خطب ومحاضرات
الإيمان والكفر [19]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
حدود الإسلام وأركانه من وجهة نظر الكاتب
فقد مررنا على معظم القضايا التي هي محل أخذ ورد فيما يتعلق بكتاب حد الإسلام، والذي ذكرنا أنه يقوم على اعتبار أن حد الإسلام يتكون من ركنين:
الأول: تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب.
والثاني: التزام شريعته جملة وعلى الغيب.
وذكرنا أيضاً: أنه يعتبر أن لهذا الحد ثلاثة أركان: النسك، والولاية، والحكم.
وذكر أن تحقيق التوحيد في هذه الأركان الثلاثة هو الحد الأدنى من الدين الذي يجب تحققه في كل إنسان حتى تثبت له صفة الإسلام ابتداءً، والذي يؤدي تخلفه أو تخلف جزء منه إلى تخلف الدين كله.
وناقشنا تفاصيل القضية في النسك والولاية، وشرعنا في الكلام على الركن الثالث، وهو: نفي الحكم عن غير الله عز وجل.
وذكرنا أن فكرة الكاتب في هذا المقام تتلخص في: أن قبول شرع الله ورفض ما سواه، له يتعلق بالتوحيد في جانبيه القولي والعملي، فهو يتعلق بالتوحيد القولي من حيث كونه إثباتاً لصفة من صفات الله عز وجل وهي صفة الحكم، ويتعلق بالتوحيد العملي من حيث كونه ركناً من أركان العبادة، وذكرنا أن هذه النقطة الأولى هي محل خلاف؛ لأن الآيات والنصوص تواترت على ألا حكم إلا لله.
فلا شك أن قضية الحكم وإفراد الله عز وجل بالحاكمية من الأركان الأساسية لعقيدة التوحيد، وبين الله عز وجل أن الشرك في الحكم تماماً مثل الشرك الذي يكون في العبادة، كما قال الله عز وجل: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وقال في الحكم: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، فسمى هذا شركاً كما سمى هذا شركاً، وقال عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وقال عز وجل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، والآيات في هذا كثيرة جداً والتي تتعلق بالفكرة الأولى التي أتى عليها هذا البحث.
الفكرة الثانية: أن قبول التكليف من غير الله عز وجل كفر أكبر بغض النظر عن هذا التكليف، يعني: سواء كان هذا التكليف بما يخالف شريعة الله عز وجل أو بما يوافقها، أما الاستجابة لرواية فليس لها تكييف شرعي محدد، وإنما تتوقف على نوع الفهم. وسبق أن ذكرنا أن هذا الكلام ليس على إطلاقه، فمجرد قبول التكليف لا يشترط أن يكون كفراً أكبر على التفصيل الذي ذكرناه.
أيضاً قال: إن قبول شرع الله يتحقق بعدم الرد -وهو الإباء- من قبول الفرائض والأحكام، وقبول شرع غيره يتحقق بعدم الرد، وأدنى درجة الرد: كره القلب، ودلالته الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه.
الفكرة الثالثة هي: رفض الكاتب تفسير الربوبية في بني إسرائيل المذكور في قوله عز وجل عن بني إسرائيل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، فهو قدر هذه الربوبية بأنها طاعتهم في الاعتقاد، واجتهد في إثبات ذلك بعديد من الأدلة، مبيناً أن في تفسيرها بالطاعة في الاعتقاد من اللوازم الفاسدة ما يرده أكثر العقلاء.
نقض تفسير عبادة الأحبار والرهبان بالطاعة في الاعتقاد
أولاً: بالنسبة لتفسيره للربوبية التي وقع فيها بنوا إسرائيل، وذهابه إلى أن هذه الربوبية لم يكن مردها إلى الطاعة في الاعتقاد بمجرد أنهم قبلوا الأحكام بذلك حتى لو اعتقدوا حكم الله كما أنزله الله، واعتقدوا فيه عقيدة قلبية صحيحة، لكن أطاعوا الأحبار والرهبان فيما أحلوه وحرموه مخالفاً لشريعة الله، فمجرد قبول الأحكام كفر أكبر بغض النظر عن اعتقادهم في ذلك.
فالمناط المذكور في الآية هنا هو الطاعة في التشريع وليس الطاعة في الاعتقاد أو المعصية.
وتوضيحاً لهذا الكلام: فهذه الآية في سورة التوبة تتحدث عن حالة من حالات الانحراف التي جمح فيها أصحابها بين فساد الاعتقاد وفساد العمل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] .
