تفسير سورة الدخان [17-29]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان:17-18].

إن كفرة قريش عذبوا بالدخان في رأي ابن مسعود ، وعذبوا بالتشريد وبالطرد وبالقتل وبالأسر، بعد أن عاهدوا على ألا يعودوا إلى الكفر إذا رفع عنهم العذاب، وقد رفع عنهم فترة بعد فترة وزمناً بعد زمن، ومع ذلك كانوا يعودون إلى الكفر، ولذلك ذكر الله أشباههم في الماضي.

والذي أشبههم في ذلك هو فرعون وقومه الذين أرسل الله إليهم النبيين الكريمين موسى وهارون، فأرسل عليهم الآيات من القمل والدم والضفادع والنقص في الأموال وفي الأنفس وفي الثمرات، وفي كل مرة كانوا يأتون إلى موسى ويقولون: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ [الزخرف:49].

يأتون إلى موسى وينادونه بالكلمة التي لا يليق أن تخاطب بها الأنبياء والرسل، ويطلبون منه الدعاء، ويعدونه إن رفع مقت الله عنهم وغضبه بأن يعودوا إلى الإيمان والتوحيد، فيرفع الله ذلك بدعوة موسى وهارون، ولكنهم لا يتوبون، فيعودون إلى الكفر والمعصية، ويعود الله عليهم بالعذاب.

ولذلك كان ذكر هذا بعد ذكر هؤلاء للتشابه في ذلك، وليكون هذا مثالاً وتبياناً للكفرة الذين يصرون على الكفر، حتى إذا خطر ببالهم ألا يوفوا بالعهد وألا يؤمنوا عوقبوا معاقبة فرعون وقومه وكفار قريش وجميع من فعل ذلك من العرب والعجم في الجزيرة وخارج الجزيرة.

فنحن نرى عندما نستعرض تاريخ العالم الإسلامي منذ أن ظهر الإسلام وبرز رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذه الديار المقدسة، أنه كان للمسلمين من العز ومن الخير ما علوا به، ثم بعد موت رسول الله عليه الصلاة والسلام أخذوا يغيرون ويبدلون، فقتلوا عمر ، وقتلوا عثمان ، وقتلوا علياً ، ثم قتلوا الحسين ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال جسده رطباً حاراً في قبره، فلم يهابوه، بل ولم يهابوا خالقه جل جلاله، وإذا بالله يبتليهم فتقوم بينهم معارك مات فيها مئات الآلاف، ولو بقيت هذه الآلاف لفتحت العالم كله، ولما بقي على وجه الأرض نصراني ولا يهودي ولا منافق، ولكن الله يفعل الله ما يشاء لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23].

ثم تابوا فتاب الله عليهم، ومضت برهة فإذا بحروب تقوم نتيجة للخلافات من دولة أموية إلى دولة عباسية إلى تسلط المجوس الذين جاءوا في شكل المسلمين وهم منافقون، إلى الحروب الصليبية التي دامت أكثر من مائة عام في الأرض التي ابتلي فيها المسلمون، فدعوا الله فرفع مقته وغضبه عنهم، وعاد عليهم بالخير العميم وبالنصر المؤزر المبين.

وبعد ذلك عادوا لما نهوا عنه، فسلط عليهم التتر فمسحوا الأرض، واستباحوا دماء المسلمين، وخربوا المدن، ثم تابوا وأنابوا فقبل الله توبتهم وعادوا إلى العز والسلطان، فعادوا بعد ذلك إلى المعصية والخلاف، فسلط الله عليهم الاستعمار الأوربي، فشرد وأهلك ومزق.

فدعوا الله فرفع ذلك عنهم وتابوا وأنابوا، ثم عادوا لما نهوا عنه، فسلط الله عليهم أذل خلقه وألعن خلقه إخوة القردة والخنازير من اليهود عبدة الطاغوت والشيطان.

فالأمر لا يحتاج إلى قوة كثيرة، إن القوة لله جميعاً، وإنما يحتاج إلى العودة إلى الله، فبقليل من القوة ينصر الله المسلمين وينصر عباده الصالحين.

