خطب ومحاضرات
تفسير سورة الأحقاف [10-14]
الحلقة مفرغة
ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وفي سنن النسائي عن أبي النضر عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد بن أبي وقاص أنه قال: (ما رأيت أحداً على وجه الأرض بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة إلا ما كان من
ويقول عبد الله بن سلام بسند صحيح في مستدرك الحاكم: (جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنت به، وشهدت شهادة الحق، وقلت: لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
وكان عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود وربانيهم، وبعد أن أسلم ابن سلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أخفني في مكان وادع اليهود واسألهم عني، ثم قل لهم بعد ذلك وقد أسلمت، واسمع ماذا سيقولون)، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم وسألهم، وقد دعاهم لمجلسه: (ماذا ترون في
وهكذا عادة اليهود، فهم قوم بهت.
يقول عبد الله بن سلام : وفيَّ نزل قوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10]، فكانت الإشارة في هذه الآية الكريمة إلى عبد الله بن سلام صحابي من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وحبر من أحبار بني إسرائيل الذين اهتدوا، وكان قد آمن عندما شهد بشهادة الحق بصدق القرآن وبصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته.
فيا من أشركتم بالله وكفرتم بهذا الكتاب ولم تؤمنوا بالرسول المنزل عليه، إذا كان حقاً وقد كفرتم به فكيف سيكون حالكم يوم القيامة؟ كيف تكفرون به وقد شهد شاهد من أحبار بني إسرائيل على صدق هذا الكتاب، فآمن به وصدقه، وبقيتم أنتم مستكبرين عن شهادة الحق، وقصة إسلام عبد الله بن سلام وشهادته بالحق رويناها عن عوف بن مالك ، وسعد بن أبي وقاص ، بل وعن عبد الله بن سلام نفسه، كما في الصحاح والسنن ومستدرك الحاكم.
وزعم قوم أن هذه السورة مكية، وعبد الله بن سلام مدني، والنبي لم يكن قد هاجر بعد إلى المدينة المنورة، وعبد الله بن سلام لم يكن بعد قد أسلم.
هكذا قال قوم وزعموا أن المقصود بقوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:10]، هو موسى بن عمران، (على مثله) أي: من قومه بني إسرائيل.
أي: وشهد شاهد قبلكم بشهادة الحق، فآمن بالقرآن حسب نعت الله له في التوراة المنزلة عليه، فآمن به كتاباً من عند الله، وآمن بمحمد رسولاً من عنده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا كلام حق في نفسه، ولكن أن يكون بياناً وتفسيراً للآية ففيه جزاف وتكلف، كيف والحديث الذي رويناه عن مالك بن أنس أخرجه البخاري في الصحيح وأخرجه مسلم في الصحيح، وأخرجه الحاكم في الصحيح، وأخرجه النسائي في الجامع، ورويناه عن جماعة من الصحابة: عبد الله بن سلام نفسه، وسعد بن أبي وقاص ، وعوف بن مالك ، وعبد الله بن عباس كذلك.
صحيح أن السورة مكية، ولكن كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترتيب القرآن وتنظيمه أنه يقول للصحابة بأمر الله: (ضعوا هذه الآية في سورة كذا، وهذه الآية في سورة كذا)، وكثير من السور مدنية وفيها آيات مكية، وهناك سور مكية فيها آيات مدنية، وهذا لا عجب فيه ولا غرابة، وقد صرح بهذا النص سلف من الصحابة والتابعين، فهذه الآية مدنية ضمت في سورة مكية بأمر من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وسياق الآية وبيانها يؤكد هذا الذي رويناه عن الصحاح والسنن، وعن جماعة من الصحابة.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف:10]، من فعل هذا بنفسه فقد اعتدى عليها وظلمها بالشرك والكفر والنفاق، وليس بعد هذا الظلم ظلم.
قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11]، وهذه هي عادة الكفار عند بعدهم عن الحق، حتى إذا تبين لهم أن من هم أقل منهم منزلة قد آمنوا، فإنك تجدهم يعزفون عن الحق ويتمسكون بالباطل.
فقوله: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11] أي: قال الذين كفروا لمن آمن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان هذا الإنسان حقاً ما سبقنا إليه عبيدنا ودراويشنا وعمالنا وولداننا، ولو كان حقاً لسبقناهم إلى هذا الحق، ولأمسكنا به إمساكنا بالعزيز من الأمور.
وهكذا قالوا عندما رأوا بعض المستضعفين كـصهيب وبلال وأبي ذر وسلمان الفارسي سبقوهم إلى الإسلام، وهم ينظرون إليهم على أنهم عبيد لهم، أو موالٍ قد أعتقوا، أو أقوام ليسوا بالذروة من قبائل قريش أو من قبائل بني هاشم، فقالوا عند ذلك: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11] أي: لو كان القرآن خيراً، ولو كان الإسلام خيراً، لما سبقنا هؤلاء العبيد الذين ليسوا في الذروة من الشرف والأنساب والأحساب من قريش والعرب.