أيضاً هؤلاء القوم الذين أطاعوا الأحبار والرهبان في هذه الأشياء فسدت عقيدتهم؛ لأنهم أقروا لأحبارهم ورهبانهم حق النسخ والتبديل في أحكام الله عز وجل، فاعتقدوا أنما يربطه الأحبار والرهبان في الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما أحلوه في الأرض يكون محلولاً في السماء، فالحلال عندهم ليس حلال الله والحرام ليس حرام الله، وإنما الحلال عندهم ما أحله الأحبار والرهبان وإن كان خلافاً لما يعرفونه هم من حكم التوراة التي أنزلها الله عز وجل عليه، والحرام عندهم أيضاً ما حرمه الأحبار والرهبان وإن كان ذلك خلافاً لما يعرفونه من إباحته في التوراة.
فهذه الطاعة كانت طاعة لها علاقة بالاعتقاد لا بمجرد قبول الحكم، فهم أعطوا حق نسخ شريعة الله وتحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.. أعطوا هذا الحق للرهبان والأحبار، فبذلك صدق عليهم وصفهم بأنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله عز وجل.
فهذه طاعة في الاعتقاد قبل أن نقول: إنها طاعة في قبول الأحكام من الأحبار والرهبان، فهم تركوا تحريم التوراة وتحليلها إلى تحريم الأحبار والرهبان وتحليلهم تأسيساً لهم على الإقرار لهم في الحق بذلك.
تلاعب الأحبار والرهبان بالتوراة والإنجيل
يقول ابن القيم رحمه الله وهو يحكي صوراً من تلاعب الشيطان باليهود لعنهم الله: ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالاً، وإذا حرموه صار حراماً، وإن كان نص التوراة بخلافه، وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم.
حتى في المناظرات المعروفة ينتقد اليهود وبل النصارى المسلمين لاعتقادهم أن الله عز وجل له أن ينسخ ما يشاء من آياته وأحكامه، فهم يعتبرون هذا موضع نقد وطعن في الإسلام، فهم عطلوا هذا الحق لله عز وجل: أنه ينسخ ما يشاء، ويبدل ما يشاء من أحكام لمصلحة العباد، ولما يشاء عز وجل من الحكم العظيمة: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] ؟ بلى. فهم حجروا هذا الحق ومنعوه عن الله تبارك وتعالى الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأعطوا نفس هذا الحق إلى الأحبار والرهبان، فأقروا لهم بجواز النسخ في الأحكام وتحليل الحرام وتحريم الحلال.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن المسلمين لا يجوزون لأحد بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغير شيئاً من شريعته، فلا يحلل ما حرم ولا يحرم ما حلل، ولا يوجب ما أسقط ولا يسقط ما أوجب، بل الحلال عندهم ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدين ما شرعه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعاً لم يشرعها المسيح عليه السلام، ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة، وزعموا أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم، وهذا موضع تنازع فيه الملل الثلاث: المسلمون، واليهود، والنصارى، كما تنازعوا في المسيح عليه السلام وغير ذلك.
فنحن اعتقادنا في المسيح يختلف عن اعتقاد اليهود عن اعتقاد النصارى، فنعتقد في المسيح: أنه عليه السلام نبي ورسول من أولي العزم من الرسل، وأنه عبد الله عز وجل ورسوله، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، كما قال الله عز وجل، إلى آخر العقيدة المعروفة عند المسلمين في حق المسيح عليه السلام.
أما اليهود -والعياذ بالله- فهم يرمون مريم عليها السلام بالبهتان والإثم والفاحشة، وهذه نظرة النصارى أنفسهم للمسيح عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهم قد عبدوا المسيح، وألهوه وضلوا فيه ضلالاً مبيناً.
أيضاً هؤلاء اليهود يختلفون معنا في نظرتنا إلى قضية النسخ، فاليهود لا يجوزون لله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئاً من شريعته أو من أحكامه، والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله عز وجل بآرائهم، أما المسلمون فيعتقدون أن الله جعل له الخلق والأمر، فلا شرع إلا ما شرعه الله على ألسنة رسله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولله تبارك وتعالى أن ينسخ ما شاء بما يشاء، كما نسخ بالمسيح عليه السلام ما كان شرعة للأنبياء قبله: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، فهذا نسخ.
فالنصارى تضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح عليه السلام، وليس هذا متعلقاً فقط بالأحكام، بل أحبار النصارى الضالون بدلوا صلب عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح عليه السلام، حتى صار أمراً مقرراً في مجامعهم المقدسة، فبدلوا العقيدة فضلاً عن الأحكام، كما وضع لهم الثلاثمائة والثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك الأمانة التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريسية وغيرهم.
