السواك وسنن الفطرة [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد: يقول الله سبحانه وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وإذا أتى أمر من الله عز وجل في حق من هو قدوة فيتضمن ذلك أمر هؤلاء المقتدين بأن يستمعوا ويمتثلوا ذلك الأمر؛ فإن الله عز وجل عندما ذكر في سورة الأنعام جملة عظيمة من الأنبياء في معرض الثناء عليهم، قال لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم عقب ذلك: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فهذا أمر من الله عز وجل لنبينا عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بالأنبياء، وهو أمر لنا؛ لأنه أسوة لنا كما قال عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وقال عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]. فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني طاعته في كل ما أمر به إلا ما قام فيه دليل على الخصوصية، وهذا واضح يمكن أن يستنبط من القرآن، فإنك إذا تأملت مثلاً قوله عز وجل في أول سورة الطلاق: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، فالخطاب بدأ أولاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك دخل فيه الخطاب لأمَّته عليه الصلاة والسلام؛ بدليل قوله: (( إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ))، فالخطاب هنا بالجمع في قوله: (( طَلَّقْتُمُ ))، فهو موجّه لعموم الأمة، وهذا يدل على دخول النبي وأمته في هذا الحكم. ويقول عز وجل في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، ثم قال بعد ذلك: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]، فدلّ هذا على عموم حكم الخطاب هنا، وأنه ليس فقط في حق النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو يشمل أمته تبعاً. وفي سورة الأحزاب يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1]، ثم قال بعد ذلك في الآية الثانية: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الأحزاب:2] فدلّ هذا على دخول الأمة كلها في خطابه صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول عز وجل: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ [يونس:61]، ثم قال عز وجل: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [يونس:61]. أما أصرح الأدلة في ذلك فإنها آية في سورة الروم وآية في سورة الأحزاب: فأما التي في سورة الروم: فهي قوله عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30]، ثم بعد ذلك قال: (( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ))، فالخطاب أولاً للنبي عليه الصلاة السلام، ثم انتهى الكلام بقوله عز وجل: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ [الروم:31]، فدلّ هذا على دخول الأمة أيضاً في ذلك فصار المعنى: فأقم وجهك يا نبي الله للدين حنيفاً في حال كونكم منيبين إليه، فلو لم تدخل الأمة حكماً في الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم لقال: (منيباً إليه) لكنه قال: (( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ )). أما آية الأحزاب: فهي قوله عز وجل في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37]، وهذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الآية تصرح بشموله لجميع المؤمنين في قوله عز وجل: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ [الأحزاب:37]، وقال عز وجل: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، فلو كان الحكم خاصاً بالنبي عليه الصلاة والسلام لما احتيج أن يقول: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، لكن أتى بهذا القيد حتى يكون الحكم خاصاً به عليه الصلاة والسلام وإلا لكان عاماً للجميع.

بعض الناس يقولون: هل يوجد دليل من القرآن على وجوب إعفاء اللحية؟ الدليل هو هذه الآية التي قدمناها في سورة الأنعام: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. وأيضاً يقصّ الله عز وجل في سورة طه قصة هارون عندما قال لـموسى عليه السلام: قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94]. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، إلى آخر الآية، ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فدلّ ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أُمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره بذلك أمر لنا؛ لأنه كما ذكرنا أمر القدوة أمر لأتباعه. وفي صحيح البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس رضي الله عنهما: (من أين أخذت السجدة في ص؟ قال: ما تقرأ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). وقال في رواية أخرى في لفظ البخاري : (فكان داود ممن أُمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به، فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم). فيفهم من هذا أن قوله: (( قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي )) على أنها لحية كبيرة تمسك باليد، فلو كان هارون حالقاً لما أراد أخوه الأخذ بلحيته، وهذا يدل على أن إعفاء اللحية من سمت الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول الشنقيطي رحمه الله: ولعله من الذين مسخت ضمائرهم واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى: وهو اللحية، وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر وأذعنت لهم مشارق الأرض ومغاربها ليس فيهم حالق.

حلق اللحية رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله عز وجل في حقه صلى الله عليه وسلم: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وقال عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال تبارك وتعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

وقال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وقال: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)، فمن سنته صلى الله عليه وآله وسلم -سواء السنة القولية أو الفعلية- إعفاء اللحية، يقول أنس رضي الله عنه: (كانت لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمر يده على عارضيه).

وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته)، معنى شمط: ابتدأ ظهور شعيرات قليلة بيضاء، (وكان إذا ادهن لم يتبين)، فكان الطيب يخفي لون الشعيرات البيضاء القليلة، (وإذا شعث رأسه تبين) أي: إذا تفرق شعر رأسه بان الشيب، (وكان كثير شعر اللحية صلى الله عليه وآله وسلم).

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كث اللحية).

وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم اللحية).

وإذا كان المحب مولعاً أبداً باتباع حبيبه والاقتداء به، فماذا نقول لمن ظهرت عليهم آثار المعصية وشذوا عن الشرع المطهر ورفضوا إعفاء اللحية؟! نقول: حسابهم على الله، لكن ما بال هؤلاء يفرضون على كل من يحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أو يقتدي به في هذه السنة فلا يجدون علامة يؤذونه بها إلا أن يقولوا: هذا ملتحي! لأنه متمسك بسنة الرسول عليه الصلاة السلام.

فتجد الإنسان يمتحن بسبب لحيته، وربما يفصل من العمل بسبب لحيته! ما الجريمة التي ارتكبها مثل هذا؟ لماذا لا تأخذونها من جانب الحرية الشخصية التي تتشدقون بها في تقليد الكفار لماذا تعطى لكل فاسد وفاسق إلا المسلم المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فويل لهم مما يصنعون من الصدّ عن سبيل الله تبارك وتعالى، وامتحان الناس بسبب حرصهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فإذا ظهرت هذه الموضة أو فعلها بعض الممثلين أو لاعبو الكرة أو غيرهم، واقتدى بهم الشباب في ذلك، فهذا شيء جيد، وهذه عصرية وتنوّر وتقدم وحضارة، أما إذا فعلوها اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام نالوا الأذى والابتلاء بسبب ذلك!

عن يزيد الفارسي قال: (قلت لـابن عباس رضي الله عنهما: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم. قال ابن عباس : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآني، فهل تستطيع أن تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت؟ قال: نعم، رأيت رجلاً بين الرجلين، جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، حسن المضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه حتى كادت تملأ نحره. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا).

وهذا الحديث فيه فائدة نذكرها وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي)، فمن زعم أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنامه، فلا يجزم بأن الذي رآه في المنام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا وافقت صفاته في المنام الصفةَ المحكية عنه في صفاته الخَلْقية صلى الله عليه وآله وسلم.

وعن أم معبد : رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيف اللحية).

وقال أبو معمر قلنا لـخباب بن الأرت رضي الله عنه: (أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم. فقلنا له: بم كنتم تعرفون قراءته؟ ! -يعني هذه صلاة سرية لا يسمع فيها صوت القراءة فبم كنتم تعرفون قراءته؟ ! -وفي رواية قال: من أين علمت؟ قال: باضطراب لحيته)، معنى ذلك: أنك إذا رأيت الإنسان من وراء ظهره، وكانت لحيته تتحرك، فهذا يعني أنها لحية كبيرة، حيث أنها تتحرك إذا حرك شفتيه بالقراءة.

وفي قصة صلح الحديبية : (أن عروة بن مسعود جعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كلّما كلّمه مدّ يده وأخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت هذه عادة عند العرب- والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب -المغيرة - يده بنعل السيف، وقال: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يؤخذ من هذا أن لحيته صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة.

وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلّل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل)، وتخليل اللحية بابٌ عَقَده الفقهاء في أبواب الوضوء، وعن عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته).

كل ما سبق من الأحاديث -وغيرها كثير- تدل على عِظَم لحيته الشريفة وطولها، فعجباً ممن يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يعفي لحيته؟! فكأن المحبة عندهم شيء لا يكلف، وبعضهم يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكر عليك مثلاً إذا لم تصلّ على النبي عليه الصلاة والسلام بعد الأذان، ويقول: أنت تبغض رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنت لا تحب النبي، أنا أحب النبي وأنا أصلي عليه صلى الله عليه وسلم، ففي مثل هذه الأشياء يُعتبر الإنسان مأجوراً، أما من يفعلون كثيراً من البدع، ويستدلون بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشدقون بها، فإنما زيّن لهم سوء أعمالهم، فمن أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أحب صورته وأبغض صورة أعدائه، ومن كان يصلي عليه مدّعياً محبته فعليه أن يعفي لحيته إن كان صادقاً في هذه المحبة.

