تفسير سورة طه [23-36]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [طه:23].

أي: فعلنا هذا بك يا موسى لنرسلك إلى خلق من خلقنا، عتوا عن أمرنا، وادعوا ما ليس لهم، فادعوا أنهم الآلهة الأرباب، وقال فرعون لقومه وقد استخف بهم: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].

فاستعبدهم واستذلهم وقتل شبابهم، واستحيا نساءهم، وأخذ يقول عن موسى وقومه: إننا فوقهم قاهرون، فأخذ يدعي لنفسه الذليلة الضعيفة الزائفة من القهر والقوة ما ليس لها.

فقوله تعالى: لِنُرِيَكَ [طه:23] أي: لنعلمك ولنطلعك، مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [طه:23] أي: من علامات صدقك، ومعجزات رسالتك الكبرى مما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يأتي به أحد إلا وكان العلامة البينة على صدق من جاء به وأنه رسول من الله حقاً وصدقاً.

قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24]:

النتيجة كانت بعد الكلام، وبعد إظهار المعجزتين: معجزة العصا، ومعجزة اليد، فأمره بالرسالة بعد ذلك وأعده لها، فقال له: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24].

أي: اذهب إلى فرعون الذي طغى طغياناً، وتجبر جبروتاً، وظلم ظلماً، ونشر الفساد في الأرض، واستباح الأعراض، وسفك الدماء، واستقل بالأرزاق، وأذل الكرامات، هذا الذي حاول أن يشارك ربه في الأرض والسماء، اذهب إليه فأنت رسول الله، فادعه إلى الله ومره أن يعبد الله وحده، وأن يتوب عما صدر منه.

ولم يكتف بذلك جل جلاله، بل استجاب له بتزكيته وتأييده بأخيه هارون، قال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

فمع طغيان هذا الكافر، أمرهما أن يخاطباه بلين، ويخاطباه بيسر، فلا يغضبانه ولا يزعجانه؛ لعله يعود إلى الله، فليس القصد من الرسالة أن يذل ويخزى، فذاك ليس عمل الرسالة ولكنه عمل المرسل جل جلاله.

وأرسل له رسولين كريمين عظيمين حتى لا تكون لفرعون حجة على الله، ويقول: لم أدر ولم أسمع ولم أعلم، أدركت آبائي يدعون الألوهية فادعيتها كادعائهم.

قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24].

وإذا بموسى يرى المهمة صعبة والعمل شاقاً، ويرى أنه أعجز من أن يقوم به؛ لأنه نشأ في دار فرعون كولد من أولاده، وعلى فراشه ترعرع، وبطعامه تغذى، وفي صغره وهو لا يزال رضيعاً جر لحيته إليه فأذله الله بذلك، فغضب فرعون وكاد أن يقتله.

ثم هو بعد ذلك قتل قبطياً من الأقباط انتصاراً لرجل من الإسرائيليين، وكان الأمر سراً ثم عرف وأعلن، وأرسل فرعون إلى موسى من يأتيه برأسه ويذبحه، ففر هارباً إلى أرض مدين فتعرف على ابنتي شعيب، وقد سقى لهما من البئر، فدعاه شعيب فأنكحه إحدى ابنتيه أجرة على رعاية الغنم عشر سنين، وفي هذه المدة الطويلة لم يأت مصر، لا لصلة رحمه بأمه، ولا لصلة رحمه بأخته.

وعندما كان رضيعاً في بيت فرعون أصيب بعاهة دائمة، فعندما لعب بلحية فرعون غضب وكاد أن يذبحه، وقال: هذا من أعدائي أبناء بني إسرائيل، فأخذت زوجته تقول له: هو طفل صغير لا يفقه، وإن أردت اختباره فأعطه جمرة وتمرة، فإن أخذ التمرة فاقتله، وإن أخذ الجمرة فاتركه! فأخذ الجمرة ووضعها على لسانه فأحرقت لسانه فعقدته، فأصبح ألكن في الحديث يقول الكلمة ولا يتمها، فهو يقول: كيف أستطيع أن أفعل هذا ولساني لا يبين، ولفرعون معي حساب، فهو يريد أن يقتلني بالقبطي الذي قتلته، ولذلك طلب من ربه أن يعينه ويؤازره فقال: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26].