وفيها أمور لم ينزل الله عز وجل بها كتاباً، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ثم طفق رحمه الله يذكر بعض الأمثلة على ما أحدثه النصارى من الدين بعدما ذكر تبديل العقيدة من أصلها، وانحرافهم عنها، واخترعوا هذه العقيدة الشركية الوثنية عقيدة الإله والأقانيم الثلاثة، إلى آخر ما وضعوه من الشرك والكفر الأكبر بالله عز وجل، واعتقدوا أن هذا هو قانون الإيمان، ولا يعد مؤمناً إلا من اعتقد به.
فيقول شيخ الإسلام : وكذلك تعظيمهم للصليب، لأن الصليب في زعمهم هو الذي صلب عليه إلههم الذي يعبدونه، وعلى هذا لو واحد قتل أباك بسكين فتأتي أنت تعبد هذه السكين وتعظمها وتتبرك بها وتقدسها، فهذه نظرتهم: تقديس وتعظيم الصليب التعظيم المعروف عند القوم.
أيضاً: استحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، يعني: ما كتبنا عليهم الرهبانية لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
أيضاً: امتناعهم من الختان، وهو تبديل لشريعة الله عز وجل، وتركهم طهارة الحدث والخبث، ولا يوجبون غسل جنابة ولا وضوء، ولا يجتنبون شيئاً من الخبائث في صلاتهم، لا العذرة ولا البول ولا غير ذلك من الخبائث.
هذه كلها من الشرائع التي أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ودان بها أئمتهم وجمهورهم ولعنوا من خالفهم فيها. انتهى كلام شيخ الإسلام .
أمثلة لتشريعات الأحبار والرهبان
قال القرطبي رحمه الله أيضاً: اعلم أن هؤلاء القوم وضعوا لأنفسهم قوانين توافقوا عليها، وارتبطوا بها من غير أن يشهد بصحة تلك القوانين شاهد من التوراة ولا من الإنجيل، فمن خالفها عندهم سموه خارجياً تارة وكافراً أخرى، والخروج عن تلك القوانين هو الذنب عندهم، ثم تلك الذنوب منقسمة إلى ما لا يغفرونه وإلى ما يغفرونه.
قال أيضاً القرطبي قال لهم بولش : هل رأيتم سارحة تسرح من عند ربها وتخرج إلا من حيث تؤمر به؟ قالوا: لا، قال: فإني أرى الصبح والليل والشمس والقمر والبروج إنما تجيء من هاهنا -يعني: من المشرق- وما أوجب ذلك إلا وهو أحق الوجوه أن يصلى إليه، قالوا: صدقت، فأمرهم أن يستقبلوا القبلة إلى جهة المشرق بهذه الحجة.
ثم قال لهم بعد زمان: رأيت رؤيا، قالوا: هات، فقال لهم: ألستم تزعمون أن الرجل إذا أهدى إلى رجل هدية وأكرمه بالكرامة فردها شق ذلك عليه، وإن الله سخر لكم ما في الأرض وجعل ما في السماء لكم كرامة، فالله أحق ألا ترد عليه كرامته، فما بال بعض الأشياء حرام وبعضها حلال ما بين البقة إلى الفيل حرام؟ قالوا: صدقت! ولهذا تلاحظ أن النصارى لا يسألوا عن حكم أي شيء، هل هذا حلال أو حرام؟ لأنهم أصلاً ليس عندهم شريعة، بعكس هذا الدين الكامل والشريعة الخاتمة التي تحكم الإنسان في كل سلوكه وكل حياته، فلذلك تجد النصراني المفروض ألا ينزعج إذا حكم بغير دينه، فهذا لا يمسه في قليل ولا كثير؛ لئلا يقع في تصادم بين الواقع الذي يعيشه وبين العقيدة التي يدين بها.
وعكس الحال بالنسبة للمسلم الذي تضبط شريعته كل أحواله وتصرفاته، ولا ينفك الإنسان في حال من الأحوال عن العبودية لله تبارك تعالى، فلذلك المسلم إذا حكم بغير شريعة الله يعيش التناقض المؤلم والواقع المرير الذي يصير عذاباً في عذاب، حيث تكون شريعته تشرق، والنظم الحاكمة بغير الإسلام تغرب، فيعيش في صراع دائم في مواقيت الصلاة، في ظهور المنكرات في المجتمع، في غير ذلك من النظم واللوائح التي تصادم عقيدته.
فهم ليس عندهم شريعة أصلاً حتى يقلقوا أو ينزعجوا، بل كما يقول ابن القيم رحمه الله عز وجل ما في دين النصارى من الباطل أضعاف ما فيه من الحق، وحقه منسوخ، فما بقي عندهم من خير بعد هذا التحريف.
