تفسير سورة الأحقاف [1-6]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف:1-2].

كثيراً ما يقرءون ويقولون: قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم حم [الأحقاف:1].

وهذا ليس بصحيح؛ لأن البسملة إنما وردت بعض آية من كتاب الله في سورة النمل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30].

وسورة الأحقاف سورة مكية اشتملت على خمس وثلاثين آية، ولكن هذا لا ينفي أن تكون ثم آية أو آيتان مدنيتان ضمن الآيات المكية، إذ كان من عادة نبي الله عليه الصلاة والسلام عند تنظيم كتاب الله وتصويبه أن يقول: (ضعوا هذه الآية في سورة كذا، وضعوا سورة كذا بعد سورة كذا).

حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف:1-2]، تنزيل هذا الكتاب عن طريق الوحي، والوحي: ما أنزل من عند الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، لا شك في ذلك ولا ريب ولا مين.

الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف:2] العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، والحكيم في أقواله وفي أفعاله وفي قدره، الذي يضع الأمور في مواضعها، ولا أحد يفعل ذلك إلا الله تعالى جل جلاله، قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف:2].

قال تعالى: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3].

أي: ما خلق ربنا السماوات والأرض وما بينهما من كواكب ومن مجرات إلا بالحق، لم يخلقه عبثاً ولا باطلاً، بل خلقه لحكمة، خلقه ليعلم وليعرف وليعدل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] خلق الإنس والجن ليعبدوه، وسخر للإنسان السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، سخر له ما في السماوات من أرزاق وأمطار، وسخر له ما في الأرض من مياه وطير ودواب وفاكهة وخضرة.

فقوله تعالى: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الأحقاف:3] أي: إلا بالعدل والحكمة، لم يكن شيء من ذلك باطلاً ولا عبثاً، بل خلقه لأجل مسمى، ولم يخلقه للأبد، بل خلقه للفناء، والأجل المسمى: يوم القيامة.

فهذه الدنيا بدايتها يوم خلقها ربها، وتنتهي بقيام الساعة، وقوله: (لأجل) لغاية أو لزمن أو لوقت معلوم عند الله، ويوم القيامة لا يعلم تحديده ووقته إلا الله، وإنما علمنا أماراتها وشرائطها، أما تحديدها بالضبط فلا يعلم ذلك إلا الله جل وعلا.

قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، مع كل هذا ومع انفراد الله بالخلق وقدرته عليه، وخلقه السماوات والأرض وما بينهما لأجل مسمى عنده، مع هذا كله فالكافرون عما أنذروا معرضون.

فالمشركون معرضون عن الذي أنذروا به، أي: عن الذي خوفوا به من كتاب الله تهديداً ووعيداً، تخويفاً وإنذاراً، لكي يتوبوا ويئوبوا إلى الإيمان والتوحيد، ولكنهم مع ذلك غافلون عن كل هذا، لا يلتفتون لنذارة ولا لبشارة ولا لرسالة ولا لكتاب نزل من عند الله مبشراً ومنذراً.

قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4].

جمعت هذه الآية الكريمة بين مسالك الأدلة العقلية والنقلية، فالله جل جلاله يخاطبنا في كتابه بما لا ترده العقول ولا النقول، بل كل ذلك يتفق مع الأدلة والبراهين، ومع ما جاء عن الله في الكتب السابقة وما ينطق به العقل في إحقاق الحق وإبطال الباطل، فقال: قل يا محمد! (أرأيتم ما تدعون من دون الله).

هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض، ما الذي رأوا عند هؤلاء المعبودين، وعند هذه الأصنام والأوثان، أخلقت أرضاً؟ هل أشركت الله في خلق جزء من الأرض؟ إن كان هذا كذلك فأروني مكانه وأروني موضعه، وأين هو من مشرق أو مغرب، أين هو من شمال أو جنوب.

قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ [الأحقاف:4] أي: هل أصبحوا شركائي في خلق سماء من السماوات السبع، أو في خلق الملائكة الموجودين في السماء، أو في خلق الأفلاك والكواكب بين السماء والأرض، أروني وأطلعوني وأعلموني.

أم لهم شرك في السماء خلقوه وانفردوا بخلقه، هل خلقوا معي جزءاً من الأرض؟ وإن كان كذلك أروني أين هذه الأرض التي خلقوها؟

قال تعالى: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الأحقاف:4] بعد سرد الأدلة العقلية يقول الله: أم لكم على ذلك أدلة نقلية في كتب رويتموها وأثرتموها عن السابقين.

فقوله: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الأحقاف:4] أي: هل نزل عليكم أو على آبائكم أو على من سبقكم كتاب يخبر بأن هؤلاء شركاء وأرباب من دون الله، والاستفهام إنكاري تقريعي، والجواب عن كل فقرة من الآية: لا دليل ولا خلق لهؤلاء المدعوين المعبودين من دون الله، لم يخلقوا جزءاً من الأرض وليس لهم شرك في السماء، ولا عند هؤلاء المشركين كتاب ثابت ينص على هذا.

قال تعالى: أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4] أو بقية من علم أو أثر أو رواية، فكل الطرق التي يسلك بها إلى الأدلة العقلية والنقلية جمعها ربنا جل جلاله في هذه الآية البليغة، وهذا سبب من أسباب إعجاز القرآن وبلاغته وفصاحته.

والجواب: لا يوجد شرك ولا كتاب ولا بقية من علم، ولكنكم رويتموها أثراً عمن سبقكم من علمائكم وآبائكم وأجدادكم.

وقوله: أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الأحقاف:4] أي: أثر، ومنه سمي الحديث بعلم الأثر، لأنه رواية تروى وأثر يؤثر عن شيوخنا وشيوخهم، عن آبائنا وآبائهم .. إلى العصور الثلاثة المفضلة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلى جبريل رسول الملائكة إلى الرسل من البشر، إلى رب العزة جل جلاله وعز مقامه.

ففي هذه الآية دليلان عقليان، ودليلان نقليان، الدليلان العقليان: أنتم تعبدون أشياء لا تضر ولا تنفع حتى نفسها، فلم عبدتموها؟ هل رأيتموها خلقت معي جزءاً من الأرض؟ أروني أين هو؟ أم أنها أشركتني في جزء من السماء؟ أروني إياه، وأطلعوني عليه، فإن لم يكن هناك دليل عقلي فهل عندكم دليل نقلي؟ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الأحقاف:4] ائتوني بكتاب من السماء توراةً أو إنجيلاً أو زبوراً أو غيرها من الكتب الإلهية، فقولوا هذا عني، وأسمعوني (أثارة من علم) أي: بقية، وروي في القراءات السبع: (أُثرة) و(أَثرة).

والجواب في هذا موجود دل عليه الكلام المقدم: أنه لا شرك ولا شريك ولا كتاب ينكر هذا ولا رواية من علم ولا أثارة.

فمعنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]، أنهم ليسوا بصادقين، فهم الكذبة الفجرة الذين كفروا بالله بلا دليل ولا برهان، وهذا شأن الكفر، وقد ابتلي الكافرون الجدد ببليتين: بالكفر نفسه، ثم هذا الكفر قلدوا به من سبقهم، فهم رجعيون رجعوا إلى سابق، ولم يستطيعوا أن يأتوا بكفر جديد وإنما كرروا كفر من سبقهم وشرك من سبقهم.

أن هؤلاء لما يأتوا بدليل من نقل، فكانوا بذلك هم الكاذبون الفاجرون الذين يدينون الله بدين باطل ما أنزل الله به من سلطان ولا دليل عليه من عقل.

قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، أكد ربنا ذلك وزاده تقريعاً وتوبيخاً؛ ليكون ذلك أدعى للسامع في اجتناب هذه المفاهيم الباطلة والأقاويل المتهافتة، وهذا الكلام الذي لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل.

فقوله: وَمَنْ أَضَلُّ [الأحقاف:5] أيضاً الجواب: لا أحد، وأضل الخلق: أكثرهم ضلالاً وجهالة وبعداً عن العلم، يكفرون ويقولون كفراً علمياً، يسمون الأسماء بغير اسمها، يكذبون ويجهلون ويضللون ويقولون: نخاطبكم بالعلم، ويعنون بالعلم: الجهل، فالضلال: الباطل.

ونبغت نابغة من الجهلة الضالين زعموا أنهم يريدون أن يفسروا لنا كتاب الله تفسيراً علمياً عصرياً، فجاءونا بالعفن وجاءونا بالطوام وبالبلاء في تحريف كلام الله.

ومن العجيب! أن يجد أمثال هؤلاء المعطلون الشيوعيون تلامذة اليهود والنصارى والمنافقين مرتعاً لهم في أجهزة الإعلام المنظورة والمسموعة والمقروءة، تفتح لإفكهم ولشركهم ويقولون: اسمعوا هذا التفسير العصري، حتى إذا قلت لهم: من أين جئتم بهذا الذي سميتموه علماً؟ فسروا لك الماء بالماء، والتراب بالتراب، والشيء بالشيء، وهو شأن العابثين الذاهبة عقولهم، الضائع وعيهم.

فقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأحقاف:5] أي: هل هناك أكثر ضلالاً من إنسان يعبد وثناً أو يعبد ملكاً أو يعبد بشراً ويدعوه، ويوم القيامة لا يستجيب له؟ إذا قال له: ارزقني لم يجبه، وإذا قال له: عافني لم يجبه، فهو يعجز عن ذلك وهو أضعف من ذلك، وهؤلاء المدعوون والمعبودون من دون الله عن دعاء هؤلاء الوثنيين المشركين غافلون، لا يحسبون لهم حساباً ولا يهتمون بهم ولا يلتفتون إليهم، وذكر الله (من) التي تطلق على العقلاء، وقد يشترك فيها العقلاء وغير العقلاء ولم يقل: (ما)، لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأحقاف:5].

وكل هؤلاء العاقلين وغير العاقلين لا يملكون لهؤلاء العابدين ضراً ولا نفعاً، قال ربنا: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6].

فقوله: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ [الأحقاف:6] أي: جاء يوم الحشر وحشر الناس يوم القيامة للعرض على الله .. للحساب والعقاب .. للجنة والنار، كان هؤلاء المعبودون أعداءً لهم.

وقوله تعالى: وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6] أي: كفروا بعبادتهم وقالوا لهم: ما عبدتم إلا الأوهام والتخيلات، وعبدتم ما لم ينزل الله لكم به من سلطان، أما نحن فنحن عبيد أذلاء تحت إحاطة الله وقدرته، وكما قال ربنا في أفضل هؤلاء المعبودين: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116]، ليس له بحق، وليس له أن يقول ما ليس له بحق: بأنه إله معبود، قال: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117] بأنه عبد الله، وبأنه رسول الله وما سوى ذلك فكذب وباطل وضلال.

فمن المفسرين من قال: هذه الآية تشتمل على المعبودات الجمادية، الآية الآتية لا تنطبق على ذلك: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، فكيف يكفر الحجر والجماد بعبادة هؤلاء ويكونون لهم عدواً؟

الجواب: إن العداوة تكون من معبودين عقلاء، فمن الملائكة من عبد من دون الله، ومن الجن كذلك، ومن البشر مريم وعيسى وغيرهما كذلك.

فالجمادات لا تجيب ولا تستجيب لدعاتها وعبادها يوم القيامة، ولا تنفعهم ولا تضرهم ولا تشعر بهم فهي جمادات، ويوم القيامة أولئك العاقلون من المعبودين يكونون أعداءً لهم، ويكونون كافرين بعبادتهم، وواقع الحال في الدنيا هكذا، فمن المشركين من عبد البشر، ومنهم من عبد الملك، ومنهم من عبد الجن، ومنهم من عبد الحيوان، ومنهم من عبد الجماد.

فكل هذه المعبودات يقال لها معبودات بغير حق ومعبودات باطلة، وكلها لا تستجيب لعابديها ولا تضرهم ولا تنفعهم، وكل واحد من هؤلاء المعبودين سواءً كان ملكاً أو نبياً أو جناً لا يملك مع الله شيئاً، إن هو إلا عبد له خاضع لقدرته ولجلاله ولإرادته جل وعلا.