تفسير سورة الفرقان [45-47]


الحلقة مفرغة

قال الله جلت قدرته: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [الفرقان:45-46].

بقيت آية في الأمس لم يذكرها المعيد ولم تفسر، وهي قوله تعالى: وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان:39].

فهؤلاء الجاحدون الكافرون والمنافقون الضالون قد ضرب الله لهم أمثالاً وحججاً وبراهين وأدلة تدحض شبههم وأباطيلهم وضلالاتهم، فمن أصر منهم على الكفر والشرك والنفاق والخلاف فقد تبّرهم الله تتبيراً، والتتبير: التدمير والتخريب، فكلهم دمرهم الله وقضى عليهم بالغرق، أو بالصيحة، أو بالزلزلة، أو بجعل الأرض عاليها سافلها، فكلهم قد دُمّر وتُبّر؛ لما في ذلك من صلاح للناس، وعقوبة لأمثال هؤلاء العصاة.

يقول تعالى يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام -وهو خطاب لكل الناس-: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان:45] الرؤية هنا تفسّر برؤية البصر ورؤية العلم والبصيرة، أي: ألم تر -يا رسولنا- بعلمك وبصيرتك وفهمك وإدراكك هذا الظل كيف مده الله! ومن يقدر عليه غير الله؟!

فالظل هو ما يكون عادة من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، ففي هذا الوقت يكون الظل ممدوداً على الأرض، وهو أحسن ما يكون وقتاً وزماناً، وأكثر ما يكون راحة للمرضى وللنائم بعد النوم حين يصبح الإنسان مع هذا الظل الممدود الذي لا شمس معه ولا شعاع ولا ما يؤذي، حتى إذا أشرقت الشمس أخذ الظل يزول شيئاً فشيئاً إلى أن تُصبح الشمس قد قضت على الظل، وقد وصف الله الجنة بأنها ظل ممدود وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30] أي: لا شمس فيها ولا ما يؤذي النظر والبدن، وإنما حالها كحال هذا الوقت منذ طلوع الفجر إلى شروق الشمس، فهو ظل ممدود متصل، فالظل في هذا الوقت أشبه ما يكون بظلال الجنة.

يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا [الفرقان:45].

أي: لو شاء ربك -يا محمد- لجعل هذا الظل دائماً، فلا تكون شمس ولا شعاع، ويكون الجو في الدنيا أشبه بجو الجنة، ولكن الشمس فيها مصلحة للأحياء، ومصلحة للنبات، ومصلحة للمياه والبحار، وكل شيء مما خلق الله له فيها منفعة ينتفع بها الخلق.

قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا [الفرقان:45] أي: جعلنا الشمس دليلاً على الظل الذي كان قبله، ولو لم تكن شمس لما انتبهنا للظل، ولما وصفناه بالظل، ولظننا أن الجو والوقت والزمن كذلك باستمرار، وقديماً قيل: (وبضدها تتميز الأشياء)، فعرف الظل بشروق الشمس، وعُرفت الشمس بالظل قبلها.

قال تعالى: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [الفرقان:46].

فبشروق الشمس يأخذ الظل في الانقباض شيئاً فشيئاً، وزمناً بعد زمن ليضمه إليه ضماً خفيفاً، حتى إذا أشرقت الشمس لم يبق ثم ظل.

وهذا الظل يكون عادة أكثر راحة للبدن وللنفس، وأكثر اطمئناناً للإنسان القلق والمريض، وأما الشمس فيختفي منها الإنسان عادة، ويستظل بظلالها مع حاجة إليها.

يقول تعالى: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [الفرقان:46] فُسّر قوله (يسيراً) هنا بأن ذلك يسير على الله لا يعجزه ولا يتعبه، وكل شيء يسير على الله وهيّن، وهو القادر على كل شيء، ولكن الأقرب هنا أن المعنى أنه تعالى يجمعه إليه شيئاً فشيئاً في وقت قريب، فلا تكاد ترى قرص الشمس قد بدا ظهوره حتى تضم الظلال بعضها إلى بعض، إلى أن ينتهي وتصبح الشمس وقد أشرقت في الأرض كلها جبالها ووهادها، وبرها وبحرها.