أيضاً يقول هذا الذي يدعونه البابا، وهذا فيها شيء من التعظيم لأئمة الكفر، حتى للأسف أحياناً نجد بعض الإخوة تجري على فمهم كلمة البابا، هذا أبوهم هم، أنت لماذا تقول: بابا؟ فهذا لقب فيه نوع من التعظيم، هو رفيع على أمثاله من الكفار، أما أنت فما ينبغي لك أن تقول هذا، فضلاً عما يحصل من السقطات المذهلة من بعض الناس الذين ينتسبون إلى الدعوة حين يخاطبون هؤلاء بقولهم: قداسة البابا، ونيافة البابا، ليست قداسة بل هي نجاسة وركاسة.
فيقول: قداسة البابا، كيف يكون فيهم قديس؟ كيف نصفه بأنه قديس وهو نجيس نجس مشرك، يقول الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] ، فكيف أنت تعتقد مثل هذه الأشياء.
يقول أحد بابواتهم: إن ابن الله والعياذ بالله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض، ويجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاماً كانوا أو محكومين.
فهذا معنى اتخاذ الأحبار والرهبان، فقد كان له علاقة وثيقة بالاعتقاد، وليس مجرد قبول التشريع، فإنهم أعطوا هؤلاء الأحبار والرهبان سلطات التحليل والتحريم وإن خالفت ما يعلمونه قطعاً من شريعة الله عز وجل؛ فبالتالي لا ينبغي النظر فقط إلى جانب قبول الأحكام منهم، لكن هذا أمر وراءه أمر اعتقادي، وهو إعطاؤهم حق التشريع والتحليل والتحريم.
الفرق بين الإسلام والنصرانية في قبول التجارب العلمية
سبق الإشارة إلى خطورة هذه القضية، والفرق بين الإسلام والنصرانية وغيرها في هذا الباب في الكلام على العلمانية منذ زمن، وقلنا: إن بعض المقلدين والببغوات حينما يذهبون إلى الغرب أو يتعلمون الثقافات الغربية، ولما كان الغرب عنده عقدة من الكنيسة بسبب هذه الأشياء وغيرها كثير، وحصل رد الفعل العلماني، وفصل الدين عن الحياة، بسبب أن ما ولدوه يتصادم مع فطرتهم من العقيدة الوثنية التي تسربت إلى النصرانية، وبسبب البغي والطغيان الذي حصل من الكنيسة، وبسبب صراع الكنيسة مع العلم وردها لأي شيء من البحوث والاكتشافات العلمية الجديدة إذا صادم العلوم الكنسية فكان رد الفعل المغالى فيه: أن رفضوا الكنيسة، ورفضوا كل شيء يمت إلى الدين، والببغوات حينما تأثروا بالقول هذا فنقلوا هذا الكلام إلى بلاد المسلمين، فطالبوا أيضاً بالعلمانية أو شجعوا الاتجاهات العلمانية تأثراً بهذه الخلفية التي نشأت عما وقع في الغرب من صدام بين الدين وبين العلم.
فهذا يتعلق بدينهم لكن نحن ما عرفنا في الإسلام تصادماً مع العلم، وبفضل الله الإسلام عقيدة توافق الفطرة لا تتصادم مع أي أمور تصادم العقل أو الفطرة كما هو معلوم، وما أخطر الآيات التي تقول: أَفَلا يَعْقِلُونَ [يس:68] ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد:3]، يَتَدَبَّرُونَ [النساء:82]، وترفض الظن والتخمين والحدث إلى غير ذلك.
فالإسلام دين العلم.. دين الفطرة.. دين التوحيد.. دين الشريعة الكاملة.. دين التسامي.. في كل شيء وفي كل أبوابه، فمن الظلم أن نأخذ النتيجة التي بنيت على الماضي الأسود المظلم في الكنيسة ونطبقها على الإسلام وعلى بلاد المسلمين. هذا فيما يتعلق بعقائدهم.
حقيقة الربوبية للأحبار والرهبان الواقعة في بني إسرائيل
أما بالنسبة لأعمالهم: فهم جروا في سلوكهم وأعمالهم على تشريع الأحبار والرهبان وليس على ما شرعه الله لهم في التوراة، فجمعوا في ذلك بين فساد العقيدة وفساد العمل، فالربوبية على أساس هذا الكلام التي ذكرها الله وحكاها عن بني إسرائيل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، كما تتمثل في ادعاء الأحبار والرهبان حق النسخ والتبديل في أحكام الله، واستحداث شرائع وشعائر لم يأذن الله عز وجل بها، وفي إقرار بني إسرائيل هؤلاء الأحبار والرهبان على ذلك، وتعبدوا بما يتلقونه عنهم وإن كان مخالفاً لما في التوراة والإنجيل، فهذا بخلاف أنواع أخرى من الربوبية إنما تنشأ سلطة قاهرة غاشمة، أو سلطة سياسية من دولة تفرض أحكامها بالقهر والبغي والعدوان على شعوبها.