رفع الله ما بنا من مقت وغضب، وأعادنا إليه تائبين منيبين، وأذل أعداءنا وهزمهم وانتقم منهم.

قال تعالى: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان:18].

فجاء فرعون وقومه رسول كريم على الله، كريم على الملائكة، كريم على إخوانه من الأنبياء، كريم على المؤمنين، وهذه الإشارات لموسى كليم الله عليه الصلاة والسلام.

فأرسل إليهم موسى يدعوهم إلى الله وإلى عبادته وإلى توحيده، وإلى الإيمان به وبأخيه هارون ليدلاهما على الله وعلى الطريق إلى الله، فقال موسى: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان:18] أي: سلموا لي وأعطوني ومكنوني من عباد الله بني إسرائيل الذين استعبدتم، فقتلتم الرجال واستحييتم النساء، واستعبدتموهم فيما لا يطاق، فما يفعله الواحد أو الواحدة لا تطيقه العصبة أولو القوة.

فجاء يدعوهم إلى (لا إله إلا الله) وإلى استخلاف قومه من بني إسرائيل وتحريرهم من الرق والعبودية والانتقال معه إلى خارج مصر، فجاء رسولاً لأداء وتكريم هؤلاء العباد المؤمنين من قبل.

قال تعالى: (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) جئتكم رسولاً من الله مبلغاً رسالته أميناً على هذه الرسالة، لا أغير فيها ولا أبدل، ولا يليق بي ذلك، والنبي معصوم عن الكبائر والصغائر، فهو كالملك يفعل ما يؤمر ولا يعصي الله فيما أمره، فالرسل معصومون عن الخطايا كبارها وصغارها.

فـفرعون لطغيانه وظلمه وادعائه لألوهية كاذبة، جاءه موسى يدعوه إلى الله هو وقومه ويطلب منهم أن يمكنوه ويسلموه قومه بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى ووحدوا الله، فقال لهم موسى: (إِنِّي لَكُمْ) أي: لكم يا فرعون ويا قوم فرعون ، ويا بني إسرائيل من المستعبدين (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) رسول من الله جئت بالصدق والأمانة، فلم أبدل ولم أغير.

قال تعالى: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [الدخان:19].

قوله: (ألا تعلوا على الله) أي: ألا تستكبروا، ولا تغتر يا فرعون ، ولا تقل: أنا رب وإله، فتلك الكبرياء في غير محلها، فهي سخف وحمق وجنون، فأنت عبد خلقك الله عبداً مقهوراً وعبداً مشئوماً، ولدتك امرأة فأكلت وشربت كما يأكل ويشرب العبد، ومرضت وشفيت، وحزنت وضحكت، وكان بك ما يكون بالإنسان، ولا رب إلا الله جل جلاله.

قال تعالى: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، أي: لقد جئتكم ببرهان وبدليل بين واضح، فأتى بما أتى به من العلامات والبينات فأتى بالعصا التي يصرفها كيف شاء، يضرب بها الحجر فينفجر ماءً، ويرميها في الأرض فتصبح أفعى تأكل كل ما يحوم حولها، وكان يدخل يده فتخرج بيضاء من غير سوء، ثم يجعلها في جيبه فتعود كما كانت.

وسُلِّط عليهم بأمر الله الآيات البينات من الضفادع والقمَّل والدم والنقص في الأموال والثمرات والأنفس، والغرق بعد كل ذلك، فدلت الآيات البينات على صدقه ودلت على أمانته.

وعندما أراد فرعون اختباره جمع له السحرة من كل مكان، فحضروا فابتدءوا رمي عصيهم ورمي حبالهم، وإذا بموسى يرمي عصاه، فإذا بها (تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) فإذا بالسحرة الذين هم جاءوا لهزيمة موسى عليه السلام يدخلون في الإسلام، فالسحر إنما هو تخيلات: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66].