وهكذا عندما تزول وتأخذ تميل إلى الغروب يعود الظل، ويسمى فيئاً، أي: يفيء الظل الذي كان في الصباح، فيعود مساءً من جهة المشرق عندما تذهب الشمس لجهة المغرب.

فهذا الذي يلفت الأنظار: من الذي قدر عليه؟ ومن الذي صنعه؟ إنه ربنا جل جلاله القادر على كل شيء.

وهذه الآية وما يأتي بعدها من آي من هذه السورة المكية الكريمة فيها الأدلة المقنعة التي يؤمن بها كل من خلق الله له عقلاً سليماً على قدرة الله وعلى آيات الله في كونه، وعلى أنه القادر على كل شيء وحده، فلا يحتاج إلى شريك ولا إلى معين ولا إلى مؤازر جل جلاله وعزّ مقامه.

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47].

فالله جل جلاله هو الذي جعل الليل لباساً يلبس كل الخليقة، ويلبس كل الكون ويغمره ويغشاه، فلا يرى من الأرض شيء، وشبهه تعالى لستره وغشيانه وتغطيته باللباس، فالنهار نراه بيّناً عند شروق الشمس، وعندما يأتي الليل ويغشي النهار ويلج فيه لا يُرى من الأرض شيء، فتُصبح الأرض وقد كُسيت لباساً سترها فلا يُرى منها بحرها ولا برها، ولا وهادها ولا جبالها، كالإنسان الذي يكون عرياناً فيستره لباسه عندما يلبسه، فمن الذي خلق ذلك؟

يقول تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [النبأ:9] أي: قاطعاً يقطع العمل، ويقطع الفكر، ويريح البدن، ويقطع شغله، فيريح الروح والبدن، وينقطع به الجسد عن الأشغال والأتعاب، وتنقطع به الروح عن التفكير بما يشغلها ويهمها، فيكون الليل لباساً، ويكون النوم سباتاً.

فالذي يمرض لا ينام، ويصيبه الأرق كثيراً، فيمرض جسده وتمرض روحه، ولا يكاد يستطيع العمل إذا هو أرق وسهر الليالي المتصلة؛ لأن هذا البدن الضعيف يحتاج إلى أن ينقطع عن العمل والحركة، وهذه الروح التي تجري فينا تحتاج كذلك إلى ما يقطعها عن التفكير، وعن الهم، وعن الاشتغال بما يخطر في البال أو بما يحرّك الجسد، فلو لم يكرم الإنسان بالنوم لينقطع عن العمل لمرض جسده، ولأشرف على التلف والهلاك، فمن الذي قدر على ذلك؟ ومن الذي خلق ذلك؟ ومن الذي أكرم الإنسان بذلك؟ إنه الله جل جلاله.

فلو جعل الله الدنيا نهاراً كلها أو ليلاً كلها، أو يقظة كلها أو نوماً كلها لاضطرب نظامها، ولتعب خلقها، ولعجزوا عن العمل وعن التفكير، ولكن الله جل جلاله جعل لعباده الليل لباساً يسترهم كما يستر البدن من العري، وجعل النوم سباتاً يقطع به أعمالهم وأفكارهم؛ ليجدوا راحة يستقبلون بها النهار بعد ذلك بنشاط وهمّة وقدرة جديدة.

قال تعالى: وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47] فهو الذي جعله نشوراً تنتشر فيه الخلائق في الأرض، فهذا إلى مصنعه، وهذا إلى متجره، وهذا إلى مكتبه، وهذا إلى مزرعته، وهكذا ننتشر بعد النوم وبعد السبات وبعد الليل وبعد السكون، فحين تشرق الشمس ويصبح النهار نأخذ في الانتشار؛ لنرتزق ولنتكسب ولنعمل لديننا ودنيانا، فلو كان الليل سرمداً لتعب الناس كثيراً، ولشقّت عليهم الحياة، وقد وجد بعض هذا في الأرض، ففي الشمال عند القطب المتجمد يكون اليوم سنة كاملة، فستة أشهر هي ليل لا شمس فيها ولا نهار، والستة الأشهر الثانية نهار لا ليل فيها، فيرتب الساكنون بقرب ذلك المكان يومهم على أنه اثنتا عشرة ساعة، فينامون بعضها ويعملون في بعضها، ولكنك تجدهم منهكين أجساداً وفكراً وروحاً.

فالله تعالى جعل أغلب الأرض على الليل والنهار في الساعات المحدودة.

فهذا الخلق من ليل ونهار، وظل وشمس، ونوم ويقظة، وظلام ونور، كل ذلك خلقه الله لهذا العبد ليشكر نعم الله عليه، ويأخذ من ذلك أدلة واضحة قاطعة على قدرة الله على كل شيء.

ثم قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48].

هذه الريح التي نحس بها ونشعر بكيانها -وإن كانت العين لا تراها- تحتاج إليها الأرض والإنسان حاجة شديدة، فالله خلقها وأرسلها لتكون بشرى بين يدي رحمة الله، لتكون مبشرة بالغيث والمطر والرزق النازل من السماء والقدرة الإلهية القادرة على كل شيء، حيث ترى الجو ساكناً فإذا بالرياح تبتدئ فتكون هذا السحاب وتجمعه وتكثّفه، وتسوقه لينزل منه المطر فيغيث الأرض، وتكثر المياه الجوفية، فتمتلئ الآبار، وتجري الأنهار، وتنبت الأشجار، ويزرع الزارع، ويشرب الشارب، وهكذا خلق الله هذه الرياح لتكون مبشرة بما بين يديها من رحمة الله ورزقه وغيثه وأمطاره التي يرسلها لتكون أسباباً للرزق والنبات ولحياة الإنسان الذي لا يستطيع أن يعيش بغير مياه.

يقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان:48] وقرئ في السبع: نُشْرًا أي: تنتشر في السماء لينزل بعدها الغيث والأمطار والأرزاق التي هي نتيجة هذا المطر والغيث.

قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] هذه السحب جعلها الله أسباباً لإنزال الأمطار، فهي تنزل من السماء، وكل علو سماء، فهذه السحب تجمع قطرات الماء، فيرسلها الله تعالى فيحيي بها الأرض بعد موتها؛ ليغيث الخلق، فالله جعل من الماء كل شيء حي، فلا يستغني عنه حي مطلقاً.

معنى قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)

قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] أنزل الله من العلو ماء طهوراً، أي: ماء آلة وأداة للطهارة والتطهير، فلا تكون الطهارة في البدن والثوب، ولا يكون الغسل والوضوء للصلاة والاعتكاف والطواف والسعي إلا بهذا الماء، وطهور: فعول، كقولك سحور: أي طعام السحور، وفطور: أي طعام الفطور.

وقد فهم جمهور الفقهاء من ذلك أن الماء الذي لا تجوز الطهارة إلا به هو الماء الصافي غير المختلط ولا الممتزج بشيء معه، فهو أداة الطهارة وأداة النظافة وأداة ما يتعبد الإنسان به في وضوئه وغسله؛ ليصلي لله، وليطوف بالكعبة المشرفة، وليسعى بين الصفا والمروة، وليقوم بما لا يتم إلا بالطهارة بالماء من العبادات.

ومن هنا يقول الفقهاء الثلاثة مالك والشافعي وأحمد ، وعليه جماهير الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين: إن الماء الذي يصلح للطهارة هو الماء الذي لم يختلط بشيء، وزادوا على ذلك فاستدلوا بقول النبي عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن ماء البحر، فقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) فهو الطاهر ماءاً، وهو الأداة التي تصلح للطهارة، وهو مثال للماء الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، فعند الأئمة الثلاثة وجماهير الفقهاء من الصحابة فمن بعدهم أن الطهارة لا تحصل إلا بهذا الماء.

وفسّر الحنفية الطهور بالطاهر، فقالوا: كل مائع تصح الطهارة به، فصححوا الوضوء بالنبيذ وبالخل وبالعصير وبماء الورد وبماء الزهر، وهذا الذي قالوه هو فهم استدلوا عليه بآثار لم يصححها الجمهور، وقالوا: إن كلمة (الطهور) في القرآن المراد بها آلة الطهور، أي: آلة ما يتطهر به الإنسان، وليس معناها الطاهر فقط.

وقالوا: قليل الماء ينجّسه قليل النجاسة، وكثيره لا ينجسّه شيء إن لم يتغير به، فإن كان الماء كثيراً فاختلط به شيء فإنه إن غيّر أحد أوصافه الثلاثة -أي: اللون أو الطعم أو الريح- فعند ذاك لا يتوضأ به، ويُعتبر غير صالح للتطهير.

والماء طهور لا ينجسه إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه، إن كان هذا التغيير بشيء ليس من أصل الماء، كأن يمر الماء على معدن كبريت أو حديد أو زئبق فنجد طعم ذلك المعدن في الماء فهذا لا يضره، وكأن نجده قد تغير بالتراب نتيجة سيل أو أمطار غزيرة، فهذا لا يضره؛ لأنه تغيّر بالتراب الذي يمر عليه.

وأما إذا تغير بشيء ألقي فيه فتغير أحد أوصافه الثلاثة فإنه لا يصلح ولا يجزئ للطهارة.

وقال الشافعية: ينجس الماء إذا لم يبلغ القلتين بمجرد وقوع النجاسة فيه، واستشهدوا ببئر بضاعة في الحياة النبوية، فهذه البئر كانت تلقى فيها الأزبال، وتلقى فيها الأقذار مما يغير أحياناً لوناً وطعماً وريحاً، ومع ذلك كان الأصحاب يتوضئون منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء الطهور لا ينجسه شيء) أي: هذا الماء رغم ذلك لا ينجس ولا يغير، قال الشافعي: لأنه بلغ القلتين، وقالوا: القلتان من قلال هجر، ثم قدّروهما بالوزن فقالوا: وزنهما خمسمائة رطل.

واستدلوا بمفهوم حديث (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، وهذا الحديث ينازعهم فيه أصحاب المذاهب الأخرى فيقولون: قد اضطرب سنداً ومتناً، وبذلك ألغوا الاحتجاج به واكتفوا بكون الماء لا ينجّسه شيء ما لم يغيّر لوناً أو طعماً أو ريحاً، وقالوا: إذ تغير أحد أوصافه ففي هذه الحالة لا يبقى ماءاً، ونحن قد تُعبّدنا بالتطهر بالماء، فإذا أصبح الماء ماء الزهر أو الخل أو النبيذ فلا يكون ماءاً، بل يقال عنه: خل ونبيذ وعصير، والشارع لم يتعبدنا إلا بالماء، والماء هو الماء المعروف عندنا النازل من السماء، والنابع من الآبار ومن الأعين والكائن في الأنهار، فهذا هو الماء كما ذكره الله ووصفه، وهو الذي ينزل من السماء وينبع من الأرض ويوجد بأصل الخلقة في البحار، فإن تغير بشيء لوناً أو طعماً أو ريحاً ولو بالطاهر لم يصلح التطهر به، خلافاً لقول الأحناف بأنه يجوز الوضوء بالنبيذ وبالعصير وبالخل وبالشاي وما إلى ذلك، وهذا خروج عن النص؛ لأن الله قد قال: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، فالماء أداة للطهارة، وهذا لا يُسمى ماءاً، بل نُسميه خلاً ونُسميه نبيذاً، ونُسميه ماء زهر وورد.