فما وقع من الربوبية عند اليهود والنصارى أو عند بني إسرائيل إنما اعتمد على سلطان التدين، وهيمنتها على النفوس، فهم تعبدوا بذلك، وأعطوا هؤلاء الحق في التحليل والتحريم، حتى ولو خالف ما يعلمونه من أحكام التوراة والإنجيل، ففي عقيدتهم الأحبار والرهبان يمثلون الله في الأرض، وما عقده الله في الأرض يكون معقوداً في السماء، وما يحله يكون محلولاً في السماء.
فالحلال ما أحله هؤلاء، والحرام ما حرموه، والدين ما شرعوه، حتى فيما يتعلق بالقربات والحرمات صكوك الغفران، حتى أعطوهم التحكم في إدخال الناس في الجنة وإخراجهم إلى النار، أعطوا الرهبان أو الأحبار هذا الحق، ولا توجد طريقة للتوبة إلا إذا ذهب إلى القسيس ويخلو به، ويجلس على كرسي الاعتراف، ويفصح له بكل تفاصيل الجرائم أو المعاصي التي ارتكبها، حينئذ يتوسط القسيس بينه وبين الله حتى يغفر له، والذي يملك أن يعطي حق إدخال الجنة يملك أيضاً عندهم أن يعطي حق أن يحرم من النار، وفي هذا مهازل عجيبة جداً.
فهذا هو الفساد الاعتقادي في قضية الربوبية التي وصفهم الله عز وجل بها، جاء في إنجيل متى: الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما ستحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء. فكانوا إذا حزبهم أمر عقدوا له مجمعاً ينسخون فيه ما يشاءون، ويستحدثون فيه ما يشاءون، حتى آل الأمر ببني إسرائيل إلى أن أصبح الدين كله صناعة بشرية من صناعة الأحبار والرهبان، فهذا معلوم بالضرورة من تاريخ النصرانية المحرفة.
تحريف التوراة والإنجيل بأيدي أصحابها
يقول الله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79].
وإذا تأملنا الآية تجد الكتابة بصيغة الماضي، أما كسب الوزر ووزر هذه السنة فمستمر إلى ما شاء الله، ولذلك أتى بصيغة المضارع التي تفيد الاستمرار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، فيقول الله عز وجل: (( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ))، يعني: الكتابة والتحريف حصل، (( وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ))، يعني: مما يكسبون من الوزر حين تضل أجيال بعد أجيال بسبب هذا التحريف في دين الله عز وجل.
ويقول عز وجل: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78] ، فهذا حال عامة بني إسرائيل أنهم يدينون للأحبار والرهبان بهذا الحق في التحليل والتحريم، ويتعبدون بما يستحدثونه لهم من العبادات.
فما يسمى بـ: البابا ليس مجرد مفتي مثلاً، أو شخص عادي كشيخ أو عالم مجتهد! لا، البابا عندهم مشرع، له عندهم هذا الحق في التحليل والتحريم، وكما ذكرنا ليس فقط في العبادات بل لابد من الرجوع إليهم أيضاً فيما يخص الذنوب والخطايا، ومهازل صكوك الغفران مما يؤيد ذلك.
التفريق بين حال الطواغيت والجبابرة الذين يحكمون المسلمين
إن حكام المسلمين في هذا الزمان في شتى بقاع العالم الإسلامي يحكمونهم بالحديد والنار والقهر، ويجبرونهم على الخضوع والإذعان للشرائع التي تخالف شريعة الله، وبين اليهود والنصارى أو بني إسرائيل الذين كانوا يتعبدون بإعطاء الأحبار والرهبان هذا الحق وفي استحداث ما يشرعونه لهم. فكانوا يعتقدون أن لهم هذا الحق، وإن كانوا يعلمون أن هذا مخالف للتوراة والإنجيل، فهذا الخضوع من بني إسرائيل وذلك القبول هو من جنس الخضوع للدين، والطاعة لأحكامه، والتعظيم لشعائره طعماً في الخلاص في الآخرة، ودرجات الخلود في ملكوت السماوات، فهذا تدين كانوا يتدينون به.
أيضاً: الآية في سورة التوبة لم ترد في معرض التقرير والتحرير لقضايا أصول الدين، وإنما تحكي وتصف انحراف حال أمة من الأمم اتخذ انحرافها طابعاً معيناً، وهو: ادعاء فقهائهم أنهم يمثلون الله، وأنهم النواب عن رسل الله تبارك وتعالى، وبالتالي يكون لهم حق في ممارسة أمر النسخ والتبديل في أحكام الله عز وجل، واستحداث شرائع وشعائر لم يأذن بها الله، حتى أصبح دين بني إسرائيل كله من هذه الصناعة الآدمية.
