تفسير سورة القصص [74-78]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:74] .

هذه الآية بنفسها تقدّمت معنا بالأمس قبل آيات مضت، وكررت هنا لزيادة التوبيخ والتقريع، وجاءت بعد تعداد نعم الله وقدرته من خلق الليل والنهار، واستراحة الناس في الليل وسكونهم، وضرب الناس في النهار وعملهم وتجارتهم وزراعتهم، فعاد فقال لهؤلاء المشركين عقب كل ذلك: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ [القصص:74] أي: ينادي الله أو تنادي ملائكته عن أمر الله.

قال تعالى: فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:74].

أي: أين الذين زعمتموهم شركاء لله في ملكه وفي قدرته، هل يستطيعون خلقاً أو ملكاً أو اختياراً؟ هل يستطيعون خلق ليل أو خلق نهار؟ كلهم أعجز من ذلك!

إذاً: لماذا لم يغيثوكم ولم ينقذوكم من عذاب الله ولعنته؟ فكل هذا يُقال في الدنيا لمن يسمع من الكفار علّه يتوب ويئوب، ويقول: رب اغفر لي قبل أن يموت.

وفي هذا المعنى يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك).

وإلا ضاعت على الإنسان حياته في البرزخ، فهي الطريق للآخرة، والمدرسة التي من نجح فيها أخذ كتابه وشهادته بيمينه يوم القيامة فكان من الناجحين والفائزين، والذي لم ينجح فيها إذ لم يوحّد الله ويعبده يأخذ يوم القيامة شهادة الخسران والرسوب بشماله فيدخل النار مع الداخلين.

قال تعالى: وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص:75] .

أي: أخذ من كل أمة شهيداً؛ وشهداء الأمم رسلهم وأنبياؤهم، قال تعالى: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41].

يُخاطب الله نبينا بهذه الآية، وعندما تلا هذه الآية ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم، فالله يوم القيامة عند مُحاسبة كل أمة وعند عرض أعمالها عليها يدعو نبيها وينزعه من بين أمته ويقول: اشهد، هل بلّغتهم؟ فلا يستطيعون النكران.

قال تعالى: فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [القصص:75].

أي: دليلكم على الشرك وسلطانكم على الكفر وبرهانكم على أن ما عشتم فيه في دنياكم كان حقاً وصواباً، قال تعالى: فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ [القصص:75].

أي: علموا بعد فوات الأوان أن التوحيد هو الحق وأن الرسل هم الحق، أن الله هو الحق، وأن الكتب هي الحق، فاعترفوا بعد فوات الأوان يوم لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:158].

قال تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص:75].

أي: غاب عنهم افتراؤهم وكذبهم وضلالهم وشركهم وكفرهم ومعاصيهم، فكل هذا يعرضه الله علينا في الدنيا ولم يحدث بعد، ولكن لنعلم ونأخذ منه العبرة والدروس، حتى إذا جئنا إليه جل جلاله جئنا ونحن نعلم ما سيكون بعلم الله ووحيه وبلاغ رسله عليهم الصلاة والسلام، ولتكون الحجة البالغة لله، فلا يقول قائل منا: لم يأتني رسول! لم أسمع كتاباً! لم أسمع وحياً! بل سيكون أول سؤال: من نبيك؟ هل آمنت بنبيك؟ فلن يستطيع أن يقول: لم أسمع بنبي، ولم أدرك نبياً، ولم يبلغني أحد عن نبي؛ وهنا يضيع عنهم كفرهم وكذبهم وبُهتانهم في الدنيا.

قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] .

هذه آيات استطرادية قيلت لكفر فرعون وملئه وكفر من كفر كفرهم وأشرك شركهم، فقد قص الله علينا قصة موسى مع فرعون صغيراً وكبيراً، نبياً وغير نبي، إلى أن ذهب فرعون مع الذاهبين وأخذه اليم وابتلعه مع جنوده جميعاً.

أما قارون فقد عوقب عقوبةً أخرى، وقارون لم يكن قبطياً ولا فرعونياً، بل هو إسرائيلي من قوم موسى، بل هو ابن عم موسى، إذ إن أبا موسى وأبا قارون أخوان شقيقان، وزعم قوم أنه عمه، وأجمعوا جميعاً أنه من بني إسرائيل، والقرآن يؤكد ذلك كما قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76].

فرغم كونه من قومهم وانتصر بانتصارهم بغى على بني عمه، وظلمهم وتكبّر عليهم، وتعالى بنفسه وأمواله وأرزاقه وسلطانه وبنفوذه وجاهه، وزعم قوم أن قارون آمن ثم أصبح منافقاً وهذا لا يدل عليه القرآن بحال، فالله أخبرنا أنه خسف به وبداره الأرض، ووصفه وصف الكافرين المشركين، ولم يخبر بأنه آمن يوماً حتى نقول: إنه آمن ثم نافق.