هذا كلّه بغضّ النظر عن حكم الوجوب، لكن هذه ثمرة المحبة، فالإنسان ينقاد لمن يحبه ظاهراً وباطناً، ويُرى ذلك في سلوكه، فيحب كل ما نُسب إلى محبوبه، كما يقول عنترة :

وأهوى من الأسماء ما شابه اسمها أو مثله أو كان منه مقارباًً!

فكل محبوب يحب ما كان منسوباً إلى حبيبه من الصورة والسيرة واللباس والهيئة، حتى يحب داره وجداره وكساءه ورداءه، كما يقول بعض الشعراء في ذلك:

ولقد أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

فالذي يؤمن بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، هذه المحبة لا محالة إذا كانت صادقة يجد المحب نفسه مضطراً اضطراراً مدفوعاً بهذا الحب الصادق إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شؤونه كلها، كما قال عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فالذي يظهر اللحية تديناً بذلك وتشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم حقه أن يُعظّم.. حقه أن يُحترم.. أن يُحب، لا أن يحارب وأن يُضطهد وأن يؤذى وأن يسجن.. إلى غير ذلك!

فإن لم تدفع المحبة صاحبها إلى الاتباع فهي دعوى وليست محبة صادقة، وفي مثل هذا يقول الشاعر:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ

لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ.

يقول بعض الصحابة رضي الله عنهم: بينما أنا أمشي بالمدينة، إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك؛ فإنه أتقى وأبقى، أي: أتقى لله؛ لأنه تواضعاً، وأبقى للثوب حتى لا يتلف بجرَّه على الأرض، فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إنما هي بُردة مَلْحاء، يعني: مُبتذلة لا اعتداد بشأنها ولا توجد شبهة في مثل هذه البردة القديمة أن تكون مَدّعاة للتكبر والخيلاء، وهذا تبرير لتساهله في طول هذه البردة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما لك فيَّ أُسوة؟ فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.

معناها: أنه مع وجود هذا العذر الذي ذكره، وهو أن هذه البردة مبتذلة لا يخشى أن تكون مدعاة للتكبر أو الخيلاء، لكن النبي عليه السلام بيّن له أن الصواب هو التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو المحبوب عند الله عز وجل في كل الشؤون، وإن كان اتباعه في بعض الأمور غير واجب، ولكن المحب لا ينظر إلى الفرق بين الواجب وبين السنة، فيبادر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

بعض الناس يتساءل: هذا حرام أم مكروه؟ فإذا قيل له: مكروه. كان ذلك سبباً للتمادي فيه! سبحان الله! وأنت تسأل: هل اللحية سنة حتى تجتنبها أم واجبة حتى تتبعها؟ فهل الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟!

فإذا كان الإنسان يريد أن يقتدي بمحبوبه فإن المحبة تدفعه لذلك، والمحب في شغل شاغل عن البحث في الفرض والسنة، فإذا فَعَله الرسول عليه الصلاة السلام كان الصحابة يقولون: سمعنا وأطعنا، ويقتدون به، وهنا مع ما ذكره ذلك الصحابي من العذر، وأن هذه البردة مبتذلة ورثّة، ولا يحتمل فيها الفخر ولا الخيلاء ولا التكبر، لكنه مع ذلك أرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما ينبغي أن يفكر به أهل الاتباع وأهل المحبة.

فالسؤال الآن موجه لحليق اللحية: ماذا يكون جوابك إذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تسرد له المعاذير، فإذا أجابك وقال لك: أما لك فيَّ أسوة؟؟!

بل ماذا يمكن أن يكون شعورك؟! تخيل أن الرسول عليه الصلاة السلام قد رآك، وإذا رأى وجهك لا لحية فيه أبغض هذا المنظر، وكَرِهَ النظر إليه، فحوّل وجهه غضباً وكراهية إلى الجهة الأخرى وهو يقول لك: ما حملك على هذا؟ أو وهو يقول لك: ويلك! من أمرك بهذا؟!

وهذا السؤال قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله لمن حلق لحيته، فقد روى ابن أبي شيبة : أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية.

