تفسير سورة الأنبياء [10-22]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10].

كان الخطاب في الجزيرة العربية أولاً للعرب قوم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أصبح خطاباً لجميع من أكرمه الله بالإسلام والإيمان، فكانت النذارة للعشيرة الأقربين أولاً: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] ثم لكل الناس في مشارق الأرض ومغاربها، عرباً وعجماً، فقال لهؤلاء: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، أي: فيه شرفكم وعزتكم ورفعتكم يا هؤلاء الذين حجدوا هذا القرآن الكريم أنه وحي من الله، وأنكروا أن يكون هذا الكتاب الكريم -بما فيه من قصص وعبر، وحلال وحرام، وبما فيه من إعجاز وعلوم ومعارف، ولم يؤت بمثله قبل وبعد، لا في كتاب منزل، ولا في كتاب مدون من بشر، ولن يأتي مثله أبداً، هذا الكتاب كان شرفاً وذكراً لكم، وفيه ذكر محاسن ومزاياكم، وذكركم فيما بشرتم به مهاجرين وأنصاراً، وبالتالي هو شرف لكل مسلم.

فالقرآن شرف الله به المؤمنين عرباً وعجماً، وأكرم الله به المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، أكرمهم بما وعدهم به، وبشرهم من رضا ورحمة وجنان خالدة، أكرمهم بما هداهم إليه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فتركوا الضلال إلى الهداية، ومع هذا كانوا أشبه بمجنون يفقأ عينيه وينحر نفسه وهو لا يدري، تركوا النور إلى الظلام، والهداية إلى الضلال، والشرف إلى الذل والهوان، هل يصنع هذا عاقل؟! ولو كان الكافر عاقلاً لما صنع هذا بنفسه: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10] وبالتالي عمت الآية كل مؤمن، فقد شرفه الله، وأحسن ذكره وسيرته في هذا القرآن الكريم: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10] ألا عقل هنا؟! ألا ميزة يميز بها بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين النور والظلمة؟!

ثم عاد الله جل جلاله فأنذر -وهو هكذا بين بشارة ونذارة، وبين وعد ووعيد، بين تبشير بالجنة والرحمة، وتيئيس منها لمن مات ولم يؤمن- فقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11].

(قصمنا) أي: كسرنا، دمرنا، أهلكنا.

وأصل القصم الكسر.

(وكم) للتكثير.

و(من) للتعميم في هذه الكثرة، وإن كان النحاة يقولون عنها: زائدة، وفي القرآن صلة، ولكن في المعنى واللغة والبلاغة هي ذات معنى كبير، أي: تعم وتشمل ما ذكر بعدها من نفي أو إثبات، فقوله: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء:11]، أي: دمرنا وأهلكنا قرى كثيرة (كانت ظالمة)، أي: كانت مشركة صنعت مع أنبيائها ورسلها ما يصنع اليوم قريش، وما يصنعه كل كافر في عصره عليه الصلاة والسلام، ومن بعد عصره إلى يوم القيامة ممن أصر على الكفر حتى الموت.

ومعنى ذلك: التهديد والوعيد، أي: كما فعلنا ذلك بالأولين الظالمين، لا نزال كما كنا، لو شئنا لقصمناكم ودمرناكم، ولكن نمهل ولا نهمل، ونرجئكم علكم تعودون وتتوبون، وإن كانت النهاية ستكون تدميرهم وقصمهم وكسرهم إذا لم يؤمن منهم من يؤمن.

قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11] أي: كما أنشأنا من بعد أولئك أقواماً وعشائر، أرسلنا كذلك لهم رسلاً مبشرين ومنذرين، ولم يحدث شيء في الأرض، لا انهدت سماء، ولا سقطت أرض، ولا بكت على ظالم مشرك لقي جزاءه وفاقاً.

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11] أي: بعد إهلاك هذه القرية أنشأنا أمماً وشعوباً آخرين، فورثوا أرضهم، وحلوا مساكنهم.

قال تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ [الأنبياء:12].

يذكر الله عن هؤلاء الظالمين، الذين بادرهم بالعقوبة بالدنيا قبل الآخرة: أنهم لما شعروا بالعذاب بواسطة الحس، وبنظر العين، وسماع الأذن إذا بهم يفرون من قراهم بعد أن جعل الله عاليها سافلها، وبعد أن أغرقهم، وبعد أن ضربهم بالقوارع من السماء، وبالزلازل من الأرض.