والمعلوم من سيرته أنه حسد موسى وهارون، وقال لموسى: يا ابن عم! أخذت النبوءة وسلكت معك أخاك هارون فما تركت لي؟ وكأن موسى هو الذي نبأ نفسه، وهو الذي أرسل نفسه!

قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76] أي: رغم كونه من قومهم لكنه كان باغياً، والبغي: الظلم، فقد كان ظالماً متعالياً، ولم يكن أقل من فرعون طغياناً وجبروتاً.

وللمال طغيان وجبروت وبطر، وهكذا كان قارون يتكبر على قومه قبل غيرهم، بل كان متألباً مع فرعون وهامان على موسى وأخيه وقومه.

قال تعالى: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ [القصص:76] (ما) في موضع مفعول به، والتقدير: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ الذي تعجز وتثقل حتى تتمايل يميناً وشمالاً العصبة أولو القوة، وهم الجماعة القوية الشابة المتكاثرة.

وقالوا: (العصبة): بين الثلاثة والعشرة، وبين العشرة والثلاثين، وبين الثلاثين والأربعين.

وقوله: الْكُنُوزِ [القصص:76] جمع كنز من الأموال بجميع أشكالها، ذهباً وفضةً وجواهر ولآلئ، وألبسةً وثياباً وحبوباً وأرزاقاً ومطاعم، قالوا: وقد كانت.

والمفاتح: جمع مفتح، وإذا قلنا: مفتاح، فالجمع مفاتيح.

قال تعالى: مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ [القصص:76] (ما) اسم موصول يطلق على المذكر والمؤنث، فلو حملتها جماعة ذات قوة واقتدار لناءت ولأخذت تتمايل، ويثقل عليها حمل المفاتيح فقط، قالوا: وكان المفتاح في قدر إصبع، وكان من الحديد ثم حوله إلى الخشب، ومع ذلك كان في هذا الثقل، قالوا: وكان إذا خرج في زينته وجماعته، تبعه ستون بغلاً يحملون هذه المفاتيح للكنوز خاصة.

فقوله: فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76] أي: ظلم وتكبر وتعالى على أنبياء الله، ومن يتكبر على أنبياء الله يكفر مع أن قارون لم يدخل في الدين قط.

قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ [القصص:76] أي: لا يدخلك بطر ولا تتكبر علينا ولا تظلم ولا تظن نفسك شيئاً، لا مالك دائم، ولا حياتك باقية.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] أي: لا يحب الفرحين بالباطل والبغي والطغيان والفرحين بجمع المال من حله وحرامه، فذاك ما يكرهه الله ولا يحبه.

ثم قالوا له: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

وهذا كلام المؤمنين الموحدين قالوا له: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77] أي: هذه الكنوز والأموال التي أكرمك الله بها وأعطاك، ابتغ فيها وفي عملها وتوزيعها الدار الآخرة، فاجعل هذه الأموال للفقراء والمساكين والمحتاجين، ولأسرك وأقاربك ورحمك، ولأداء الحقوق الواجبة من زكوات، ولإجابة السائل الفقير المحتاج، واتخذها طريقاً للآخرة.

قال تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] ولم نقل لك: وزعها على الناس وانسَ نفسك، بل خذ حصتك منها حلالاً ليس حراماً، خذ من الحلال والطيبات ومما أباح لك الشارع.

وهكذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام رغم زهده في الدنيا، فقد كان يأكل الحلوى، ويأكل أنواع اللحوم، ويلبس من الثياب ما وجد، ومرة اشتريَ له ثوبٌ بمائة ناقة، وكان يستقبل به الضيوف والوفود، وكان له جوار وغلمان وزوجات ولكن كل ذلك كان نفقة لهؤلاء، وما فضل منها يكون للفقراء والمساكين وذوي الأرحام، فهو لم يحرم حلالاً، قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32].

وإنما منع نفسه من أكل الضب، وقال: ليس بحرام؛ لأنه عافه وكرهه؛ ولأن قومه بمكة لم يكونوا يأكلونه.

وإنما منع نفسه من البصل والثوم لكراهته في رائحته، وقال: ليس بحرام: (ولكني أناجي من لا تناجون)، أي: يستقبل الوحي ويناجي ملائكة الرحمة وجبريل رسول الله إليه، أما غير ذلك فقد كان يأكل ما وجد، إن وجد اللحم أكله، وإن وجد التمر أكله، وإن لم يجد شيئاً صبر وصام عليه الصلاة والسلام.