ويقول الله عنهم: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11]، ولما كانوا لم يهتدوا به، لم يؤمنوا به ولم يخرجوا من الظلمات إلى النور، بل زادهم لعنةً وظلاماً، فهم عند ذلك سيقولون: هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11] أي: هذا كذب وأساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه.
وكما يقولون في المثل: من جهل شيئاً عاداه، وقد سئل مفكر: هل جاء في كتاب الله ما يطابق المثل: من جهل شيئاً عاداه؟ فقال: جاء في قوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11]، عندما جهلوه وعادوه وتنكروا له وأخذوا يقولون عنه الأقاويل والأباطيل، ويقولون: هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11]، أي: كذب قديم وأساطير طلب كتابتها وهي تملى عليه ويقصها بدوره.
هكذا يقول الكفرة، وهكذا يقول الضالون بلا منطق ولا فهم ولا إدراك.
فقوله: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً [الأحقاف:12] أي: من قبل القرآن أنزل الله تعالى كتابه التوراة على يهود، ومع ذلك كفر به الكثير، وأشرك بالله الكثير، وهؤلاء المشركون كذلك لم يبادروا إلى الإيمان بالله، والإيمان بأحقية هذا الكتاب، وأنه من الله.
فالمشركون هم أشباه اليهود في كفرهم وشركهم واليهود أصل الفساد في الأرض.
وهكذا في عصرنا كذلك، ما من كفر قديم ولا حديث إلا وأئمته وقادته وموجهوه هم اليهود عنصر الفساد في الأرض، الذين كان الحق لهم عدواً، وكان الإيمان لهم عدواً، وكانوا بذلك في غاية الضلال والشرك المبين.
قوله: كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً [هود:17]، كان إماماً لبني إسرائيل، ولكن أكثرهم كفروا به وعتوا عن أمر ربهم، وكفروا بنبيهم وبكتاب ربهم، وقد كان الكتاب الذي أنزل على موسى إماماً يؤمهم إلى الهدى والنور، ولو آمنوا به لرحمهم الله بما فيه.
وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا [الأحقاف:12]، وهذا كتاب جاء بعد كتاب موسى مصدق للكتب التي قبله، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحائف إبراهيم، على أنها قد كانت يوماً حقاً، ولكن من أنزلت عليهم من أتباع الأنبياء بدلوا وغيروا وحرفوا، وأشركوا وعادوا للوثنية التي جاء الأنبياء للقضاء عليها.
وقوله: لِسَانًا عَرَبِيًّا [الأحقاف:12] أي: فصيحاً بيناً، معجزاً واضحاً، يفهمه كل من يفهم العربية، ومن درس العربية يفهم منه أوامر الله ونواهيه.
قال: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف:12].
أي: ليخوف الذين ظلموا وليهددهم وليعدهم بعذاب الله ولعنته وغضبه إن هم أصروا على الكفر وعلى الشرك.
قوله: وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف:12] أي: هذا القرآن بشرى لمن أحسن ولمن آمن وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يبشره بالجنة وبرحمة الله ورضوانه.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]
فقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الأحقاف:13] أي: الذين قالوا: ربنا الله لا سواه، وهو واحد لا ثاني له، ثُمَّ اسْتَقَامُوا [الأحقاف:13]، أي: أقاموا على الطريقة المثلى، واستقاموا على الحق المبين الواضح من طاعة ربهم وطاعة نبيهم وعمل الصالحات، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
قال تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]
فهؤلاء إن جاءوا يوم القيامة قد آمنوا بالله وعملوا الصالحات واستقاموا في أعمالهم وفي سلوكهم، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13] أي: فلا يخافون يوم يخاف الناس، لا يخافون من النار ولا من غضب الله ولا من عقابه، ولا حزن عليهم بل لهم المسرة ولهم الفرحة، ولا خوف عليهم بل يجدون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يجدون من أنواع الأفراح والمسرات والحبور ما يزدادون به حبوراً وانشراحاً.
قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:14]، أولئك الذين أتوا يوم القيامة وهم مؤمنون بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالمؤمنين إخوةً، وبالكعبة قبلةً، هم أصحاب الجنة أي: سكانها وأهلها، وهم المالكون لها أبداً سرمداً جزاءً وفاقاً لعملهم قولاً بالإيمان بالله، ولعملهم فعلاً بالطاعات من صلاة وصيام وحج وزكاة وفعل الخيرات هؤلاء لهم الجنات جزاء أعمالهم الصالحة؛ لأنهم أُمِروا فأتمروا، ونهوا فانتهوا، ودعوا للإيمان فآمنوا، ودعوا لترك الكفر فنبذوه وتركوه.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الأحقاف [29-32] | 2833 استماع |
تفسير سورة الأحقاف [26-28] | 2464 استماع |
تفسير سورة الأحقاف [1-6] | 1964 استماع |
تفسير سورة الأحقاف [15-17] | 1963 استماع |
تفسير سورة الأحقاف [18-25] | 1801 استماع |
تفسير سورة الأحقاف [33-35] | 1432 استماع |
تفسير سورة الأحقاف [7-9] | 1014 استماع |