ليبلوكم
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
ليبلوكمإنَّ الدنيا دار ابتلاء لا دار استِواء، واختبار يتمخَّض عنه جنَّة أو نار، ابتلاء لا يَجب أن يعنينا كثيرًا شكلُه أو صنفه، أو مَداه أو زمنه، بقدْر ما يعنينا مدى نجاحنا فيه أو مدى قربنا لرِضا الله والجنَّة بسببه.
الله خلَقنا في هذه الدنيا ليختبرَنا ثمَّ نموت فيَبعثنا ويجازينا على قدْر تعاملنا مع اختباراته؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، وبُطولة المؤمن أن يَرتدي دائمًا منظار الابتلاء وهو يَنظر لكلِّ مواقف حياته، ولكلِّ الأشخاص العابرين فيها، مع إضماره في نفسه غايةَ رضا الله والقرب منه ونيْل مثوبته.
فكلمة (ابتلاء) أشمَل من أن تَنحصر في المصائب؛ ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]، فكلنا دائمًا في ابتلاء واختبار حتى نموت، قد يكون هذا الابتلاء مرَّة بالعطاء والمنصب والسَّعة، وقد يكون مرَّة أخرى بالسَّلب والخسارة والتضييق، وتَبقى البطولة في التكيُّف مع كلِّ ابتلاء واختبار، والتعاملِ معه وَفق الإجابة النموذجيَّة التي علَّمَنا الله إيَّاها في كتابه وسنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ فابتلاء السَّعَة والعطاء مقتضاه الشُّكر والبذْل، وابتلاء الضِّيق والسلب مقتضاه الصبر والرِّضا، الغني عليه زكاة، ويستحبُّ له الصَّدقة كثيرًا، والفقير يستحبُّ له الصَّبر والرِّضا، وعدم الحسَد وعدم السَّعي إلى حرامٍ لينال من حطام الدنيا ما يشبِع نفسَه، وكلٌّ منَّا يَجتمع له في الوقت نفسه ابتلاء سلْب وابتلاء عطاء، فمنَّا مَن سُلب المالَ ولكنَّه أُعطي العلم، فواجبه الصَّبر على ما سُلِب والشُّكر والبذل بما أُعطي، وقس على هذا.
وابتلاء المصائب والضِّيق من الله لعباده المؤمنين هو لتأْديب المؤمِن؛ لإبعاده عن المعاصي وتذكيرِه بربِّه، فكثيرًا ما نَسهو ونغفل عن ربِّنا، وتأخذنا الحياة بزينتِها وتعطِّلنا عن واجباتنا التعبديَّة تجاه ربِّنا؛ من أداءٍ للعبادات، وخشوع فيها، وتأثُّرٍ بها، وعن واجباتنا الاستخلافية؛ من نصرة الحق، ونشْر الدعوة، ونصرة المظلوم، ووقتها يكون الابتلاء الشديد من الله لنَستذكِر مهامَّنا ونرجِع لمباشرتها، والابتلاء بالشَّدائد للمؤمن أيضًا لرِفعة مكانته بتَكفير سيِّئاته ورقيِّ درجاته عند الله، إنَّ الله لا يكلِّف نفسًا إلا وُسعها وما آتاها، وما دام ربُّنا يعلم في قلب عبده خيرًا وقدرة على الصَّبر، فإنَّه يزيد في بلائه، فيَصبر العبد أكثر وأكثر، فيزيد قدْرُه عند الله، ويمشي وما عليه من سيئة واحدة؛ المصائب كفَّرَت سيئاته.
ومن لُطف الله بعبده المؤمن أنَّه إذا ابتلاه بالشَّدائد ألهمَه الإخلاصَ في الاحتساب، والصَّبر في الرِّضا، واليقين في التفاؤل، فيَغنم الأجرَ الجزيل بالاحتساب، وتقرُّ عينه بالرِّضا رغم ضيق الحال وشدَّة الأزمة، ويَنتظر الخيرَ ويَستبشر بقدومه بالتفاؤل.
إنَّ الشدائد التي تَلوح بنا كأفراد؛ من ضيق حالٍ أو قلَّة مال، أو ظلم طاغيةٍ أو فقْد حبيب، والشدائد التي تلوح بأمَّتنا؛ من هوانٍ وخزيٍ، وتَشتُّت وضياع كرامة، وفقرٍ وجوع - إنَّ هذه الشدائد وتلك يَجب ألَّا تهزَّ ثقتنا بربِّنا وقدرتِه، وحِكمتِه وعلمِه، فكلُّ ما يحدث وما حدَث اللهُ يعلمه ويعلم تفاصيلَه وأطرافَه، والله قادر على تغييره وإصلاحِه، ولكن الله يَبتلينا لنلجأ إليه صادقين مخلِصين، ولنستفرغ أسبابَ بذلِنا كلها فنؤجَر ونرقى، وما دامت الشَّدائد خيرًا لآخرتنا التي إليها مَعادنا، فلا ضيْر من بعض الألم والحزن في دنيانا الفانية؛ ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 17].
وكثرة الذين لا يقدرون الأمورَ بقَدرها فيَجزعون أو يَكفرون نعمةَ ربهم وفضله لضرٍّ مسَّهم - يجِب ألَّا تقلِّل من يقين المؤمِن وثقتِه بوعْد ربِّه؛ ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60].
والصَّبر على الشدائد لا يَتنافى البتَّة مع الدُّعاء والطلَب من الله برَفعها، بل إنَّ من أسمى مقتضيات الشَّدائد أن تَدفع العبدَ دفعًا إلى عتبة الافتِقار لربِّه؛ يَدعوه ويرجوه ويسأله: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ [الأنعام: 43].
فافهم - هداك الله - كلَّ مجريات حياتك بفهْم الابتلاء، وتعامَل معها بما يُرضي الله، واصبِر على الشدائد، واجعلها سببَ قربِك من الله، واستبشِر بالخير؛ فكلُّ شدَّة لا بدَّ يومًا زائلة.