بعض السلف كالإمام أحمد وغيره: أن الخوف والرجاء بالنسبة للعبد كجناحي طائر، ومعلوم أن جناحي الطائر متقابلان تماماً، ولو حصل نقص في أحد الجناحين لاختل طير الطائر، بل لسقط.