فلما رأى ذلك السحرة علموا أن هذا ليس سحراً؛ لأن الساحر إنما يخيل إليك أنها أصبحت أفعى، فلو وضعت يدك عليها فستحملها عصاً أو حبلاً كما كان، ولن تنقلب عن حقيقتها، فهم عندما رأوا عصا موسى تلقف ما يأفكون علموا أن هذا ليس سحراً، فآمنوا واستسلموا وسجدوا لله وقالوا: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70]، وكان نصراً لموسى عليه السلام، وذلاً وهواناً للكفر ودعوى الربوبية الكاذبة.

قال تعالى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان:20].

لقد هددوه وأنذروه بالرجم، وكذبه فرعون ، وحضه على ذلك قومه ومنافقوه، فتوعدوه بأنه سيرجم حتى الموت.

فقال لهم: دعوني أدعوكم وأبلغكم رسالة ربي، (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي) أي: تعوذت به، فجعلته معاذاً ومرجعاً وموئلاً من بطشكم ومن ظلمكم، فهو ربي وربكم، فـفرعون ليس رباً حتى لنفسه، وإنما هو عبد ذليل كافر جاحد مربوب، ولكنه استخف عقولكم واستخف أنفسكم فتلاعب بكم، فآمنتم به وجركم إلى البلاء وإلى العذاب وإلى الغرق وإلى العذاب المهين.

فقوله تعالى: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُون) أي: إنني جئتكم وأنا عائذ بالله مستغيث به لاجئ إليه، هو مرجعي ومآلي ومعاذي من أن ينالني منكم سوء، وعياذي بربي - الذي هو الله، والذي هو ربكم كذلك - أن ترجمون، ولن تستطيعوا ذلك، فلقد عذت بالله واستعذت بالله واستغثت بالله، وكان الأمر كذلك، حيث كانوا أحقر من أن ينالوه، فهو رسول مؤيد.

قال تعالى: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان:21].

أي: أنا دعوتكم إلى الله، فإن لم تؤمنوا بالرسالة التي أتيت بها، وبكتاب التوراة المنزل علي، إن لم تؤمنوا لي فالأقل أن تعتزلوني، فاتركوني ورسالتي أدعو إلى الله، أما أن تحولوا بيني وبين رسالتي وتمنعوني عن أن أدعو إلى الله وأن أقوم بالرسالة التي أمرني بها الله؛ فهذا لا يجوز ولا يمكن، فسأثبت عليه حتى الموت.

وهذا أقل ما يطلب من الكافر والجاحد إذا قام الدعاة إلى الله والهداة إلى الله برسالتهم ودعوتهم، أما أن يحال بينهم وبين دعوتهم فذاك أبلغ ما يكون من الكفر والجحود والتعالي على الله، شأن كفرة هذا العصر من منافقي المسلمين وأشباههم، ومن الكفرة المختلفين، فهم لا يكتفون بالردة، بل يأبون إلا أن يمنعوا الدعاة والهداة وورثة النبي صلى الله عليه وسلم عن أن ينصروا دين الله وأن يفسروا كتابه، وأن ينصروا السنة، وأن يعلموا الناس الحلال والحرام، وأن يبينوا الكفر وما فيه من أنواع الشرك والضلال المبين، فلا يقبلون ذلك، قد أغلقوا أجهزتهم المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمنظورة عن أن توظف لذلك.

فعدم اعتزال الدعاة إلى الله فيما يدعون فيه إلى الله أقبح أنواع الكفر، ولذلك فإن كفرة عصرنا الذين استأثروا بالكفر ومنعوا الدعاة إلى الله من نشر الإيمان ونشر الإسلام، ودعوة الناس إليه قد وصلوا إلى درجة تجاوزوا فيها قوم فرعون ومن سبقهم من الكفار في الأمم السابقة.

قال تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان:22].

عندما نفد صبره، وعندما أصروا على الكفر بعدما جاء به من البينات الواضحات، وبعدما دعا إلى الله بكل ما يقبله المنطق والعقل، وبعد أن ابتلوا بما ابتلوا فأتوا يطلبون منه أن يدعو الله ليرفع غضبه عنهم، قال: رب! إن هؤلاء قوم مجرمون، أي: هؤلاء الذين أرسلتني إليهم قوم مجرمون مشركون، يأبون إلا الجريمة، ويأبون إلا الشرك بالله، ويأبون إلا الإصرار على معارضة الأنبياء وتنقيصهم، وإذلال المؤمنين وتعذيبهم، فهؤلاء قوم مجرمون، فهو دعا الله فقال: يا رب! هؤلاء المجرمون عاقبهم لجريمتهم وعاملهم بما تقتضيه هذه الجريمة.