يقول الله تبارك وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، يعني: الطاعة في التشريع إن كانت من جنس الابتداع في الدين كما وردت الآية: (( شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ))، فلا جدال أنها شرك وكفر أكبر، ولا تكون الطاعة في التشريع وقبول التشريع من غير الله عز وجل شركاً أكبر إلا إذا دان الإنسان بهذا التشريع، بأن يتدين بهذا التشريع، ويعتقده كما يعتقد الدين، فيرجع الأمر في الحقيقة إلى الاعتقاد وليس إلى مجرد قبول الحكم، أما إذا كانت الطاعة من جنس اتباع الشهوات، ومن باب الاستجابة لداعية الهوى فهي ذنب من الذنوب يختلف الحكم على صاحبه باختلاف موضوع هذا الذنب.
فلو أن حاكماً من الحكام أمر الناس بالزنا، وشرع لهم إباحته، فأطاعه بعض الناس التزاماً للحكم بإباحته، ورداً لما أنزل الله من تحريمه، وأطاعه آخرون ليس إيماناً بهذه الإباحة، ولا كفراً بما أنزل الله من التحريم، لكن لأن هذا وافق هوى في نفوسهم ومرضاً في قلوبهم مع بقاء إيمانهم وتصديقهم، كما يتواجد في بعض بلاد الكفار الذين يستبيحون مثل هذه الفواحش؛ فمن قبل هذا تديناً فهو كافر كفراً أكبر بلا شك.
أما من وجد القوم يعيشون في مثل هذه الغابات الكافرة وتابعهم على ذلك لمجرد أن هذا يوافق هواه، وهو يعتقد أن هذا حرمه الله عز وجل، فلا شك أن الحكم في حالة التدين يختلف عن الحكم في الحالة الثانية، فالأولون كفار مشركون، والآخرون عصاة مذنبون.
من هنا يكون الفرق بين الخضوع للأحبار والرهبان الذي كان في بني إسرائيل، والخضوع للطواغيت من ذوي السلطان، فالأحبار والرهبان يخضعون الظاهر والباطن، والناس يتدينون بذلك، ويخضعون الأجسام والأرواح والنفوس لما اعتقده الناس فيهم من أنهم يمثلون الله، أو ينوبون عن المسيح الذي يعبدونه، وأن المسيح -كما يفترون- أجاز لهم في السماء كل ما يريدونه هم على الأرض.
أما الطواغيت فإنهم يخضعون الظاهر فقط، ويقهرون الأجسام فحسب، ومن هنا كان لابد أن تقيد الطاعة لهم بالكفر بأحكام الله، إما على سبيل التكذيب وإما على سبيل الإباء والرفض، أما التعبد بما يقول الأحبار والرهبان خلافاً لحكم الله؛ فإنه يتضمن بذاته هذا القيد، فلا يحتاج إلى التنصيص عليهم، يعني: مجرد كلمة التعبد تفيد أن هذا شيء يعتقدونه ويدينون الله به.
فقد مررنا على معظم القضايا التي هي محل أخذ ورد فيما يتعلق بكتاب حد الإسلام، والذي ذكرنا أنه يقوم على اعتبار أن حد الإسلام يتكون من ركنين:
الأول: تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب.
والثاني: التزام شريعته جملة وعلى الغيب.
وذكرنا أيضاً: أنه يعتبر أن لهذا الحد ثلاثة أركان: النسك، والولاية، والحكم.
وذكر أن تحقيق التوحيد في هذه الأركان الثلاثة هو الحد الأدنى من الدين الذي يجب تحققه في كل إنسان حتى تثبت له صفة الإسلام ابتداءً، والذي يؤدي تخلفه أو تخلف جزء منه إلى تخلف الدين كله.
وناقشنا تفاصيل القضية في النسك والولاية، وشرعنا في الكلام على الركن الثالث، وهو: نفي الحكم عن غير الله عز وجل.
وذكرنا أن فكرة الكاتب في هذا المقام تتلخص في: أن قبول شرع الله ورفض ما سواه، له يتعلق بالتوحيد في جانبيه القولي والعملي، فهو يتعلق بالتوحيد القولي من حيث كونه إثباتاً لصفة من صفات الله عز وجل وهي صفة الحكم، ويتعلق بالتوحيد العملي من حيث كونه ركناً من أركان العبادة، وذكرنا أن هذه النقطة الأولى هي محل خلاف؛ لأن الآيات والنصوص تواترت على ألا حكم إلا لله.