وكان ينهى عن التكلف، كما قال سلمان رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نتكلف للضيف) أي: لا يتكلف لإيجاد مفقود، ولا يبخل بموجود.

فقوله تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] أي: خذ سهمك وحصتك من الحلال تزوج وكل واشرب من غير سرف ولا تبذير، ولا تشرب خمراً ولا تأكل خنزيراً، ولا تأكل حراماً، فقد أباح الله من المناكح والمآكل والمشارب والطيبات ما كان حلالاً طيباً، وما سوى ذلك فحرمه الشارع لمصلحة الإنسان نفسه، لما فيه من الضرر والأذية، ولما فيه من فساد هذا الجسم البشري.

قال تعالى: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] .

فقد أحسن الله إليك بهذا الغنى الواسع، فأحسن كذلك، أعط السائل والفقير، وأعطِ المحتاج والقريب والبعيد، وشارك في بناء المعابد والمساجد والمعاهد، واكسُ العريان وأطعم الجائع، واسق العطشان، وأعز الفقير بعطائك، وهكذا أحسن، وترك المفعول في قوله: أحسن لشموله وعمومه، أي: أحسن للخلق إنساناً وحيواناً، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في كل ذات كبد حرى صدقة)، حتى إطعام الحيوان وإطعام الطير فيهما أجر وثواب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (دخلت امرأة النار في هرة، فلا هي أطعمتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، فهذا حيوان مستأنس داجن حبسته فجاع حتى مات فعوقبت بسبب ذلك بالنار.

وقال: (رحم الله بغياً رأت كلباً يلهث على رأس بئر في صحراء ما استطاع أن ينزل إلى الماء، ولا وجد الماء عالياً فيشرب منه، فجاءت وأخذت نعلها، وأخذت قطعة من ثوبها، وفتلتها حبلاً ثم سقت في تلك النعل ماء وأشربته إلى أن ارتوى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فغفر الله لها)، ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم).

ورحمة الله سبقت غضبه سبحانه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (سبقت رحمتي غضبي).

ولذلك نبتدئ القرآن، ونبتدئ السورة بقولنا: (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي آية في سورة النمل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، فهو الرحمن، وهو الرحيم، وهو من سبقت رحمته غضبه.

قال تعالى: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77].

أي: لا تفسد في الأرض ولا تزهق الأرواح ظلماً ولا تأكل أموال الناس باطلاً ولا تأت على شجر فتقطعه للفساد، ولا تفسد على الناس مياهها وآبارها، ولا تنشر الفساد كأنه مذهب ودين، بل كن براً عطوفاً محسناً متصدقاً، كن لين العريكة، واخفض جناح الذل من الرحمة للمؤمنين وعباد الله الصالحين، هذا يقوله المؤمنون، ويكرره الله إشادة به، ومعناه أيضاً: المخاطب به، ولكل من كان له مال كـقارون وغيره أن يتمتع بالطيبات والحلال، وأن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن يأخذ نصيبه من الطيبات، ولا يجعل نعمة الله عليه وبالاً، ولا يفسد بها في الأرض، فيوشك أن يعاقبه الله عليها، وأن ينزعها منه كما فعل مع قارون .

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77]، وإذا قال الله: (لا يحب) فمعناه: حرم وكره، ومعناه: نهى ومنع.

أجاب قارون قومه: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78].

فقال الله مخبراً موسى ونبيه صلى الله عليه وسلم: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78].

أي: أهلك من كان أشد منه قوة وأكثر منه جمعاً - أي: لهذا المال - فلم يكن المال فقط لـقارون وانفرد به في الكون، فقد سبق قبله الكثيرون ممن كانوا أغنى منه وأقوى، وفي عصرنا الكثيرون يملكون ما لم يكن يملكه قارون ، ويفعلون ما كان يفعله قارون ، يطغون بذلك المال ويبطرون، فلا يحسنون كما أحسن الله إليهم وتكون النتيجة بعد ذلك، أن ذهبوا وبادوا، ويبقى المال لمن لا يرحمهم عليه، أو تأتي الشيوعية فتنزعه عنهم عقوبة سماوية، والجزاء من جنس العمل، وهكذا وقع في كثير من بلاد المسلمين، قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].

فقوله تعالى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] معناه: لم أعط هذا المال هكذا بلا سبب، بل أنا رجل نشيط، ولي علم بأنواع التجارة والزراعة وتنمية المال، فأنا أخذته بعرق جبيني وبعلمي ومعرفتي.

