منثورات من أطايب الكلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة ولاسلام على رسول الله، وبعد:

هذا الدرس ليس هو كتاباً نشرحه أو نلخصه، وليس موضوعاً بعينه، ولا تصنيفاً لمؤلف باسمه، وليس مرتباً في أفكاره، وإنما هو بدعة تكون حسنة إن شاء الله، وليست بدعة شرعية مذمومة، وهو في الحقيقة تكرار لما سنه بعض الأئمة مما ينبغي أن نقتدي بهم فيه، وهو أن يتشبه الإنسان بمن يغوص في أعماق البحار ويستخرج اللآلئ والأشياء الثمينة، أو من يطوف في بستان ويقتطف من الثمار أفضلها وأنضجها وأنفعها، فيجمعها ويقدمها لإخوانه وأحبائه.

وهذا المعنى عبر عنه بعض السلف بقوله: لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا يوماً واحداً: ظمأ الهواجر -الصيام في الأيام الحارة-، وقيام الليالي الباردة، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر.

فكان من سنة السلف أنهم ينتقون النصائح التي تؤثر في القلوب أكثر من غيرها، وقد تعودت منذ سنوات طويلة أني متى وقفت على فائدة في أي موضوع من الموضوعات، فإني أدونها في قصاصة وأجعلها في صندوق خاص بالفوائد.

نحن معشر البشر نشترك في الإحساس بالمعاني، ولكن قد لا نوفق جميعاً إلى المستوى الأدبي الراقي أو البديع الذي يعبر عن هذه المعاني ويصوغها في هذه العبارات كسمط اللآلئ المنظومة.

وأنا أنصح جميع الإخوة أن يكون لهم مثل هذا الصندوق يضعون فيه قصاصات، فأي فائدة من حديث.. عبرة.. كلمة طيبة تحب أن تحفظها كي تتمثلها وتنتفع بها تلقيها فيه، ثم تدونها بعد ذلك في كراسة إن تيسر لك ذلك.

فهي أفكار غير مرتبة كما ذكرنا لكن إن شاء الله يكون فيها نفع.

هذه قصاصة فيها قول بعض العلماء: الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه، قال: وشاهده قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].

هذه إشارة إلى فائدة الحكايات والقصص الحق الذي ليس بكذب، مثل قصص القرآن الكريم والقصص الذي جاء في السيرة النبوية، فهذه الحكايات هي جنود من جنود الله سبحانه وتعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه.

ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم.

أي: فمن خلالها نعرف نطالع آداب السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وشاهد هذا قوله تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، كيف نقتدي بهم إن لم نطلع على آدابهم؟ وقوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].

وقال سفيان بن عيينة : عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.

وقال أبو محمد التيمي كأنه يشير إلى أدب يناسب ذكر الصالحين، وهذا الأدب ينبغي أن يحفظه كل طالب علم مع شيخه ومؤدبه ومن يستفيد منه حتى من اللاحقين، يقول: يقبح بكم أن تستفيدوا منا ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا.

أي: يقبح أن تستفيدوا من دروس العلماء ونصائحهم أو من كتبهم التي صنفوها، ثم تقولوا: قال الإمام فلان؛ دون أن تقولوا: رحمه الله، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] فقابل ذلك بالدعاء له برحمة الله تبارك وتعالى.

هنا فتوى فيها إشارة إلى معنى عظيم جداً، وأنا لما قرأت هذه الكلمة دعوت لهذا الإمام الذي أفتى بهذه الفتوى، وقلت: فرج الله عنك؛ كما دعا له من أجاب هو سؤالهم، وأرجو أن من ينتفع منكم يدعو لي بنفس هذه الدعوة، فقد سأل رجل الإمام أسد بن الفرات عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يكون الرجل مؤمناً حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله وماله والناس أجمعين)، فقال ذلك الرجل للإمام أسد بن الفرات : أخاف ألا أكون كذلك؟ فقال له الإمام أسد بن الفرات : أرأيت لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقرب ليقتل، أكنت تفديه بنفسك؟ قال: نعم، قال: وبأهلك وولدك؟ قال: نعم، قال: فلا بأس، فقال الرجل: فرجتها عني فرج الله عنك!