فكان موسى ضيق الصدر من هذا الطلب؛ لأنه خاف عواقبه، وخاف أن يعجز عن تبليغ هذه الرسالة إلى الطاغية الجبار فرعون، فطلب شرح الصدر؛ لتنشرح أعضاؤه وحواسه، ويشتغل بنفس قابلة راضية.

قال تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26].

أي: يسر لي الأمور الصعبة، بحيث لا ينتقم مني فرعون، لا بقتلي للفرعوني الذي قتلته، ولا بما كنت صنعت به وأنا طفل عن غير قصد، ولا بالفرار الذي فررت منه عشر سنوات كاملة، وبأن تغفر لي أمي وقد غبت عنها وعن أختي عشر سنين، وأنا لا أعلم من مرض أو مات منهما.

قوله: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:26].

(أمر) مفرد ويراد به الجنس، أي: اجعل جميع أموري ميسرة منذ أن أبتدئ تنفيذ الرسالة وتبليغها لمن أمرتني، فيسر لي أموري ولا تصعبها علي يا رب، واشرح لي صدري.

قال تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28].

أي: احلل هذه العقدة التي في اللسان حتى أبلغ عنك ما يفهمني به فرعون وقومه، وما يفهمني به بنو إسرائيل، فأبلغ ما أمرت به أحسن بلاغ وأحسن بيان، وأحسن شرح وتفصيل.

والمعنى: أفصح لساني وأزل اللكنة التي فيه مما كنت قد أصبت به عند وضع الجمرة في لساني.

يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:28].

أي: يدركوا ما أريد من المعاني، وموسى كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يطلب أن تزول العقدة كلها، ولم يطلب الفصاحة كلها، وإنما طلب ما يستطيع أن يؤدي به عن ربه، وما عدا ذلك ففضل.

وقيل عن ابن وهب : إنه كان عالماً بالحديث والتفسير وكان يلحن، فعيره بذلك أحد زملائه، فقال: أتفهمني؟ قال: نعم. قال: وأفهمك عندما تسألني؟ قال: نعم. قال: كذلك كان موسى ولم تمنعه لكنة لسانه من أن يكون رسولاً، بل كان رسولاً عظيماً، ومن الخمسة أولي العزم، وهو عندما طلب زوال العقدة لم يطلب الفصاحة كلها، ولا البيان كله، كفصاحة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما طلب ما يستطيع به أن يبين، وكان فرعون يذمه بذلك وينتقصه ويقول لقومه: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52].

أي: هذا الذي ادعى النبوءة وجاء يطلب أن أكون خلفه ووراءه، وهو مهين فلا يلبس الدمقس ولا الحرير، ولا هو مثلي في طوله وعرضه، ولا في قصوره وخدمه وحشمه، فعده بذلك مهيناً، وحاشا النبوءة من ذلك.

وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] أي: له لكنة وعقدة في لسانه، فإذا أراد البيان في القول لا يكاد يستطيع ذلك إلا بمشقة، وهو ما طلبه موسى من ربه فقال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28].

قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي [طه:29].

وطلب من الله جل جلاله وهو لا يزال يخاطبه ويكلمه فقال: اجعل لي وزيراً من أهلي؛ لأن الأهل عندما يصدقون الحب، وعندما يصدقون الأخوة، تكون أخوتهم مفيدة، ولا يعدل عنها، وإن انتقلت إليهم العداوة تكون أشد من عداوة الأباعد.

فطلب أن يكون المعين والوزير والمساعد والمؤيد من أهله يعينه على البلاغ لفرعون.

ثم بادر فصرح به فقال: هَارُونَ أَخِي [طه:30].

هذا بدل من الكلمة السابقة، أي: واجعل هارون أخي وزيراً، فهارون أخي بدل من الوزير، ولذلك أعطي حكمه في النصب والمفعولية.

وكان هارون أسن وأفصح وأجمل من أخيه موسى، كان إذا تكلم أفصح، وإذا رئي مقبلاً بهر، وإذا كان في المجلس يكون المنظور إليه دون الحاضرين جميعاً.

