تفسير سورة الأحقاف [18-25]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف:18] يقول ربنا عن هؤلاء العققة الكافرين الذين أشركوا بربهم وعقوا أبويهم وخرجوا عن دين الله، جزاؤهم أنه قد حق عليهم القول ووجب عليهم لعنة الله، حيث قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: قال الله عز وجل: (هؤلاء إلى النار ولا أبالي، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي).

هذا القول صدر عن الله في عذاب كل كافر وفي عذاب كل عاق، إذا هو لم يؤمن بالله ويتب مما أذنب فسيكون حاله كذلك عندما يبعث يوم القيامة.

فقوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [الأحقاف:18] أي: وجب عليهم العذاب في قول الله تعالى بأن هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار.

فقوله تعالى: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأحقاف:18] أي: مع أمم وشعوب قد كفرت بالله وقد سبقت ومضت وهلكت وبادت مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأحقاف:18] أي: ضمن أمم خلقت وسبقت من قبلهم من الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف:18] فهؤلاء الأمم خسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأحقاف:19] وقرئ: (وَلِيُوَفِّيَنّهُمْ أَعْمَالَهُمْ) وهاتان قراءتان متواترتان سبعيتان والمعنى واحد.

قوله: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأحقاف:19] هذا التنوين يقال عنه في النحو وفي لغة العرب: تنوين العوض، أي: لكل أمة ولكل فرد درجات وجزاء ومنزلة، فبعمله يجازى إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ودرجات الصالحين تعلو ودركات الكافرين تسفل.. فيقال عن منازل الصالحين: درجات، حيث تعلوا درجة بعد درجة، ومنازل الكافرين يقال عنها: دركات وتنزل إلى قعر جهنم، فأولئك يعلون، والكافرون ينزلون ويسفلون.

قوله: وَلِيُوَفِّيَهُمْ [الأحقاف:19] أي: ليعطيهم أجورهم وليجزيهم أعمالهم كاملة غير منقوصة، فالوفاء غير النقص حال كونهم لا يظلمون، فلا ينقص من عمل صالح ولا يزاد في عمل كافر، إن هو إلا العدل المطلق والقسطاس المستقيم.

قال تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20] يقال لأهل النار يوم القيامة وقد عرضوا عليها وجروا إليها: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20] أي: قد جاوزتم الحد في دنياكم من الإسراف وأكل الباطل وأكل الحرام والشهوات، فافتقدتموه في الآخرة، وأنتم بذلك قد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا وأنهيتموها فلا حياة طيبة ولا متعة بعد ذلك، فقد تمتعتم بالكفر والشرك بالله وعدم حمده على نعمه، وعدم الإيمان به.

قال تعالى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأحقاف:20] أي: تجزون عذاب الهون والعذاب المهين المذل، ثم ذكر الله سبب استحقاقهم هذا العذاب، فقال: بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأحقاف:20] فالباء سببية أي: بسبب تعظيمكم للحياة الدنيا وتكبركم على الناس بغير حق، فالكبر لا يجوز بحال، فكيف إذا كان بلا حق ولا سبب؟! فهو كفر وشرك وخسران؛ ومع ذلك تكبروا بكفرهم، وتعاظموا بشركهم، ورفضوا أمر ربهم، وظلموا المؤمنين وتعالوا عليهم.

قوله: وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20] والفسوق: الخروج عن الحق والخير، والخروج عن كل فضل وإيمان وعن كل ما يدعوك للطاعة وللامتثال.

ثبت في الأثر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هجر نساءه أو طلقهن، فصعد إلى علية حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيماً لمدة تسعة وعشرين يوماً، واستأذن عليه أولاً وثانياً وثالثاً فأذن له ولما يكد، فعندما دخل عليه لم يجد في الغرفة ما يرفع البصر فقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أهكذا أنت؟ وأنت رسول الله في هذا الجرف في شظف من العيش وكسرى وقيصر يرفلون في الخيرات والنعم! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس وقال: (يا ابن الخطاب ! أفي شك أنت؟ أولئك عجلت طيباتهم في الحياة الدنيا فقال عمر : استغفر لي يا رسول الله! قال: غفر الله لك)، وقال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (لقد أخفت في الله حيث لم يخف أحد، وأوذيت في الله حيث لم يؤذ أحد، ولقد كان يمضي عليَّ الثلاثون يوماً وليس عندي ما آكل إلا تمرات يحملها بلال تحت إبطه) هكذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهكذا الأخيار من الأنصار والمهاجرين زهدوا في الحياة الدنيا وفي الطيبات وفي المتع رجاء ما عند الله، وخوفاً من أن يدخلوا ضمن هذه الآية، ولقد قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: (لقد كان يمر على آل محمد الشهر والشهران ولا نوقد فيه ناراً، إن هو إلا الأسودان: التمر والماء) فما كانوا يجدون ناراً ينضجون عليها لحماً أو إداماً من زيت أو سمن أو لبن، وكان أكثر طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم خبز الشعير.

وقال أبو هريرة: لقد كنا أهل الصفة ثلاثمائة رجل ما عند أحدنا إلا رداء أو إزار يسفر نصف ساقه أو يصل إلى الكعبين ويمسكه بيده خوف أن تكشف عورته، وكان يمضي عليهم الأيام الطوال لا يأكلون فيها شيئاً، وكان سيدهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمكث الأيام الطوال لا يجد طعاماً، ويربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان ذلك عن رضاً منه واختيار منه، فقد عُرضت عليه جبال مكة وجبال المدينة على أن تكون له ذهباً وفضةً فأبى، وعُرضت عليه مع النبوة والرسالة الملك فقال: (لا، إن أنا إلا عبد رسول، أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر) وهكذا كانت حياة الصحابة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانوا سادة الناس، فقد نشروا الدين في المشارق والمغارب، وقد كان يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذوقون مرارة الجوع: (لست أخاف عليكم الفقر، ولكنني أخاف عليكم الغنى فتغنون فتتنافسون على الدنيا فيقتل بعضكم بعضاً) وهذا الذي توقعه عليه الصلاة والسلام وخافه على أمته هو الذي حدث، فلم يكد عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى الرفيق الأعلى وتمضي بضع سنين حتى استشهد عمر ثم استشهد عثمان ثم استشهد علي ثم استشهد الحسن ، وقامت الفتن وقتل فيها عشرات الآلاف من عباد الله الصالحين خير الخلق بعد الأنبياء، ملكوا المشارق والمغارب فتنافسوها فتقاتلوا عليها وأراق بعضهم دماء بعض في سبيلها، ولقد كانوا كما قال عليه الصلاة والسلام في حال فقرهم أعظم شأناً من حال غناهم وحال انتشار ملكهم وسلطانهم.

قال تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأحقاف:21] واذكر لقومك قصة أخي عاد، وأخو عاد هو نبيهم هود بن عبد الله بن رباح العادل، اذكر قصته مع قومه وما لقيه من كفر ومن تكذيب، ويقال للإنسان من العشيرة: أخ لها، ويقال: يا أخا قريش أي: يا قرشي .. يا أخا هاشم: أي يا هاشمي .. يا أخا أمية أي: يا أموي .. يا أخا المغرب أي: يا مغربي.

قال تعالى: إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ [الأحقاف:21] أي: إذ خوفهم بالله وأنذرهم عذابه وفتنته في أرض الأحقاف، والأحقاف: جمع حقف، وهي أرض في حضرموت يقال لها: الشحر ويقال لها: الرمال، فهناك أرسل هود إلى قوم عاد وهم من أهل اليمن الحضارمة، دعاهم إلى الله وأنذرهم غضبه ونقمته وخوفهم، فلم يطيعوا ولم يوحدوا الله سبحانه، على أن هوداً لم يكن بدعاً من الرسل، فقد مضت نذر من قبله من بين يديه ومن خلفه.

والنذر: جمع نذير، والرسول نذير وبشير.

فقد خلت قبله رسل وجاءت بعده رسل أنذروا أقوامهم وعشائرهم وأمروهم عن أمر الله بطاعة الله ووحدانيته وترك الأصنام والأوثان، وكلهم قالوا ما قاله هود: أن اعبدوا الله وحده لا شريك له.

قال تعالى: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأحقاف:21] خوّفهم يوم القيامة وأنذرهم يوم القيامة وقال لقومه شأنه شأن النبي الناصح الأمين: إني يا قوم! أخاف عليكم عذاب الله في يوم عظيم، أي: يوم القيامة ويوم البعث والنشور.

وكان عاد أقواماً طوالاً عراضاً ذوي قوة وأيد وحضارة، وذوي قصور شاهقات يبنونها بالسهل وينحتونها من الجبال، وكانوا يعمّرون المئات من السنين، وقد جعل الله لهم سمعاً وأبصاراً واعية عاقلة، ولكنهم مع كل ذلك كانوا جاهلين ولم تنفعهم عقولهم في الإيمان والتوحيد، شأنهم شأن الناس في هذا العصر الذي يقال عنه: عصر الحضارة، فقد سبقته حضارات وسبقته اختراعات وأشياء ليست موجودة في بال أحد من معاصرينا لا يهوداً ولا نصارى ولا معطّلين ولا ملاحدة، ومع ذلك كانوا عمي الأبصار والبصائر، صم الآذان، غلف القلوب، إذ سخروا من الأنبياء واستهتروا بهم؛ وهكذا عندما جاءهم ابن عمهم وأخوهم هود ودعاهم إلى الله وإلى الإيمان به وإلى ترك الأوثان والأصنام.

قال تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف:22] أي: يا هود! أجئت إلينا تنذرنا وتخوّفنا لتأفكنا وتصرفنا وتبعدنا عن آلهتنا؟ أتريد منا أن ندع آلهتنا ونعبد إلهك؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف:22] فاستعجلوا بالعذاب وتحدوا نبيهم عليه الصلاة والسلام، فقالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [الأحقاف:22] ويعنون: الوعيد.

قوله: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف:22] أي: أرادوا أن يعلموا صدقه وصدق رسالته في أنفسهم وعقولهم، وإذا بالله جل جلاله يعجّل ما استعجلوه، فقال لهم نبيهم: قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [الأحقاف:23] فأجابهم وقال: إنما العلم عند الله ولست أنا إلا رسولاً وعبداً للذي أرسلني جل جلاله، فالعلم في تعجيل العذاب أو تأخيره أو ترككم زمناً بيد الله وفي علم الله، إن أنا إلا عبد مثلكم ولكنني رسول من الله إليكم أبلغكم ما أرسلت به، والذي أرسلت به هو ما بلغتكم إياه من تخويفي لكم عذابه ونقمته واليوم الآخر، أما وقد استعجلتم العذاب وأصررتم على كفركم فالأمر لله يفعل ما يشاء.

ثم قال لهم: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [الأحقاف:23].

قال لهم ثلاث كلمات بليغات مختصرات فيها معان كثيرات: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحقاف:23] إن شاء عجّل عذابكم وإن شاء أخره.

وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ [الأحقاف:23] ليس من شأني إلا ذلك ولست معجّلاً لعذاب ولا مؤخراً له.

وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [الأحقاف:23] اتهمتموني بالجهل وبعدم الفهم وبعدم الوعي! وكان بإمكانكم أن تسألوني مستفسرين عن صدقي أن آتيكم ببينة أو آتيكم بمعجزة أو آتيكم بما يصدِّق قولي، ولكنكم رغم كونكم تعلمون صدقي وأمانتي وقد عشت دهراً بينكم وما رأيتم سوى ذلك؛ بادرتم بالتكذيب والإصرار على عبادة الآلهة المزيفة الباطلة.

قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24].

قال لهم نبيهم: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24].

لا تكاد تمضي أيام حتى رأوا ريحاً جاءت من جهة الجنوب، قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالصبا وأهلكت قوم عاد بالدبور) والدبور ريح الجنوب، وتكون عادة ريحاً عقيماً مدمرة، أما الصبا فهي عادةً ريح خير وغيث، فرأوا الريح قد جاءتهم من الجنوب ولم ينتظروا ليميزوها، إنما رأوا عوارض الريح قد أقبلت فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24] أي: هذا سحاب قد عرض لنا سيمطرنا ويغيثنا، وقد مضت عليهم سنوات لم يمطروا فيها ولم يغاثوا فيها وأجدبت الأرض ويبس الشجر وجف الضرع وقل الكسب وضعفت التجارة وقلت الصناعة، ولو آمنوا بالله وصدّقوا نبيهم هوداً لكان ما رجوه من رحمة ومن غيث، ولكنهم أبوا إلا الكفران والجحود.

قوله: مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ [الأحقاف:24] أي: رأوا السحاب مستقبل أوديتهم -جمع واد- ولما رأوا العارض مستقبل وديانهم ودروبهم وتلالهم ومزارعهم استبشروا خيراً، وكان ينبغي أن يستبشروا بالشر، قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24] أي: هذا السحاب آت بالمطر والغيث والخيرات والأرزاق، وإذا بنبيهم يقول لهم: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:24-25].

فهؤلاء عندما طغوا وتحدوا نبيهم واستعجلوا العذاب الذي خوّفهم منه أصابهم الله بما استعجلوا به وسلّط عليهم ريحاً عقيماً.

فقوله: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24] أي: عذاب مؤلم مخز موجع.

وقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] رأوا خيامهم تتطاير، والأطفال والنساء تتطاير بهم العواصف كما تتطاير بالجراد وخفيف الطير، فأغلقوا عليهم بيوتهم، وإذا بالريح تشتد فتقلع الأبواب، وكان الواحد منهم تحمله الريح العاصف مئات من الأمتار فيلقى في باطن واد أو على شاهق جبل، فيجمع له بين الريح العقيم وبين الدهدهة من رأس الجبل إلى أسفل الحضيض؛ وهكذا حتى لم يبق فيهم عين تطرف أو روح تتحرك لا من إنسان ولا من دابة ولا من ماشية ولا من طير.

قال تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] أي: لم تبق إلا المساكن خربة وخاوية وينعق فيها الطير والغراب، ذكر الله هذا وذكر المغزى في آخر الآية فقال: كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:25] أي: وكما فعلنا بقوم عاد، والخطاب لقريش حاضراً ولأمة محمد كلها عربهم وعجمهم، حاضرهم وغائبهم، وهذا العقاب لا يزال قائماً بين عربنا وعجمنا، وبين مؤمننا وكافرنا، وبين أبيضنا وأسودنا وأحمرنا، وما نرى من هذه الآفات والمصائب، وما نرى من هذه الطوام هي جزء من هذا العذاب الذي أنذر الله به الأمم والشعوب، فقد أنذر الأمة المحمدية وضرب لها الأمثال والأشكال فيما صنعه بقوم عاد وبقوم ثمود وبقوم لوط وبقوم إبراهيم وبقوم فرعون، وبجميع الأمم الماضية الخالية ممن أشركت بالله وكفرت بنعمه وخيراته وأرزاقه، وهذا الحق الذي لا مين فيه ولا شك آمن به من آمن وكفر به من كفر.

فقوله: كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:25] أي: كما جازى الأولين بكفرهم وشركهم كذلك يجازي أمثالهم من كل قوم مجرمين، والإجرام هنا: الشرك.