فلا شك أن قضية الحكم وإفراد الله عز وجل بالحاكمية من الأركان الأساسية لعقيدة التوحيد، وبين الله عز وجل أن الشرك في الحكم تماماً مثل الشرك الذي يكون في العبادة، كما قال الله عز وجل: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وقال في الحكم: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، فسمى هذا شركاً كما سمى هذا شركاً، وقال عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وقال عز وجل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، والآيات في هذا كثيرة جداً والتي تتعلق بالفكرة الأولى التي أتى عليها هذا البحث.
الفكرة الثانية: أن قبول التكليف من غير الله عز وجل كفر أكبر بغض النظر عن هذا التكليف، يعني: سواء كان هذا التكليف بما يخالف شريعة الله عز وجل أو بما يوافقها، أما الاستجابة لرواية فليس لها تكييف شرعي محدد، وإنما تتوقف على نوع الفهم. وسبق أن ذكرنا أن هذا الكلام ليس على إطلاقه، فمجرد قبول التكليف لا يشترط أن يكون كفراً أكبر على التفصيل الذي ذكرناه.
أيضاً قال: إن قبول شرع الله يتحقق بعدم الرد -وهو الإباء- من قبول الفرائض والأحكام، وقبول شرع غيره يتحقق بعدم الرد، وأدنى درجة الرد: كره القلب، ودلالته الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل عليه.
الفكرة الثالثة هي: رفض الكاتب تفسير الربوبية في بني إسرائيل المذكور في قوله عز وجل عن بني إسرائيل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، فهو قدر هذه الربوبية بأنها طاعتهم في الاعتقاد، واجتهد في إثبات ذلك بعديد من الأدلة، مبيناً أن في تفسيرها بالطاعة في الاعتقاد من اللوازم الفاسدة ما يرده أكثر العقلاء.
أولاً: بالنسبة لتفسيره للربوبية التي وقع فيها بنوا إسرائيل، وذهابه إلى أن هذه الربوبية لم يكن مردها إلى الطاعة في الاعتقاد بمجرد أنهم قبلوا الأحكام بذلك حتى لو اعتقدوا حكم الله كما أنزله الله، واعتقدوا فيه عقيدة قلبية صحيحة، لكن أطاعوا الأحبار والرهبان فيما أحلوه وحرموه مخالفاً لشريعة الله، فمجرد قبول الأحكام كفر أكبر بغض النظر عن اعتقادهم في ذلك.
فالمناط المذكور في الآية هنا هو الطاعة في التشريع وليس الطاعة في الاعتقاد أو المعصية.
وتوضيحاً لهذا الكلام: فهذه الآية في سورة التوبة تتحدث عن حالة من حالات الانحراف التي جمح فيها أصحابها بين فساد الاعتقاد وفساد العمل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] .
أيضاً هؤلاء القوم الذين أطاعوا الأحبار والرهبان في هذه الأشياء فسدت عقيدتهم؛ لأنهم أقروا لأحبارهم ورهبانهم حق النسخ والتبديل في أحكام الله عز وجل، فاعتقدوا أنما يربطه الأحبار والرهبان في الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما أحلوه في الأرض يكون محلولاً في السماء، فالحلال عندهم ليس حلال الله والحرام ليس حرام الله، وإنما الحلال عندهم ما أحله الأحبار والرهبان وإن كان خلافاً لما يعرفونه هم من حكم التوراة التي أنزلها الله عز وجل عليه، والحرام عندهم أيضاً ما حرمه الأحبار والرهبان وإن كان ذلك خلافاً لما يعرفونه من إباحته في التوراة.
فهذه الطاعة كانت طاعة لها علاقة بالاعتقاد لا بمجرد قبول الحكم، فهم أعطوا حق نسخ شريعة الله وتحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.. أعطوا هذا الحق للرهبان والأحبار، فبذلك صدق عليهم وصفهم بأنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله عز وجل.
فهذه طاعة في الاعتقاد قبل أن نقول: إنها طاعة في قبول الأحكام من الأحبار والرهبان، فهم تركوا تحريم التوراة وتحليلها إلى تحريم الأحبار والرهبان وتحليلهم تأسيساً لهم على الإقرار لهم في الحق بذلك.
يقول ابن القيم رحمه الله وهو يحكي صوراً من تلاعب الشيطان باليهود لعنهم الله: ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالاً، وإذا حرموه صار حراماً، وإن كان نص التوراة بخلافه، وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم.