فأعطاه هذا المقياس؛ لأن قلب المؤمن الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا يمكن أبداً أن يخلو من أصل محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالعلامة الحية والبارزة على هذا هو ما ذكرناه هنا، وهي مشار إليها في القرآن في قوله تبارك وتعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، أي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أولى بك من روحك ونفسك التي بين جنبيك، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه هذا الرجل في جوابه، وقال تبارك وتعالى: وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَفسِهِ [التوبة:120] لذلك قال له الرجل: فرجتها عني فرج الله عنك، فقد أتاه بالميزان الذي يثبت له فعلاً وجود هذه المحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فائدة أخرى: يقول بعض العلماء في تعليل تمتعه وتلذذه بذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته:

لم أسم في طلب الحديث لسمعة أو لاجتماع قديمه وحديثه

لكن إذا فات المحب لقاء مـن يهوى تعلل باستماع حديثه

يعني: إذا كانت مقابلة رسول الله عليه الصلاة والسلام قد فاتتني فأنا أتمتع بسماع حديثه كأني قابلته.

أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

يعني: صحبوا أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم.

هذه نصيحة من ضيغم العابد يقول: إن لم تأت الآخرة للمؤمن بالسرور، لقد اجتمع عليه الأمران هم الدنيا وشقاء الآخرة، فقيل له: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعب في دار الدنيا ويدأب؟ فقال: وكيف بالقبول وكيف بالسلامة؟

ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح عمله يجمع ذلك كله يوم القيامة ثم يضرب به وجهه، ومن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

وجاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً من حاله ومعاشه واغتماماً بذلك، فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟

فالرجل جاء يشكو أنه لا يجد القوت ولا الطعام وكثرة العيال وهم الدنيا والفقر، فشكا إليه ولم يذكر نعم الله عليه ولم يحمد الله سبحانه وتعالى، ولم يعدل في القضية؛ لأنه إذا سلب منه شيء أو ضيق عليه في باب فقد وسع عليه في أبواب كثيرة من النعم التي لا تحصى، فجاء هذا الرجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً من حاله ومعاشه فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟ يعني: أيسرك بدل بصرك مائة ألف دينار؟ قال: لا.

قال: فبسمعك؟ قال: لا، قال: فبلسانك؟ قال: لا، قال: فبعقلك؟ قال: لا، ثم قال يونس : ألا أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة! أي: عندك مئات الآلاف وأنت تشكو الفقر.

كثير من النعم لا نحس بها؛ لأننا مغمورون فيها ولم نبتل بفقدها، فلنذكر نعمة قد لا يستحضر أحد أنها نعمة، وهي خروج البول والغائط من الإنسان، كما جاء أحدهم لأحد الملوك وقد أصيب باحتباس البول فقال له: كم تدفع في سبيل أن أعالجك حتى تخرج هذه البولة؟ فذكر له الأرقام الفلكية التي تليق بالملوك والرؤساء.

هو يقول: أنا مستعد أن أتنازل عن جميع ملكي في سبيل أن أعالج من هذه الحالة، فقال: اتق الله في ملك لا يساوي مثل هذا الشيء الذي يخرج من بدنك، فهذه نعمة، لكن قل من يستحضرها إلا إذا ابتلاه الله سبحانه وتعالى.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور.

إذا تقربت إلى الله سبحانه وتعالى بعمل صالح، وبالتالي لم تجد في قلبك حلاوة وفي صدرك انشراحاً، فعملك هذا فيه آفة؛ لأن عملك إذا سلم من الآفات فإن الله سبحانه وتعالى شكور، يشكر لمن يتقرب إليه بهذه الطاعات، فإذا كان عملك بلا آفة وتقبله الله منك فلابد أن يعقبك حلاوة في قلبك بسبب هذه الطاعة وانشراحاً في صدرك، فبما أن الله لم يوجد في قلبك ذلك فهو لم يقبل منك هذا العمل، أو هناك آفة في عملك، فراجع نفسك.

وعن شمر عن رجل قال: كنت عريفاً في زمن علي فأمرنا بأمر فقال: أفعلتم ما أمرتم؟ قلنا: لا، قال: والله لتفعلن ما تؤمرون به أو لتركبن أعناقكم اليهود والنصارى.