وهذه الحالة التي استنكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لعلّها أهون مما يحصل الآن من بعض الناس، حيث يحلقون اللحية والشارب، وهذا تشبه واضح بالنساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجزّ لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يشير إلى ربه كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفّر لحيتي وأُحفي شاربي، هذا واضح في أنه أمر من الله، فيضاف إلى الأدلة في قائمة الأمر بإعفاء اللحية.

ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث به عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزّقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزّقوا كل مُمزّق، فما قامت للفرس بعدها قائمة، ولم يكن للدولة الكسروية مُلْك بعد ذلك.

ثم كتب كسرى بعد تمزيق الكتاب إلى باذان -وهو عامله على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جَلْدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه -وهو بابويه ، وكان كاتباً حاسباً- مع رجل آخر من الفرس، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما كَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال: ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا، يعنيان: كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي رواه ابن جرير الطبري عن يزيد بن أبي حبيب مرسلاً، وحسّنه الألباني .

فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر الذي جاءه من السماء: إن ربي قتل ربكما الليلة، حيث عاجل الله كسرى -لعنه الله- بالعقوبة، وسلّط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجع الرسولان حتى قدما على باذان .. إلى آخر الحديث.

فالذي يظهر من هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره النظر إلى ذينك الرجلين، وهذا الموقف يُحرّض كل مؤمن على ألا يفعل فعلاً يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان حلق اللحية أو غير ذلك مما يخالف السنة.

فانظر إلى الجماعات الوطنية والأحزاب السياسية، تجد كل واحد من هؤلاء الأفراد يحرص على أن يرضي زعيم الحزب، وألا يؤذي شعوره أو يفعل شيئاً يكرهه، ويتبعه في سيرته وصورته ولباسه وهيئته، ولا يأتي بفعل يؤذيه.

فالعجب من هؤلاء الذين يحلقون لحاهم: كيف يزعمون محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون هذا الفعل الذي يتأذى منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجد أحدهم في ذلك حرجاً في نفسه؟!

نذكر هنا قصة رجل من الشعراء يسمى: مرزا قتيل ، كان يكتب شعراً في الحكمة والمعرفة، وهناك رجل إيراني كان يقرأ كتابات هذا الشاعر، فأُعجب به جداً، واعتقد في قلبه أن هذا الرجل الذي يكتب هذه الأشعار الدينية والمواعظ والحكم هو رجل عظيم جداً في دينه، فزكى روحه وجسده، فرحل إليه وسافر من بلده حتى يتشرف بلقائه، فلما وصل إلى بابه رآه يحلق لحيته، فقال مستنكراً ومتعجباً: يا سبحان الله! أتحلق لحيتك؟ ! فقال مرزا قتيل -تبعاً للفلسفة المنتشرة هذه الأيام-: نعم، أحلق لحيتي ولكن لا أجرح قلب أحد. يعني: أجرح وجهي بحلق اللحية، لكن لا أجرح قلب أحد!! وهذا إظهار للمعصية في ثوب مزين ومزخرف كما يفعل كثير من الناس اليوم؛ يقولون: أنتم تهتمون بالشعور ولا تهتمون بشعوري، يعني: تهتمون بالشعر وتجرحون شعور الناس.

فردّ عليه هذا الرجل الإيراني العامي بالبداهة قائلاً: بلى، إنك تجرح قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكلام هذا الرجل حق، كما رأينا في قصة هذين الفارسيين لما رآهما النبي صلى الله عليه وسلم كره النظر إليهما، وآذاه منظرهما، وجرح ذلك قلبه حتى إنه حوّل وجهه عنهما وصرخ فيهما: ويلكما! من أمركما بهذا؟.

فلما سمع ذلك مرزا قتيل غُشي عليه، فلما أفاق قال بالفارسية شعراً معناه: جزاك الله خيراً، فقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي.