حتى في المناظرات المعروفة ينتقد اليهود وبل النصارى المسلمين لاعتقادهم أن الله عز وجل له أن ينسخ ما يشاء من آياته وأحكامه، فهم يعتبرون هذا موضع نقد وطعن في الإسلام، فهم عطلوا هذا الحق لله عز وجل: أنه ينسخ ما يشاء، ويبدل ما يشاء من أحكام لمصلحة العباد، ولما يشاء عز وجل من الحكم العظيمة: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] ؟ بلى. فهم حجروا هذا الحق ومنعوه عن الله تبارك وتعالى الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأعطوا نفس هذا الحق إلى الأحبار والرهبان، فأقروا لهم بجواز النسخ في الأحكام وتحليل الحرام وتحريم الحلال.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن المسلمين لا يجوزون لأحد بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغير شيئاً من شريعته، فلا يحلل ما حرم ولا يحرم ما حلل، ولا يوجب ما أسقط ولا يسقط ما أوجب، بل الحلال عندهم ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدين ما شرعه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعاً لم يشرعها المسيح عليه السلام، ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة، وزعموا أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم، وهذا موضع تنازع فيه الملل الثلاث: المسلمون، واليهود، والنصارى، كما تنازعوا في المسيح عليه السلام وغير ذلك.
فنحن اعتقادنا في المسيح يختلف عن اعتقاد اليهود عن اعتقاد النصارى، فنعتقد في المسيح: أنه عليه السلام نبي ورسول من أولي العزم من الرسل، وأنه عبد الله عز وجل ورسوله، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، كما قال الله عز وجل، إلى آخر العقيدة المعروفة عند المسلمين في حق المسيح عليه السلام.
أما اليهود -والعياذ بالله- فهم يرمون مريم عليها السلام بالبهتان والإثم والفاحشة، وهذه نظرة النصارى أنفسهم للمسيح عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهم قد عبدوا المسيح، وألهوه وضلوا فيه ضلالاً مبيناً.
أيضاً هؤلاء اليهود يختلفون معنا في نظرتنا إلى قضية النسخ، فاليهود لا يجوزون لله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئاً من شريعته أو من أحكامه، والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله عز وجل بآرائهم، أما المسلمون فيعتقدون أن الله جعل له الخلق والأمر، فلا شرع إلا ما شرعه الله على ألسنة رسله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولله تبارك وتعالى أن ينسخ ما شاء بما يشاء، كما نسخ بالمسيح عليه السلام ما كان شرعة للأنبياء قبله: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، فهذا نسخ.
فالنصارى تضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح عليه السلام، وليس هذا متعلقاً فقط بالأحكام، بل أحبار النصارى الضالون بدلوا صلب عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح عليه السلام، حتى صار أمراً مقرراً في مجامعهم المقدسة، فبدلوا العقيدة فضلاً عن الأحكام، كما وضع لهم الثلاثمائة والثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك الأمانة التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريسية وغيرهم.
وفيها أمور لم ينزل الله عز وجل بها كتاباً، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ثم طفق رحمه الله يذكر بعض الأمثلة على ما أحدثه النصارى من الدين بعدما ذكر تبديل العقيدة من أصلها، وانحرافهم عنها، واخترعوا هذه العقيدة الشركية الوثنية عقيدة الإله والأقانيم الثلاثة، إلى آخر ما وضعوه من الشرك والكفر الأكبر بالله عز وجل، واعتقدوا أن هذا هو قانون الإيمان، ولا يعد مؤمناً إلا من اعتقد به.
فيقول شيخ الإسلام : وكذلك تعظيمهم للصليب، لأن الصليب في زعمهم هو الذي صلب عليه إلههم الذي يعبدونه، وعلى هذا لو واحد قتل أباك بسكين فتأتي أنت تعبد هذه السكين وتعظمها وتتبرك بها وتقدسها، فهذه نظرتهم: تقديس وتعظيم الصليب التعظيم المعروف عند القوم.
أيضاً: استحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، يعني: ما كتبنا عليهم الرهبانية لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
أيضاً: امتناعهم من الختان، وهو تبديل لشريعة الله عز وجل، وتركهم طهارة الحدث والخبث، ولا يوجبون غسل جنابة ولا وضوء، ولا يجتنبون شيئاً من الخبائث في صلاتهم، لا العذرة ولا البول ولا غير ذلك من الخبائث.
هذه كلها من الشرائع التي أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ودان بها أئمتهم وجمهورهم ولعنوا من خالفهم فيها. انتهى كلام شيخ الإسلام .
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الإيمان والكفر [14] | 2440 استماع |
الإيمان والكفر [27] | 2428 استماع |
الإيمان والكفر [23] | 2231 استماع |
الإيمان والكفر [5] | 2183 استماع |
الإيمان والكفر [22] | 1947 استماع |
الإيمان والكفر [16] | 1907 استماع |
الإيمان والكفر [7] | 1853 استماع |
الإيمان والكفر [10] | 1843 استماع |
الإيمان والكفر [21] | 1838 استماع |
الإيمان والكفر [1] | 1833 استماع |