وقال ابن طاهر المقدسي الحافظ: سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول: عرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت.

فانظر إلى هذه الشجاعة الأدبية لأئمة المسلمين.

هذه بعض الأشعار فيها مناجاة لله سبحانه وتعالى، وبعض المعاني الطيبة، فهذا أحد العلماء الأفاضل يتكلم على وجوب الإخلاص في العمل لله سبحانه وتعالى وإلا فإن العمل يذهب هباء منثوراً، يقول:

سهر العيون لغير وجهك ضائع وبكاؤهن لغير فقدك باطل

ويقول آخر:

إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب

وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب

ويقول آخر:

إلهي يا كثير العفو عفواً لما أسلفت في زمن الشباب

فقد سودت بالآثام وجـهاً ذليلاً خاضعاً لك في التراب

فبيضه بحسن العفو وجهي وسامحني وخفف من عذابي

ويقول آخر:

لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد

وقلت يا عدتي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد

وقد مددت يدي والضر مشتمل إليك يا خير من مدت إليه يد

فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد

وآخر يقول في مناجاة جميلة هي من أروع ما تكون المناجاة:

يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى في الشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع

ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع

ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع

حاشا لجودك أن تقنط عاصياً فالفضل أجزل والمواهب أوسع

ويقول آخر:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرم

أدعوك رب كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم

ويقول آخر:

قدمت بين يدي نفساً أذنبت وأتيت بين الخوف والإقرار

وجعلت أستر عن سواك ذنوبها حتى عييت فَمُنَّ لي بستار

هذه أيضاً جملة من الأشعار في الاتعاظ بالموت وبالقبور يقول:

قدم لنفسك ما استطعت من التقى إن المنية نازلة بك يا فتى

أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى أحباب قلبك في المقابر والبلى

ويقول آخر:

عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دماً

وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى

ووجد مكتوباً عن على قبر سيبويه أستاذ النحاة:

ذهب الأحبة بعد طول تزاور ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا

تركوك أوحش ما تكون بقفرة لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا

قضي القضاء وصرت صاحب حفرة عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا

ويقول آخر:

وقفت على الأحبة حين صدفة قبورهم كأفراط الرهان

فلما أن بكيت وفاض دمعـي رأت عيناي بينهم مكاني

ويقول آخر:

ستنقلك المنايا عن ديارك ويبدلك الردى داراً بدارك

وتترك ما عنيت به زماناً وتنقل من غناك إلى افتقارك

فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك

ويقول آخر:

يا من سينأى عن بنيه كما نأى عنه أبوه

مثل لنفسك قولهم جاء اليقين فوجهوه

وتحللوا من ظلمه قبل الممات وحللوه

ويقول آخر:

لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الفراق قليل

وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خليل

ويقول آخر:

إن كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعه

فلم لا أكون ضنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعه

ويقول آخر:

نموت وننسى غير أن ذنوبنا وإن نحن متنا لا تموت ولا تنسى

ألا رب ذي عينين لا تنفعـانه وهل تنفع العينان من قلبه أعمى

ويقول آخر:

نراع إذا الجنائز قابلتنا ويحزننا بكاء الباكيات

كروعة ثلة لمغار سبع فلما غاب عادت راتعات

أي: مثل ثلة من الناس أغار عليهم سبع فارتاعوا لذلك، فلما غاب عنها السبع عادت ترتع من جديد وتعبث وتلهو وكأن السبع لم يهددها.

ويقول آخر:

أذان المرء حين الطفل يأتي وتأجيل الصلاة إلى الممات

بيان أن محياه يسير كما بين الأذان إلى الصلاة

يقول: إن الوقت بين ميلاده وموته وقت سريع وخاطف كالوقت بين الأذان والإقامة، وبيان ذلك أن الأذان يؤذن في أذنه حين يولد، أما صلاة الجنازة فتكون بعد خروج روحه، فحياة الإنسان شبيهة بالوقت الذي بين الأذان والصلاة.

مالك والملبسون

عن سعيد بن بشير قال: كان مالك إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم وأنه يريد المغالطة -أي يظن أنه يريد المغالطة والتشكيك والجدل والتعنت، ولا يقصد الاستفهام ولا الرغبة في العلم- فكان الإمام مالك يزجره بهذه الآية: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9].