كلنا يفتتح كلامه بهذه العبارة التي نحفظها ولا نلتفت إلى ما تتضمنه من المعاني: (إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم). هذه الكلمة نقولها ووراءها من المعاني والأحكام الشيء الكثير، فمن اعتقد أن خير الهدي هو هدي محمد عليه الصلاة والسلام؛ كيف يصور لنفسه أن يحيد عن هذا الهدي؟! أما سنة الخلفاء الراشدين المهديين فقد جمعها الشيخ أبو محمد بديع الدين شاه الراشدي السندي حفظه الله تعالى، فقال: وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين المهديين وغيرهم من الصحابة والتابعين أنهم كانوا ذوي لحى كبيرة، فكان أبو بكر الصديق كثُّ اللحية، وكان عمر كثّ اللحية، وكان عثمان كبير اللحية، وفي بعض الروايات كان كبير اللحية عظيمها، وعن السعدي : رأيت علياً رضي الله عنه، فكان عظيم اللحية، وقد أَخَذَتْ ما بين منكبيه. يقول أستاذنا الشيخ بديع الدين : فهؤلاء أعقل الأمة كلها بإجماع علمائها، ثم بعدهم الأتباع ما لا أحصي منهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)، والنواجذ: الأضراس، وهذه صيغة مبالغة، حيث أنه تشبيه بأن تمسك الشيء لا بأسنانك القواطع بل بالأضراس، يعني: تدخلها في فمك ولا تخرجها أبداً، وهذا يدل على شدة التمسك. ونشير هنا إلى قاعدة مهمة جداً ينبغي أن نستصحبها في هذا السياق، وهي التي استنبطها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قول الله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11]، أي: لو كان الإيمان والإسلام خيراً ما سبقونا إليه. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة؛ وأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها. وهذه العبارة تُفحم كل من يحاجّ ويجادل في أمرٍ قد ثَبَت خلافُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا سيما الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فلا نقول كما قال الكفار: لو كان خيراً ما سبقونا إليه. بل نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه. وإنك لتعجب من قول بعض الناس مثل صاحب كتاب الحلال والحرام، حيث يقول: صحيح أنه لم يُنقل عن أحد من السلف حلق اللحية؛ ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها، وهي عادتهم!! فلا شك أن هذا تعليل ساقط، وكان الأولى به أن يستدل بعدم حلق أحد من السلف للحيته على عدم جواز ذلك عندهم، وأنهم ما فعلوا ذلك؛ لأنهم يعتقدون تحريمه وعدم جوازه.

يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في مراتب الإجماع: واتفقوا على أن حلق جميع اللحية مُثْلة لا تجوز. قوله: واتفقوا، يعني: العلماء المجتهدون. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة، ولم يُبحه أحد.

حكم نتف الشيب

روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة).

قال النووي رحمه الله: يُكره نتف الشيب، ونقل عن الغزالي والبغوي وآخرين كراهته، ثم قال: ولو قيل يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد، ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس.

وعن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من لحيته ورأسه] فالذي يحلق لحيته قد كره الأسود فضلاً عن الأبيض الذي هو نور المسلم.

روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة).

قال النووي رحمه الله: يُكره نتف الشيب، ونقل عن الغزالي والبغوي وآخرين كراهته، ثم قال: ولو قيل يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد، ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس.

وعن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من لحيته ورأسه] فالذي يحلق لحيته قد كره الأسود فضلاً عن الأبيض الذي هو نور المسلم.

من الفوائد التي يناسب ذكرها أيضاً في هذا المقام: إذا تقاتل شخصان، فوصل بأحدهم الأمر إلى أن شد لحية الآخر ونزعها من الجذور ولم تعد تنبت.

يقول العلماء: اللحية إذا جُني عليها فأُزيلت بالكلية، ولم ينبت شعرها، فعلى الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها.

قال الإمام ابن مفلح رحمه الله: واحتمل أن يلزمه كمال الدية، قدمه في الرعاية والفروع؛ لأنه أذهب المقصود، أشبه ما لو أذهب ضوء العين.