وقال الكثيرون من المفسرين: إنه كان يستعمل الكيمياء والإنس والجن، وكل هذا كلام إسرائيلي لا معنى له، والآية لا تدل عليه، فنحن نرى الكثيرين في عصرنا هذا يملكون ما لم يكن يملكه قارون ، ولم يقل أحد منهم: جمعت ذلك المال بالكيمياء، فقد يكون لعمل من الأعمال كانتهاز منصب واستغلال بيئة ومعرفة بالتجارة أو بالزراعة، أو معرفة بالصناعة، ولا حاجة إلى أن يكون هناك كيمياء أو تحويل للأصل، ولا أن يكون خدمة من جن ولا شيء من ذلك.

فقوله تعالى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: كان ذلك بمعرفتي وبنشاطي ومسارعتي لمعرفة الأسواق، والتجارات وما إليها، فلم يقل: رزقته بعون الله وفضله ومنه، حتى لو قلنا أوتيتها بمعرفتك فمن الذي أعطاك المعرفة؟ من الذي هيأ لك الجو؟

والكثيرون ممن أخذوا الشهادات وأنواع الدراسات، ومن أعلم الناس بأنواع التجارة والزراعة والصناعة لم يملكوا شيئاً، فكانوا فقراء ولا يزالون قديماً وحديثاً، ولِمَ هؤلاء لم يرزقوا، ورزق هؤلاء؟ الجواب: هؤلاء أراد الله رزقهم، إما إفضالاً عليهم وإما امتحاناً لهم واختباراً، قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، وكما يكون البلاء والاختبار بالشر كذلك يكون بالخير.

إن تعذيب الإمام أحمد رضي الله عنه وفتنته من المأمون والعباسيين كان شراًّ امتحن به، بعد ذلك جاء المتوكل فأطلق سراحه، وحاول أن يقربه ويعطيه، فكان يقول: شرطت عليكم ألا يكون إلا ما أريد، فلا أريد زيارتكم، ولا هداياكم، ولا أن تأتوا إليّ، فكلما أتوه بشيء امتنع، وكان يقول: هذا فتنة، فقد افتتنت بالشر، وأنا الآن أفتن بالخير، فتركوه وذهبوا لأولاده وولوهم القضاء وأعطوهم الأموال فهجر أولاده، لكي لا يكون هذا الإحسان للأولاد طريقاً إليه، وقال: اصنعوا ما شئتم، هذا المال مشبوه، وهذا العطاء مشبوه، وأراد بذلك الدنيا لا الآخرة.

قال تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ [القصص:78] أي: قد أهلك الله قبل قارون من القرون الماضية والأجيال السالفة: مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78] أي: أهلك من كان أكثر قوة وحشماً وخدماً وأتباعاً، وقد قالوا عن قارون : كان إذا خرج خرج بألف من الرجال من أمامه، وألف من الرجال من خلفه، وكذا وكذا من الجواري، وكذا كذا من العبيد، وكذا كذا من الخيام، وكذا كذا من الخيل والبغال، وكانوا يصفون البغال والجمال بأن عليها الذهب والفضة وأنواع الجواهر، فهم لم يروا ذلك ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكره القرآن، ولكن فهموا ذلك من وصف الله غناه ورفاهيته، قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79] فتصوروا أن هذه الزينة لا تكون إلا بذلك، وليس ذلك ببعيد، وظاهر القرآن يدل عليه.

فقال الله عنه: ألم يفكر ويعتبر، ألم يبلغه ويسمع أن الكثيرين ممن سبقوه، ممن كانوا قبله من الأجيال الماضية، أهلكناهم ودمرناهم وعاقبناهم لكفرهم ككفره وبطرهم كبطره، وكانوا أشد منه قوة وأكثر منه جمعاً.

قال تعالى: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78].

إذ يعرف المجرمون يومئذ بسيماهم ويأت الملائكة للمجرمين بلا سؤال، كما أن الكثيرين يدخلهم الله الجنة بلا سؤال ولا حساب.

فالكثيرون من المجرمين يعرفون بسيماهم ويجرون على وجوههم إلى النار بلا سؤال؛ لأن كفرهم وشركهم وطغيانهم وجرائمهم ظاهرة على جباههم تقرأها الملائكة فهم عرفوا بسيماهم وحالتهم وبأوصافهم فدخلوا النار، وهكذا وصف قارون بالبطر والبغي والظلم والاعتداء والتعالي على الله.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة القصص [58-63] 2267 استماع
تفسير سورة القصص [47-54] 2123 استماع
تفسير سورة القصص [18-22] 2065 استماع
تفسير سورة القصص [64-73] 2005 استماع
تفسير سورة القصص [79-84] 1728 استماع
تفسير سورة القصص [9-17] 1634 استماع
تفسير سورة القصص [1-3] 1627 استماع
تفسير سورة القصص [43-46] 1604 استماع
تفسير سورة القصص [55-57] 1541 استماع
تفسير سورة القصص [29-35] 1424 استماع