قال تعالى: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ [الأنبياء:13].

يأمر الله ملائكته أن يقولوا لهم ذلك ساخرين منهم جزاءً وفاقاً لما كانوا يسخرون بأنبيائهم حالة الاطمئنان والحياة المترفة.

(لا تركضوا) أي: لا تفروا، وإلى أين الفرار؟! لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الأنبياء:13] وارجعوا إلى الترف الذي عشتم فيه بالحرام، والفساد، والظلم، وبالاعتداء على الأعراض والأموال، وبسفك الدماء، ارجعوا إلى هذا الترف الذي عشتم فيه.

وَمَسَاكِنِكُمْ [الأنبياء:13] أي: إلى قصوركم ودوركم، وما اعتدتموه من ترف وجبروت وكبرياء لعلكم تسألون، ربما سألتم عن ذلك، وربما طلب منكم بعض ذلك، ولكن هيهات! أين الفرار بعد نزول البلاء والبأس من الله؟ لا فرار منه إلا إليه، ولا منجى منه إلا إليه، ولكن في مثل هذه الساعة عند حلول النقمة، وبلوغ الروح إلى الحلقوم، لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، حلت العقوبة، وحلت لعنة الله، ولا مفر بعد ذلك من عقاب الله.

قال تعالى: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ [الأنبياء:13] ارجعوا للترف والقصور التي طالما تعاليتم على الناس بها، واستكبرتم وتجبرتم، ارجعوا لها إن استطعتم، وهيهات ولات حين مندم! ولات حين عودة ورجوع.

(لعلكم تسألون) أي: عن ذلك، ولعلكم تعودون لما طلب منكم، ولكن هيهات! الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك.

قال تعالى يصف لنا حالتهم في صورة تشخيصية، تمثيلية، وكأننا نراها رأي العين، وهم يركضون فارين، والبأس والعذاب يحيط بهم من كل جانب، وهم يقولون: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:14].

قالوا وصاحوا: يا ويلهم، يا بلاءهم.

(ويل): واد في جهنم فيه قيح أهل النار وصديدهم، فهم ينادون قذرهم، وينادون ما عاقبهم الله به ولعنهم به: قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:14].

قال تعالى: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء:15].

وهم تحت البأس والنقمة والعذاب والصواعق والزلازل والغارات عوضاً عن أن يعودوا فيقولون: لا إله إلا الله، وهم يقولون: يا ويلهم! يا ويلهم! يا ويلهم! إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:14].

فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ [الأنبياء:15] أي: ما زالت تلك الكلمة نداءهم وقولتهم التي يقولونها (حتى جعلناهم حصيداً خامدين)، إلى أن استحصدوا واستؤصلوا كما يحصد المنجل الزرع، (خامدين) أي: ميتين هالكين، عاشوا في الويل، وماتوا وهم ينادون بالويل، وحلت عليهم اللعنة والبأس، لعنة الله وغضبه، فالله ينذرنا بهذا، ويقص علينا قصص من سبقنا من المشركين والظالمين، ويحذر من لم يؤمن به، وفعل فعلهم، وأصر إصرارهم على الكفر والشرك والظلم.

قال تعالى: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:15-16].

يقول تعالى عن هؤلاء ولمن سمع ذكرهم بعد: هؤلاء قد حلت عليهم اللعنة، وبأس الله وعقوبته، ومع ذلك لم يهتدوا للتوبة؛ ولم يقولوا في أخريات أيامهم: لا إله إلا الله، ربنا إننا تبنا وأنبنا، بل أخذوا يضرعون وينادون: يا ويلهم! يا ويلهم! إنهم كانوا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم، ونداءهم، وكلمتهم، والبلاء والعقوبة محيطة بهم من كل جانب.. إلى أن جعل الله عاليهم سافلهم، وهم ينادون بالويل.. إلى أن استحصدوا كما يحصد الزرع، وإلى أن خمدوا وانطفئوا كما تطفأ النار، وماتوا وهلكوا.

قال ربنا: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16].

