تفسير سورة الدخان [56-59]


الحلقة مفرغة

قال ربنا جل جلاله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].

يصف الله الجنة وما فيها من محاسن وما فيها من سعادة وما فيها من متعة وما فيها من ديمومة فيقول: إن هذه الجنة لا موت فيها، فأهلها لا يموتون فيها إلا الموتة الأولى، فالموتة الأولى التي كانت في الدنيا لا تعاد لهم مرة ثانية، ولن تكون، فقد قال عليه الصلاة والسلام وقد سئل هل ينام الإنسان في الجنة: (النوم من الموت، ولا موت في الجنة).

وأخبر عليه الصلاة والسلام بأنه يؤتى بالموت في صورة كبش، فيذبح ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فالجنة لا موت فيها ولا بؤس ولا شقاء ولا ملل ولا كلل ولا سأم، وهم خالدون فيها أبداً سرمداً.

فيقيهم الله ويحفظهم ويصونهم من عذاب الجحيم الذي يُعذب به سكان النار والجحيم، فسكان الجنة يكونون بعداء عن هذا العذاب، فيقيهم الله ويحفظهم ويبدلهم بالعذاب نعمة وبالمحنة راحة، لهم فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:57].

يكون ذلك فضلاً من الله وكرماً لا لعمل عملوه، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمن لا يدخل الجنة بعمله، فقيل له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) فالله قد تفضل على المؤمن قبل أن يخرج إلى هذا العالم، فكتب في اللوح المحفوظ أنه سعيد.

فدخول الجنة فضل من الله وكرم منه لا لعمل عملوه، على أن العمل نفسه تفضّل الله به على الإنسان، فعمل صالحاً فجازاه على هذا الصالح، وقديماً قال الحكماء في الرقائق والآداب: إذا أراد أن يُظهر فضله عليك خلق ونسب إليك!

قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:57] وذلك الفوز بوقاية الله لساكني الجنة من العذاب، وحفظه لهم من الجحيم، وإكرامه لهم بخيرات الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك كله فضل من الله وكرم من الله، لا لعمل عملوه.

على أن العمل نفسه - كما قلت - فضل الله تعالى وتوفيق، فالكل فضل منه وإليه، وكون النبي يقول عليه الصلاة والسلام: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، هو ما قال الله له: وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113].

فالله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهو الذي اختار العبد قبل خروجه إلى هذا الوجود للرسالة، واختاره للجنة، واختاره للصلاح، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) أي: تفضل الله على نبينا بالرسالة وبالنبوة وآدم لم تزرع فيه الروح بعد، ولم يصبح بشراً سوياً بعد، فكان ذلك من فضل الله، لا بعمل عمله.

وقال: (إني لرسول الله وآدم بين الماء والطين).

وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورؤيا أمي، رأت عندما ولدتني نوراً يخرج منها أضاءت له قصور الشام) وهو حديث صحيح مخرّج عن جماعة من الصحابة وفي أمهات السنة.

وقد كان عليه الصلاة والسلام مقدرة رسالته، ومقدرة نبوته، ومقدرة أفضليته على الخلق قبل أن يخرج إلى هذا الوجود، فاستجاب الله لدعوة أبيه إبراهيم، وبشّر به عيسى، ورأت أمه عندما ولدت نوراً يخرج منها يضيء له قصور الشام، وذلك لا بعمل، ولكن كان فضلاً من الله وكرماً.

يقول تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:57] فذلك الفضل يكون بفوز المؤمن بالابتعاد عن النار وبدخول الجنة ذلك، وهو الفوز الذي ليس بعده فوز، وهو أعظم فوز في الوجود، أي: أن يكون الإنسان قد أُنقذ من النار وأدخل الجنة.

قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان:58].

أي: فإنما يسّرنا القرآن بلغة العرب، يسره الله وسهّله وعلّمه الناس بلغة العرب، وأنزله على العرب أولاً، ثم على الناس كافة، فالعرب أعلم الناس به وبحقائقه وبما جاء فيه عن الله وعن رسل الله.

فيسّر القرآن بلغة العرب ليعلمه العرب أولاً وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، وليعلموا حقائقه، وليعلموا حلاله وحرامه، وكان العرب بعد ذلك رسل رسول الله إلى الناس كافة.

فمات صلى الله عليه وسلم وذهب إلى الرفيق الأعلى وما كان قد أسلم من أمته إلا سكان جزيرة العرب، ثم خرج الإسلام من جزيرة العرب إلى الأرض كلها، إلى أرض الروم، وإلى أرض فارس، وإلى أرض البربر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العرب أولاً ثم إلى الناس كافّة، وكان العرب رسل رسول الله إلى غير العرب من الناس، فنشروا دين الله، ونشروا كتاب الله، وبذلوا الأرواح في سبيل ذلك.

ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فلهؤلاء من الأجر والثواب ومن الفضل والإكرام ما الله به عليم.

قال تعالى: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59].

أي: انتظر -يا رسولنا- نصرك ونشر دينك، وانتظر هزيمة أعدائك، فهم كذلك يرتقبون وينتظرون.

أولئك ينتظرون موته، وهل موته سيقف حائلاً دون نشر الإسلام، ودون نشر كلمة لا إله إلا الله، ودون نشر كتاب الله؟! هيهات هيهات، لقد ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وانتشر بعده الإسلام انتشاراً لم ينتشر في حياته، فهؤلاء يرتقبون موته ولا يرتقبون وينتظرون - في الحقيقة - إلا ذلّهم وهوانهم وعذابهم والبطش بهم وإذلالهم.

وهكذا كان، فارتقب يا رسول الله، وارتقب أيها المؤمن، فالنصر لدينك، والنصر لك ولكل المؤمنين على الكفرة المفسدين أعداء الله ورسوله والمؤمنين، فهؤلاء يرتقبون موتك، ولن يكون موتك راحة لهم، بل سيذلون ويُهزأ بهم ويقهرون أكثر، فهم ينتظرون القهر والإذلال والضياع، وأنت تنتظر النصر والعز ونشر دينك ونشر كتاب ربك المنزل عليك، ونصرة أتباعك في مشارق الأرض ومغاربها.

وهكذا كان، فما أتت السنة الثامنة من الهجرة حتى فُتحت مكة وطُرد كفارها وذلّوا وأصبح حراماً على الكافرين دخول مكة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].

ثم حرّم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك دخول المدينة المنورة، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عند موته بأن يُخرج اليهود والنصارى جميعاً من جزيرة العرب، وأوصى بألا يبقى في الجزيرة دينان، وقد انبرى لهذا عمر رضي الله عنه، فأخرج يهود المدينة من الجزيرة، وأخرج نصارى نجران واليمن من الجزيرة، وبقيت جزيرة العرب خاصة بالموحدين.

كما أمر عليه الصلاة والسلام بإخراجهم من العالم الإسلامي، بدليل قوله: (لا تصلح قبلتان في أرض) وكلمة (أرض) نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، أي: عموم أرض الله التي يستقبل أهلها الكعبة، والتي يدين أهلها بدين الإسلام، فلا يجوز أن يكون مع دين الإسلام غيره، ولا مع الكعبة غيرها.

ولكن بعض من جاء بعد الخلفاء الراشدين فرّط، وأذن لأعداء الله من اليهود والنصارى بالمقام في المجتمع الإسلامي، بحكم الأرض حكم كسرى وقيصر!