فقال الله له: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان:23].

فتحت الهمزة لأن الفعل رباعي، يقال: سرى وأسرى، أي: سرى ليلاً، وذكر الليل تأكيد لمعنى السير في الليل في هذه الآية الكريمة.

قال تعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا) قال الله لموسى: اخرج بعبادي المؤمنين من أرض مصر، وأسر بهم ليلاً سيراً حثيثاً سريعاً، واعلم أنكم متبعون، سيتبعكم فرعون وقوم فرعون يريدون عودتكم وإرجاعكم والبطش بكم وظلمكم وإيذاءكم، فاسروا سريان الشباب الأقوياء الذين يجرون وإن لم يجروا يهرولون، واعلموا أنكم متبعون، فسيتبعونكم وسيفتقدونكم حين ذلك، فيسرعون في اللحاق بكم.

وقوله تعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي) أي: بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى إذ ذاك.

قال تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ [الدخان:24].

فقال الله له: (اترك البحر رهواً) أي: ساكناً على حاله، أي: لا تحركه.

ومعنى ذلك أنه أمر موسى بأن يشق البحر بعصاه، وسيفتح الله له طريق يبساً فيه، فكان الأمر كذلك، فخرج موسى ومعه ستمائة ألف إسرائيلي وزيادة، فلما شق لهم البحر بعصاه اتبعوه، وأصبح هذا الجانب حائطاً من الماء والآخر حائطاً من الماء، وهم بين هذا الحائط وهذا الحائط في قعر البحر.

فقال الله له: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا)، أي: لا تضربه بعصاك فيعود الماء إلى مكانه؛ لأنه لو وقع ذلك لما دخل فرعون وقومه البحر، ولا يستطيعون، والله يريد أن يعاقبهم في مسيرهم وفي تحركهم هذا.

فامتثل موسى أمر ربه، فترك البحر رهواً ساكناً جامداً لم يحركه، وخرج منه إلى الشاطئ الآخر، فجاء فرعون وقومه مسرعين مجدين على خيلهم ودوابهم وما معهم من آلة الخراب والدمار، فجاء ومعه جنده، فوجدوا البحر مفتوحاً ووجدوا الأرض يبساً، ووجدوا حائطاً من يمين وشمال، فظنوا أن هذا ما فتح لموسى إلا وسيفتح لهم كذلك، فدخلوا هذه الطريق إلى أن أصبحوا جميعاً فيه، وإذا بالله الجليل يأمر البحر أن يلتقي جانباه وحائطاه، فغرق فرعون وقومه أجمعون.

ففقدوا الأنفس، وفقدوا الملك، وفقدوا الإلهية الكاذبة، فتم عقاب الله عليهم وكان النصر للمتقين، ولجند الله من الأنبياء والمرسلين.

يقول الله جل جلاله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ [الدخان:25-27].

يقول الله: هؤلاء عندما غرقوا وانتقم الله منهم لنبيه كم تركوا، و(كم) هنا للتكثير، أي: تركوا الكثير الكثير من الجنات والبساتين والخيرات ومن متنوع الأرزاق من الفاكهة والخضرة والماشية وغير ذلك.

قوله تعالى: (وَعُيُونٍ) أي: ومياه دافقة متدفقة متفجرة كانت على شواطئ النيل يميناً ويساراً بين يدي كل بيت وكل دار من دور هؤلاء، فقد كانوا يعيشون على جنة في الأرض لكثرة المياه وكثرة البساتين وكثرة الخضرة وكثرة الأرزاق الدارة.

قال تعالى: (وَزُرُوعٍ) أي: من أرض مزروعة بأنواع الحبوب وأنواع الفاكهة، وأنواع الثمار وأنواع الزهور والورود وما إلى ذلك، فكانت لهم مزارع وكانت لهم بساتين، وكانت لهم قصور.