وقال قتادة: لما احتضر عامر بكى فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.

عبد الرحمن بن أبان يجمع بين الدين والملك والشرف

وقال موسى التيمي وهو يصف عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان : ما رأيت أحداً أجمع للدين والمملكة والشرف منه.

وقيل: كان يشتري أهل البيت من الرقيق، فيكسوهم ويعتقهم، ويقول: أستعين بهم على غمرات الموت، فمات وهو نائم في مسجده.

وقيل: كان كثير العبادة والتأله، رآه علي بن عبد الله بن عباس فأعجبه نسكه وهديه، فاقتدى به في الخير.

الشافعي يرشد تلاميذه

وقال الربيع : سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث الضغائن.

والمراء هو: الجدل في الدين.

وعن المزني : إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فـالشافعي .

يشير المزني إلى أن هناك بعض الوساوس في التوحيد كان ترد عليه أحياناً من الشيطان، فما استطاع أحد أن يعالجه من هذا الأمر إلا الشافعي ، فحكى القصة قال: صرت إليه وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد فعلمت أن أحداً لا يعلم علمك، فما الذي عندك؟ فغضب الشافعي وقال: أتدري أين أنت؟ يشير إليه أنت الآن في بلدة مصر.

قلت: نعم، فقال له الشافعي : هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون، أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت: لا، قال: هل تكلم فيه الصحابة؟ قلت: لا، قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا، فكوكب منها تعرف جنسه وطلوعه وطوله ومم خلق؟ قلت: لا، قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه.

ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه فلم أصب في شيء منها، فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله وإلى قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.. [البقرة:163-164] إلى آخر الآيات -يرشده إلى التفكر في مخلوقات الله- فاستدل بالمخلوق على الخالق ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك، قال: فتبت.

إمام سني يدمغ شبهة المعتزلة

وعن المرتجي بالله محمد بن الواثق العباسي قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، فأتي بشيخ مقيد، فقال: ائذنوا لـأبي عبد الله وأصحابه، يقصد بذلك أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة الضال.

قال: فأدخل الشيخ الذي سيقتل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فقال: لا سلم الله عليك فقال: يا أمير المؤمنين، بئسما أدبك مؤدبك! قال الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86].

فقال ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم! أي: يبدو أن عنده قدرة على الجدل والمناظرة.

فقال له: كلمه، فقال أحمد بن أبي دؤاد للشيخ: ما تقول في القرآن؟ قال: لم ينصفني ولي السؤال، قال: سل، قال: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق!

قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه؟ قال: شيء لم يعلموه، فقال: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم علمته أنت؟! فخجل، فقال: أقلني.

قال: المسألة بحالها، قال: نعم علموه، قال: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم، قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟

قال: فقام أبي فدخل مجلساً واستلقى وهو يقول: شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت، سبحان الله! شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم أمر برفع قيوده وأن يعطى أربعمائة دينار ويؤذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن أحداً بعدها.

الروافض شر من الخوارج

حكى الذهبي أن بعض علماء السنة اتفقوا مع الخوارج على مواجهة الدولة العبيدية الفاطمية الملحدة هنا في مصر، فقال: وعوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني؛ حضرت عقداً فيه جمع من أهل السنة والمشارقة، وفيهم أبو قضاعة الداعي، فجاء رئيس فقال كبير منهم: إلى هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسول الله -يعني بذلك أبا قضاعة - فما نطق أحد.

وخرج أبو إسحاق الفقيه مع أبي يزيد وقال: هم من أهل القبلة وأولئك ليسوا أهل قبلة، وهم بنو عدو الله، فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد؛ لأنه خارجي.

عن سعيد بن بشير قال: كان مالك إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم وأنه يريد المغالطة -أي يظن أنه يريد المغالطة والتشكيك والجدل والتعنت، ولا يقصد الاستفهام ولا الرغبة في العلم- فكان الإمام مالك يزجره بهذه الآية: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9].

وقال قتادة: لما احتضر عامر بكى فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.