تقول السيدة عائشة رضوان الله عليها: سمعت مرة بدوية تكلم بدوياً، فتقول له: ما رأيت أخاً لأخ أحسن عائدة وأحسن سعياً وأحسن إخلاصاً ... وسكتت، فانتظرت عائشة تسمع وقالت: من هذه المتألية على الله، كيف تجزم بأن يوجد أخ أحسن لأخيه من كل الخلق؟ وإذا بها تقول: ما رأيت كأخوة موسى لأخيه هارون! عند ذاك قالت عائشة : صدقت! ذاك الحق، وذاك الصواب، قد سعى لأخيه فلم يطلب له ملكاً، فالملك دون ذلك، ولم يطلب له مالاً، فالمال أحقر من ذلك، ولم يطلب له نساءً فالدنيا مليئة بالنساء، ولكنه طلب له النبوءة، لا أن يكون تابعاً وخليفة كالخلفاء الراشدين مع نبينا عليه الصلاة والسلام، بل أن يكون نبياً من الله في رتبته.

وهكذا عندما عين صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وهو ذاهب إلى غزوة تبوك على إمارة المدينة ليخلفه في الناس والحكم والأهل والعيال قال المنافقون: خلفه مع النساء والأطفال استغناءً عنه.

وكان علي لم يترك غزوة ولم يترك معركة حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكان من الأولين الذين حضروها فأبلوا فيها البلاء الحسن، وأتى الله بالنصر المبين على يده، فرجع للنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ذلك، وكأنه يستقيله من إمارة المدينة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أما ترضى أن تكون مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).

أي: ألا ترضى أن تكون وزيري ومساعدي وخليفة بعدي مقيماً لهذا الإسلام بسيفك وقلمك كما كان هارون مع موسى، إلا أن هارون قد كان نبياً مع موسى وأنا لا نبي بعدي.

قوله: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه:31].

أي: اشدد به ظهري وقوني به، وانصرني بإخلاصه وفصاحته ووجاهته وإيمانه ورسالته، والشد: التقوية والتأزير، والأصل: فقرات الظهر، ويطلق على القوة، أي: قوني به واشدد به ظهري حتى أكون مطمئناً من ورائي عن أن أغدر أو يهجم علي سواء الهجوم الحسي، أو المعنوي، أي: أن يؤتمر علي، وأن يسعى خلفي بالسوء وأنا لا أعلم.

فقوله: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:32].

أي: ليست مجرد الوزارة، ولا المساعدة، ولا المؤازرة، ولكن أشركه معي واجعله نبياً كما أني نبي، واجعله رسولاً كما أني رسول، فاجعله شريكاً لي في الرسالة، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34].

قال تعالى: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34].

نسبحك أي: كي نصلي لك، ونعظمك ونمجدك وننزهك، ونعلي اسمك ونفخر به، ونبقى ذاكرين حامدين شاكرين عابدين، فأستعين به على عبادتك وذكرك وشكرك.

قوله: وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:34].

أي: في أوقات الصلاة وفي غير أوقات الصلاة، وفي غير أوقات العبادات الراتبة، فنذكرك على كل أحوالنا: نذكرك عند النوم، وعند الصحو، وفي الحضر وفي السفر، وبين الملأ وعلى خلوة، أي: كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام يذكر الله في جميع أحواله، وقد أشاد ربنا في كتابه بالذاكرين الذين يذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وعلى كل الحالات، فلا يستغنون عن ذكر ربهم في حالة من الأحوال.

وقوله: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:35].

أي: إنك يا ربنا كنت بنا البصير العالم المدرك، فأنت عندما اخترتنا لنبوءتك أعلم بنا وبما يمكن أن نعمله، فأعنا وألهمنا الثناء عليك، وألهمنا دوام عبادتك، وأعنا على أن ننصر في الدعوة إليه.

قال الله جل جلاله: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36].

أي: أجاب دعاءه فأزال العقدة التي على لسانه ليبين ويفصح، وأكرمه بنبوءة أخيه وألهمهما الشكر والذكر، وشد أزره وظهره بأخيه.

فقوله: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ [طه:36] أي: قد أعطاك ربك وأكرمك ووهب لك ما سألته، فاذهب أنت وهارون نبيين رسولين حبيبين قريبين إلى فرعون؛ لكن ذلك لم يفد فيه شيئاً وبقي على طغيانه.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة طه [113-116] 2253 استماع
تفسير سورة طه [105-112] 2115 استماع
تفسير سورة طه [9-14] 1934 استماع
تفسير سورة طه [56-63] 1919 استماع
تفسير سورة طه [132-135] 1873 استماع
تفسير سورة طه [1-8] 1791 استماع
تفسير سورة طه [63-70] 1621 استماع
تفسير سورة طه [130-132] 1618 استماع
تفسير سورة طه [71-76] 1538 استماع
تفسير سورة طه [97-99] 1538 استماع