قال تعالى: (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)، أي: بيت يقيمون فيه، والمقام الكريم هو البيت الذي يكرم على صاحبه بسعة وبنعمة وبخدم وبحشم وبضيفان، وبسعة في المياه المحيطة به، وبالبساتين التي تزيده رونقاً وتزيده بهاء، ولكن كل هذا قد أزاله الله عنهم ونزعه منهم وسلبهم إياه فملكه غيرهم؛ لأن سنة الله هكذا في عباده، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فالذي يشكر النعمة يزيدها الله ويوسعها الله ويباركها له، والذي يكفر بها ولم يشكر الله عليها يسلبها الله منه ويعيده للفقر والمرض والبؤس وللحاجة نتيجة الكفران، قال تعالى: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) فعذاب الله هنا يكون بسلب نعمة العافية عن الأبدان، وأخذ الولدان، وذهاب الفاكهة والقصور والبساتين والمقامات الكريمة.

فقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ [الدخان:25-27] يقال: نِعمة ونَعمة، والنِعمة واحدة النعم، والنَعمة هي النِعمة كذلك، وقرئ بهما معاً، والنَعمة هنا تتجاوز النِعمة بالرفاهية والحضارة والأناقة مما يريد الناس في الدنيا من مفارش ومزارع ومساكن وزوجات وأولاد، فكل ذلك كانوا ممتعين به، والله تعالى أمهلهم ولم يهملهم، فاتخذوا من ذلك الإمهال طغياناً وشركاً، حتى ادعى هذا الحقير أنه هو الله الذي خلق لهم النيل والبساتين، وكذب على نفسه وعليهم وعلى الله.

فقوله تعالى: (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) أي: متفكهين، كانوا على غاية ما يكون من الانبساط والسرور والبهجة والبعد عن البؤس وعن الحاجة وعن الفقر وعن الجدب، فأصبحت مجالسهم مجالس مزاح وآداب وقصص وتندر، فلم يكن بهم مرض ولا فقر ولا حاجة، فكانوا يمتعون مادة ويمتعون روحاً من حيث أجسامهم ومن حيث أرزاقهم، أما الله فهم عنه معرضون، بل عبدوا فرعون واتخذوه رباً من دون الله، وهو كاذب في دعواه.

قال تعالى: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان:28].

أي: كذلك نفعل بمن فعل فعلهم، والقصة ألقيت على المسلمين، فقصة فرعون ذكر فيها ربنا ما فعله بـفرعون وقومه نتيجة كفرهم وجحودهم وخروجهم عن أمر الله، وكذلك يفعل بمن فعلوا فعلهم وكفروا كفرهم فيغرقهم ويعاقبهم ويعذبهم ويسلبهم النعم من القصور ومن المزارع ومن الخيرات ومن البيوت الكريمة ومن كل ما كانوا يعيشون فيه.

ف

قوله تعالى: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان:28] أي: فسلبها الله منهم وأورثها لبني إسرائيل، فأصبحوا أهلها ومتملكيها، وما أشبه اليوم بالأمس مع فارق كبير، فهؤلاء كانوا ملحدين، وكانوا وثنيين، وكانوا يعبدون فرعون ، وكانوا إماء، ولكن الله أرسل لهم نبياً لينقذهم من الذل والهوان وليدعو أولئك بتسليم ما عندهم من هؤلاء المؤمنين، فكفروا وأبوا.

ونحن اليوم في عصر الشعب فيه مسلم، واليهود أذل خلق الله، ونجد من المسلمين من يذلون أنفسهم لههم ويملكونهم بلادهم ويرفعون راياتهم، ويضربون على رءوسهم بالمدافع به، ويهتفون بأسمائهم، ويخضعون لهم ويذلون، والتاريخ يعيد نفسه، ولكن هنا عودة مؤلماً، فقد كان أولئك في وثنية، واليوم ليس الوضع كذلك، فالمسلمون على إيمانهم وعلى إسلام، فجاء فرعون الجديد، فأغراهم واستخف عقولهم، فأغروا بهؤلاء الكفرة من إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.