أي: يظنون أننا خلقنا هذه السموات العلى، وهذه الأرضين السفلى وما بينهما لعباً ولهواً؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

وهؤلاء أرادوا أن يزيلوا الحكمة من الخلق، ويعتبروننا لاعبين بهذا الخلق لاهين، وهيهات هيهات ما أصغر عقولهم! وأبعدها عن الوعي والحكمة، فليس الأمر كذلك.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16]، لم يكن ذلك لعباً، ومعاذ الله! لم يخلق سماءً ولا أرضاً وما بين السماء والأرض من الأفلاك والمجرات مما لا يعلم حقيقته ويحصيه إلا الله، لم يخلق ذلك عبثاً، وبعد ذلك النار لأهل النار من الجاحدين والظالمين، والجنة لأهل الجنة من المؤمنين الصادقين.

قال تعالى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:17].

(لو أردنا) لو: حرف امتناع لامتناع، امتنع أن نريد، فامتنع أن يكون لهواً.

وقالوا عن اللهو: هي المرأة، وقيل: الولد، واللهو يسمى اللعب في الماضي أي: اعملوا كل ما فيه معنى اللهو، امرأة كان أو ولداً أو عبثاً بلا علة ولا سبب، كما يفعل هؤلاء، حيث إنهم عاثوا في الأرض ليأكلوا ويشربوا ويظلموا وظنوا أنهم جاءوا بلا معنى، وسيخرجون بلا معنى، وهيهات هيهات! لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء:17].

ومن هنا فسروا (اللهو) بالمرأة؛ لأنهم جعلوا لله امرأة بقيت معهم في الأرض، وجعلوها زوجة لله في زعمهم، فقالوا: مريم هي زوجة وصاحبة لله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فاتخذوا لله ولداً من الأرض وهو عيسى، وقالوا: الجن بنات الله، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً!

وشأن الصاحبة والولد أن يكونا مع الإنسان، فنفى الله عن نفسه ذلك، ولا يليق بربوبيته ذلك، ولو شاء لاتخذ ذلك من عنده في السماوات العلى، ولكن ذلك لا يليق بألوهيته ولا بربوبيته، ولم يكن ذلك أبداً: إن صح هذا في المخلوق الحادث، فلا معنى له بالنسبة للإله الخالق الرب جل جلاله وعز مقامه، فهو لهو ولعب.

قال تعالى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:17].

(إن) هنا بمعنى: ما النافية، أي: لسنا بفاعلين، وقالوا (إن) بمعناها الشرطي: لو أردنا لفعلنا، والله لم يرد، وبالتالي لم يفعل، والمؤدى واحد، فهو منزه عن النقائص على كل حال، له الجلال والكمال جل جلاله، وعلا مقامه.

قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ [الأنبياء:18].

(بل) كلمة إضراب في لغة العرب، أي: اضربوا عن كل ما قيل منذ نقل الله وحكى قول الكافرين عن النبي عليه الصلاة والسلام: كيف يكون نبياً وهو بشر؟!

ثم أخذوا يتهافتون ويسقط بعض على بعض بالهراء والصخب: إذا لم يكن نبياً فما هو؟ قالوا: رؤى ومنامات وخرافات، ثم قالوا: (افتراه) ثم قالوا بعد ذلك: بل هو شاعر.

ثم ذهبوا في ظلمهم وعتوهم إلى أن بلغوا الذات العلية، ونسبوا له الولد، والصاحبة، فأنذر الله وأوعد، ثم أضرب عن كل ذلك، قال: (بل) أي: هذا كله اضربو عنه؛ فهو هراء في هراء، وما وعدناه هو أن نكشف حقائقهم لمن لم يعلم بعد، ولمن عاصر النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة، ولمن يأتي بعده: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].

والحق: الله حق، ووعده الحق، وكتابه الحق، ونبيه حق، وما جاء من بعثته ومن جنة ومن نار، ومن حساب ومن عقاب، كل ذلك حق لا يشك فيه مسلم، والله يقذف بالحق على الباطل ويدمره.

وما الباطل إلا كل ما جاء به هؤلاء الظلمة المشركون مما لم ينزل الله به من سلطان، ومما جعلوه على النبي عليه الصلاة والسلام كذباً وباطلاً وبهتاناً، ومما جعلوه على الذات العلية جهلاً بألوهيته وبوحدانيته، فالله يقذف بالحق، والحق هنا: الدليل والبرهان القاطع من كتاب الله، ومن سنة الرسول الله عليه الصلاة والسلام.

(بل نقذف) بل نرمي ونطرح، نضرب بالحق الباطل، وكل ما ليس في كتاب الله ولم يأتِ في حديث رسول الله، ولم تقره العقول السليمة فهو باطل وهراء، لا ظل له من حقيقة، ولا واقع له من أمر.