الهيئة البشرية بكاملها هي من الفطرة، فكل ما خلقه الله عز وجل على الإنسان هو من الفطرة التي فطرك الله عز وجل عليها، إلا نوع واحد فقط: هو ما استثناه الشارع وأمر بإزالته، فحينئذٍ تصبح إزالته بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكمّلة للوضع الفطري البشري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من الفطرة: قصّ الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -يعني: الاستنجاء- قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) وبعض العلماء قالوا: لا، بل هناك شيء آكد من المضمضة! وهو الختان. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الفطرة فطرتان: فطرة في الخلقة، وفطرة في الدين. فالفطرة في الدين: هي التوحيد، وتغيير خلق الله هو مما ينافي التوحيد، ومما يأمر به الشيطان، كما قال تعالى عنه: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119]، ومخالفة هذه الفطرة الخلقية بتجنب هذه الأفعال التي ذكرناها، وحلق اللحية تغيير لخلق الله سبحانه وتعالى. يقول ابن القيم : والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب: وهي معرفة الله، ومحبته، وإيثاره على ما سواه. وفطرة عملية: وهي هذه الخصال، فالأُولى تزكّي الروح وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تمدّ الأخرى وتقويها، وكان رأس فطرة البدن: الختان. فمن يحلق لحيته كأنه يقول لإبليس: سمعنا وأطعنا، ويقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام: سمعنا وعصينا. قد يقول قائل: هل من تغيير خلق الله أن يحلق الرجل رأسه عند التحلل من الإحرام؟! هذا تغيير لصورتنا الخلقية، لكنه ليس تغييراً مذموماً؛ لأن التغيير المذموم هو تغيير خلق الله بدون إذن من الشرع، واستعمال الشيء في غير ما خلقه الله له، فمادام أن الله قد شرعه دلّ هذا على أنه ليس من التغيير المنهي عنه، ولو كان كل تغيير يُعدّ تغييراً لخلق الله لقلنا: إن قطع يد السارق تعتبر تغييراً لخلق الله! لكن هذا حد من حدود الله التي أوجب علينا إقامتها، فالعبرة بما أمر به الشارع.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه، وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله، فهذه من سنن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

يقول القاري معلقاً على هذه العبارة: فالاقتداء بالحبيب بعد الخليل يورث الأجر الجليل والثواب الجزيل، والأولى أن يقول: فالاقتداء بالخليل بعد الخليل؛ لأن الخُلّة أعلى من المحبة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً.

وقد وقع الخلاف في الإحفاء، هل المقصود به: استئصال الشارب تماماً؟ وهذا ذهب إليه بعض العلماء، فمنهم من يرى أن المقصود بالجزّ والحفّ: المبالغة في القص.

سُئل الإمام مالك عن من يحفي شاربه، فقال: ينبغي أن يُضرب من صنع ذلك، فليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، ولكن يبدي حرف الشفة والفم.

يعني: هذا معنى قص الشارب، وهو: أن يأخذ فقط ما كان على طرف الشفة العليا، وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس.

وكان عمر رضي الله عنه إذا غضب فتل شاربه ونفخ، وهذا يدل على أنه لم يكن يحلق شاربه.

وقال الحافظ : والمعروف عن عمر أنه كان يفتل شاربه، وأيضاً روي أن خمسة من الصحابة كانوا يأخذون شواربهم مع ترك الشفة. أي: يستأصلون ما زاد ونزل إلى حافة الشفة.

وفي حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه -وهو حديث صحيح- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يأخذ من شاربه فليس منا و(من) هنا تبعيضية، ومعناها: أن المطلوب أن يأخذ من شاربه، لا أن يأخذه ويستأصله كله.

وعن جابر رضي الله عنهما قال: ما كنا نُعفي السبال إلا في حج أو عمرة أي: ما كانوا يتركون الشوارب ويطلقونها إلا في حج أو عمرة.

وقال البخاري : كان ابن عمر يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد، ويأخذ هذين، والمقصود بـ(هذين): مواضع اتصال الشارب باللحية.

وقال الغزالي : لا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب، يترك أو يقص، وفعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره، ولا بأس أيضاً بتقصيره فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما.

من قال: إن السبالين -اللذان هما جانبا الشارب- من الشارب فإنه ذهب إلى أنه يشرع قصّهما معه، وقيل: بل هما من جملة شعر اللحية، ويا ليت هذا هو الخلاف الذي نحتمي به الآن!

وعن الشعبي : أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العليا وما قاربه من أعلاه، ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم، ولا يزيد على ذلك.

وقال مالك : يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة -وهو الإطار- ولا يجزه فيمثّل بنفسه.

وقال القرطبي : القصّ: أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي عند الطعام، ولا يجتمع فيه الوسخ، وفيه حديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ من شارب المغيرة على قياسه، حيث يقول المغيرة : وكان شاربي وفى، فقصّه لي على سواك، أو قال: أقصّه لك على سواك.

واختلف العلماء في معنى: (على سواك) فبعض العلماء قالوا: يعني على أثر سواك، يعني: بعدما تسوك مباشرة قال له ذلك، والأرجح والله أعلم: أنه أخذ سواكاً فوضعه تحت الشعر، ثم قص ما جاوزه إلى السواك، وفي بعض الروايات: فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه.

وأخرج البزار من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً وشاربه طويل، فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوره.