أرشيف المقالات

من تصوير القرآن لعدم استجابة الكفار لنداء الحق

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
من تصوير القرآن لعدم استجابة الكفار لنداء الحق
 
يقول الله تعالى: ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [النمل: 79 - 81]، هذه الآيات تثير مجموعة من التساؤلات، وقد اجتهد مفسرونا في الإجابة عنها، وهذه التساؤلات هي:
السؤال الأول: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق المبين، فلماذا أعرض عنه أهل الشرك؟
لأنهم بالنسبة لدعوة الحق موتى، صُمٌّ، عُمْيٌ، فقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ﴾ [النمل: 80، 81] هو بمنزلة:
1- جواب للسؤال عن عدم إيمانهم مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق المبين.
 
2- تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وعذر له عن عدم إيمانهم، فهؤلاء الكفار لا يستحقون أن يؤسف عليهم؛ لأنهم اختاروا ذلك لأنفسهم، ولأنه لم يترك من تحذيرهم ما لو ألقاه إليهم لأقلعوا عما هم فيه، فلم يبقَ ما يوجب أسفه عليهم، فكأن الله تعالى ينهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يحزن عليهم إن لم يؤمنوا، كقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3].
 
السؤال الثاني: لماذا شبههم بالموتى؟ ولماذا شبههم بالصم؟
شُبِّهوا بالموتى على طريقة الاستعارة في انتفاء فهمهم معاني القرآن، فمن آثار القرآن: أنه يشتمل على معانٍ مقبولة لدى أهل العقول السليمة، وهي المعاني التي يدركها ويسلم لها مَن تبلغه، ولو بطريقة الترجمة، بحيث يستوي في إدراكها العربي والعجمي، وهذا أثر عقلي، والموتى لا يبلغهم هذا الأثر.
 
وشبههم بالصم؛ لانتفاء أثر بلاغة ألفاظ القرآن عن نفوسهم، ومن آثار القرآن: دلالة نظمه وبلاغته على أنه خارج عن مقدرة البلغاء العرب، وهذا أثر لفظي، وهو دليل الإعجاز، وهذا الأثر خاص بالعرب في المقام الأول، ويشمل غيرهم من الأعاجم إذا كانوا من أهل النظر والتأمل، فإذا تدبروا في عجز البلغاء من أهل اللسان الذي جاء به القرآن عن معارضته، تيقنوا أنه فوق مقدرتهم، فالمشركون شُبهوا بالموتى بالنظر إلى الأثر الأول، وشُبهوا بالصم بالنظر إلى الأثر الثاني.
 
السؤال الثالث: لماذا كرر (تُسمِع) في قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ ﴾ [النمل: 80]، ولم يقل - مثلاً -: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى ولا الصُّمَّ)؟
لتأكيد عدم استجابتهم لدعوة الحق.
 
السؤال الرابع: من شأن الأصم أنه لا يسمع، فلمَ قيده بقوله: ﴿ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ [النمل: 80]؟
لأن اجتماع الصمم والإدبار آكد في عدم السماع، فالأصم إذا كان مواجهًا للمتكلم قد يسمع بعض الكلام بالصراخ مثلاً، أو يستفيد من الإشارات باليدين والوجه، فجعله أبعد ما يكون عن أيِّ وسيلة قد تُسمِعه.
 
السؤال الخامس: التولي هو الإدبار، فلماذا عبَّرت الآية بالتولي والإدبار، ولم تعبر بأحدهما؟
(مدبرين) حال مؤكدة لعاملها، جاءت لتأكيد إعراضهم عن الحق، وفرارهم منه.
 
السؤال السادس: لماذا كرر تشبيه إعراضهم بالعُمْي في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ﴾ [النمل: 81]، بعد أن شبههم بالموتى وبالصم؟
كرر تشبيه المشركين في إعراضهم عن الحق بأن شبهوا في ذلك بالعمي بعد أن شبهوا بالموتى وبالصم على طريقة الاستعارة؛ إطنابًا في تشنيع حالهم، بأنهم لن يستجيبوا للدعوة إلى الحق؛ لشناعة ما هم عليه من ضلال يشبه الموت والصمم والعمى.
 
ومن آثار القرآن: أنه مرشد إلى طريق الهدى، فشُبهوا بالعُمْي في انتفاء التمييز بين طريق الهدى وطريق الضلال؛ من حيث إنهم لم يتَّبعوا هدى الإسلام.
 
السؤال السابع: لماذا عدل في جملة: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ﴾ [النمل: 81] عن نفي الفعل كما في الجملتين الأوليين: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ﴾ [النمل: 80] إلى نفي الجملة الاسمية؟ أي: لماذا لم يقل: (إنك لا تهدي العمي عن ضلالتهم) كما قال: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ﴾ [النمل: 80]؟
نفي الجملة الاسمية يدل على ثبوت النفي ودوامه، وقد أكد ذلك الثبوت بالباء المزيدة لتأكيد النفي في ﴿ بهادي ﴾؛ وهذا لأن الجملة الأخيرة تنفي اهتداءهم الذي هو مطمح الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليؤكد له الله تعالى عدم جدوى حسرته على عدم إيمانهم، كما قال عز وجل: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر: 8]، وليثبت له مضمون قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [القصص: 56].
 
وقد أجاد الشاعر حين قال:

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا
ولكنْ لا حياةَ لِمَنْ تُنادِي

ولو نارًا نفختَ بها أضاءتْ
ولكنْ أنت تنفخ في رمادِ

 
رحم الله ابن كثير، وابن عاشور، وجميع مفسري القرآن الكريم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١