(فيدمغه) أصل الدمغ: الضرب حتى تصل الضربة إلى الدماغ، فتكون مهلكة وقاضية، وهكذا يقول الله في كتابه، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء:18] فيهلكه ويصيب منه الدماغ؛ فيهلكه ويدمره.. إلى أن يذهب وكأنه لم يكن، ولم يبقَ إلا ذكراً في صحائف، وقصصاً تتلى وتقص في ليالي السمر.

ثم عاد فأنذرهم وتوعدهم بأن لهم الويل، أي: لهم جنهم، وويل: وادٍ في جنهم يجري فيه صديد ودماء المعذبين من أهل النار!

(مما تصفون) مما تنعتون به أنبياءكم، وربكم الواحد جل جلاله، وعلت رفعته.

قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنبياء:19].

أي: يا هؤلاء! الذين ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا غيرهم، والذين جعلتم لله شركاء، وتصورتم الله تصوركم لأنفسكم، فجعلتم له صاحبة وولداً: إن الله له من في السماوات ومن في الأرض خلقاً وتدبيراً ولم يكن المملوك يوماً شريكاً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، فلسنا إلا عبيداً، فإن أكرمنا بالعبودية فسنكون من قادة الناس بتحقيق تلك العبودية.

فلا صاحبة ولا ولد ولا شريك له، وما كان له من أنبياء مكرمين صادقين فكلهم معصومون، لم يأتوا إلا بالحق، ولم ينطقوا إلا بالحق، أتوا بالآيات البينات المعجزات من الله جل جلاله علامة وأمارة لصدقهم قولاً، ولصدقهم فعلاً، ولصدقهم إقراراً.

وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء:19].

أي: ومن عنده من الملائكة في عليين، وفي الملأ الأعلى، هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يستنكفون عن عبادة الله كما يستنكف بعض الإنس والجن.

وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء:19] لا يكلون ولا يملون ولا يتعبون، هم في عبادة دائماً صباح مساء، ليل نهار، قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا، يا رسول الله لا نسمع، قال: أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد).

وهؤلاء يعبدون الله في كل أحوالهم، عبادتهم بالنسبة لهم كالنفس بالنسبة لنا، كما أننا لا نستطيع العيش بلا نفس، فكذلك الملك يعيش بالذكر، وبالتسبيح، والسجود، والركوع، وبتعظيم ربه، كل يذكر الله بما ألهمه، وكل يعبد الله بما ألهمه، فمن قائم وراكع وساجد، يقولون: لا إله إلا الله، بمختلف خلايا جسومهم وأبدانهم، لا يكلون ولا يملون ولا يستكبرون ولا يستحسرون، لا يتعبون.

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنبياء:19].

(من) في لغة العرب تطلق على العاقل وحده، و(ما) تطلق على غير العاقل وحده، تقول: جاء الرجل من كان عندنا بالأمس، وتقول: اشتريت دابة مما كان عندي نظيرها بالأمس، يقال: (ما) ولكن (من) قد تشترك مع العاقل ومع غير العاقل، كما أن (ما) كذلك.

(لا يستحسرون) أي: لا يملون ولا يكلون، وأصل الحسر: الدابة إذا تعبت حسر بعض جلدها؛ نتيجة التعب وما تحمل، فأطلقت الكلمة على الكلل والملل في نجمها، فهؤلاء لا يكلون ولا يملون، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، أي: بلا فترة ولا راحة، ولا زمن يهدءون فيه وقتاً، ويعودون إلى العبادة وقتاً، فالعبادة مستمرة دائمة، عبادتهم دائمة كالنفس لنا، كما أننا لا نعيش بلا نفس، لا يعيشون بلا عبادة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون.

قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ [الأنبياء:21].

يقول الله تعالى لهؤلاء وهو يسأل سؤال تقريع وتوبيخ، أهؤلاء الذين أشركوا بالله ونسبوا له ما نسبوه، أهؤلاء الذين اتخذوهم شركاء لله من الأرض: (هُمْ يُنشِرُونَ)، أي: يحيون الموتى، حتى يصبحوا منتشرين في الأرض أحياء يرزقون، متنقلين من سطح إلى سطح، ومن أرض إلى أرض، هل هم فعلوا ذلك؟

هل هذه الآلهة التي عبدوها من الأرض من الجن والإنس والحيوان والجماد، وتركوا خالق الأرض والسماء: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؛ هل هؤلاء الذين عبدوهم يحيون الموتى كما يحي الله؟ هل يرزقون كما يرزق الله؟

والجواب قائم في نفس الانتفاء: لا يحيون ولا يضرون ولا ينفعون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.

قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22].

فهذه أعظم آية قاطعة لدلالة العقل: على أن الله واحد، وعلى أن الله لا شريك له، وعلى أن الله لا ثاني له، لا في ذات، ولا في وصف، ولا في فعل.

(لو كان فيهما) في السماء والأرض آلهة متعددة.

(لفسدتا): أي السماء والأرض.

ولعلا بعضهم على بعض فصار هذا آمراً وهذا ناهياً، فإذا التقى الأمران وكانا متناقضين وقع الفساد والدمار والخراب، وبما أن الأرض لم تفسد والسماء لم تفسد، والنظام الكوني الذي خلق الله به الدنيا منذ خلقها لا يزال ليلاً نهاراً كما هو، ولا زالت الأرض ببشرها بإنسها وجنها، بملكها بكل ما عليها من حي في نظام متكامل، الليل النهار يدخل هذا في هذا، ويغشى هذا هذا، ويكون النهار تارة أطول، ويكون الليل تارة أطول، بين شمس وقمر، وبين فصول العام الأربعة، شتاءً وخريفاً صيفاً وربيعاً، كل ذلك منذ خلق الله الكون لم يتزحزح أنملة، ولم ينقض ثانية، من الذي دبر هذا؟ لو كانوا آلهة لعلا بعضهم على بعض، ولطلب أحدهم ما يحدث من ملوك الأرض ودولها، فنحن نرى هؤلاء يعلو بعضهم على بعض، وتسفك الدماء، وتقوم الحروب، ويجوع البشر، ويكثر الفساد، وتدمر المدن، وينتشر الظلم ويحدث .. ويحدث.

ولله المثل الأعلى: لو كان معه رب ثان، وخالق ثان، لطلب أحدهم الدنو على الآخر، ولطلب هذا الحياة وهذا الموت، وهذا البناء وهذا الهدم، وهذا القيام وهذا القعود، ولو كان ذلك كذلك لتدهور العالم، ولما بقي هناك نظام، والذي نراه خلاف ذلك.

والذي نراه ورآه آباؤنا وقبلهم أجدادنا: أن الكون قائم على نظام بسيط، لا يزيد ولا ينقص، لا يزيد ثانية ولا يغير خلق البشر، ولا خلق الحيوان إلى ما نعلمه جميعاً، دارسنا وغير دارسنا، مؤمننا وكافرنا، عالمنا وجاهلنا، هل هذا إلا الدليل العقلي القاطع الذي لا ينكره إلا مجنون، فقد العقل قبل أن يفقد الإيمان.

أما السماء والأرض لو كانت فيهما آلهة غير الله لفسدتا، ولاختل نظامهما، ولما بقي هناك نظام في سماء ولا أرض، فبما أن هذا لم يكن كذلك فهو الدليل القاطع العقلي على أن الله واحد ليس معه شريك، ولا صاحب، ولا محيي، ولا مطاع.

وحتى ما يقوله اليهود والنصارى في عزير أو مريم وعيسى يقولون: هم ثلاثة في واحد، وواحد في ثلاثة يقولون: الأب الأكبر: روح القدس، ثم الابن، ثم الصاحبة، وهم في ذلك يزعمون بخزعبلات لا تقبلها إلا عقولهم، بلاء وإفك وعناد دون فهم ولا وعي ولا تعقل، يقولون: خلق الولد، وخلق الصاحبة، ثم اتخذها صاحبة، واتخذ منها ولداً.

قال تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ[الأنبياء:22] يسبح الله نفسه، ويعلمنا كيف نسبحه، وينزه نفسه عن هذا الباطل الذي افتراه، الجاحدون، واخترعه الكاذبون، ولا منطق لهم من عقولهم سليمة، ولا دليل عليه من كتب سابقة، ولا رسل مضت، إن هي إلا أكاذيب وأضاليل، أصروا على الكفر تلاعباً بأنفسهم، وتلاعباً بدينهم، وتحريفاً وتبديلاً وتغييراً في كتب الله، وفي آيات الله السابقة، فسبحان الله رب العرش.