خطب ومحاضرات
أسباب التساقط في طريق الهداية
الحلقة مفرغة
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، تقدست أسماؤك، وتعالت صفاتك، ولا إله إلا أنت! سبحانك اللهم وبحمدك عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، نشهد أن لا إله إلا أنت، ونشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وصفيك من خلقك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الأحبة في الله: كم يُسرُّ القلب المؤمن حين يرى قوافل الشباب عائدةً إلى أفياء الهدى وظِلال الإيمان، وكم يفرح المسلم حين يرى الأجيال المسلمة والأمة المسلمة وقد عادت بعد طول عناءٍ وبُعدِ مشقةٍ، وشرودٍ في صحاري المعاصي والذنوب والجاهلية، حين عادت إلى رياض التقوى والهدى.
وحُقَّ للمسلم -أيها الأحبة!- أن يفرح غاية الفرح، وأن يسر غاية السرور وهو يرى أجيال الإسلام، وأمة الإسلام تعود إلى الحق والهدى، بعد أن ظن أهل الباطل أنهم قد قضوا عليها.
ولكن لا بد للمسيرة من ترشيد، ولا بد لحداتها من وقفات، ولا بد لنا من تأملات.
ومما يظهر عند التأمل -وكأنه نشازٌ في هذه المسيرة المباركة- بعض لبناتٍ تتساقط من هنا وهناك، فيكون النكوص على الأعقاب بعد الاستقامة، ويكون السقوط بعد الرقي والسمو، وإن كان كما قيل: ذاك شذوذٌ، وخلاف القاعدة، لكن لا بُدَّ أن نتأمل وننظر، ونستبصر على ضوء الكتاب والسنة، وعلى هدىً من سنن الله في هذه الحياة.
فما هي الأسباب التي تؤدي إلى هذا الأمر؟ حتى لا يتفاقم ويستشري -والعياذ بالله- أو يصبح حجةً لدعاة الباطل، فيقولون: لو كان في هذا الطريق خيرٌ لما نكص عنه بعض الناكصين!
وبادئ ذي بدء -أيها الأحبة في الله- لا بد أن نشير إلى طبيعة الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى ابتلاءً وامتحاناً منه قد جعله قابلاً للخير والشر: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1-2] وقال سبحانه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه).
إذاً فأصل القابلية للضلال موجودٌ في هذا الإنسان، فإن نمِّيت فيه بذرة الخير والفطرة والتقى سلك في هذا الطريق، وإن كان البذر خاطئاً أو المعوقات كبيرة لم تتمكن هذه الشجرة من النمو، وكان الواقع هو خلاف ما يؤمله المؤمن -والعياذ بالله- وقد جعل الله سبحانه وتعالى أعظم مظاهر هذا الابتلاء؛ هذه العداوة الأبدية بين الإنسان والشيطان.
فمن تمام الامتحان، وكمال الابتلاء -حتى يخلص من خلص عن بينة، ويستحق ما يستحق عن جدارةٍ- أن كان هذا العدو الماكر اللئيم الملحاح البطيئ، الذي يترصد الإنسان في كل ثنية من طريقه في هذه الحياة.
يحدثنا عن ذلك الحق سبحانه وتعالى فيقول: إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5] ، ويقول سبحانه وتعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً [الإسراء:53] ، والعداوة قد تكون خفيةً غير ظاهرةٍ، أما عداوة هذا العدو فهي بينة واضحة، تتظافر الأدلة من الكتاب والسنة والواقع على وجودها، وهذا تسهيل للمسلم وللإنسان عموماً، وتيسير لكي يتنبه ويحذر من هذه العداوة.
يشبَّه الإمام ابن القيم عليه رحمة الله حال الإنسان مع الشيطان، فيقسّم الناس في ذلك إلى ثلاثة أقسام، ويضرب لكل قسم مثلاً، ويضرب للشيطان مثلاً فيقول:
مؤمن متيقظ لمداخل الشيطان
ويقول: مثل ذلك مثل المؤمن اليقظ المتنبه لمداخل الشيطان، الذي قد أغلق كل مدخل وثغرة يمكن أن يلج منها الشيطان، ووضع على كل ثغرة حارساً يحرسها.
رجل غافل عن مداخل الشيطان
القسم الأول: فلا يفكر الشيطان أن يقترب منهم، وقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن عمر ما سلك طريقاً، إلا سلك الشيطان طريقاً آخر، لا يفكر الشيطان في أن يسلبه شيء، بل أصبح يفر منه فراراً، بعكس الآخر الذي يزين له ويوقعه في بعض المعاصي والذنوب كما سنرى بعد قليل.
رجل تركه الشيطان لخلوه من الخير
الأول: مثل من ارتقى وكمل.
والثاني: مثل من فيه خير ولم يُقِم ما يحمي هذا الخير.
والثالث: من قد فرغ منه الشيطان والعياذ بالله.
ويحدثنا القرآن الكريم عن هذا التصوير العجيب البديع الذي يذكره الإمام ابن القيم رحمه الله، في ذلك الحوار الذي كان بين الله سبحانه وتعالى وبين الشيطان حين قال: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً [الإسراء:62-64] ثم يأتي في النهاية إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [الإسراء:65] هذا هو الصنف الأول.
القسم الأول: كمثل قلعة تحتوي على سائر الكنوز والجواهر والأموال، وهذه القلعة قد شُدِّدت عليها الحراسات، وأحاط بها الجنود المسلحون من كل مكان، فعلى الرغم مما فيها من كنوزٍ وجواهر مودعةٍ إلاَّ أن اللصوص لا يفكرون باقتحامها، ولا يرد ذلك على خواطرهم، ولا يضعون ذلك في خططهم بسبب ما يعلمون من شدة الحراسة، ويقظة الجند الذين أوكلت إليهم الحراسة في هذه القلعة.
ويقول: مثل ذلك مثل المؤمن اليقظ المتنبه لمداخل الشيطان، الذي قد أغلق كل مدخل وثغرة يمكن أن يلج منها الشيطان، ووضع على كل ثغرة حارساً يحرسها.
القسم الثاني: مثل البيت الذي فيه جواهر وكنوز لكنَّ الحراسة فيها ضعفٌ أو غفلةٌ، فاللصوص ينتهزون الفرص، ويبحثون عن الثغرات، إما أثناء غفلات الحراس، أو من مراكز الضعف في هذه الحراسة، فيلجون لنهب هذه الجواهر والكنوز، وكذلك المؤمن الذي في قلبه إيمان وطاعة، لكنه لم يتنبه لمنافذ الشيطان، ولم يتيقظ لمداخله، فهو يلج إليه مرة بعد أخرى، ويعكِّر عليه صفو إيمانه، وينال من هذا الإيمان مرة بعد أخرى، فإن تيقظ المؤمن وتنبه، وأقام الحراسات المشددة على هذه الثغرات، وأصلح ما وقع فيها من خلل، فعند ذاك بإذن الله سيدفع هذه الغزوات والهجمات، وإن غفل عنها وكثرت فسيصبح -والعياذ بالله- في يوم من الأيام، وقد سرقت جميع كنوزه وجواهره.
القسم الأول: فلا يفكر الشيطان أن يقترب منهم، وقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن عمر ما سلك طريقاً، إلا سلك الشيطان طريقاً آخر، لا يفكر الشيطان في أن يسلبه شيء، بل أصبح يفر منه فراراً، بعكس الآخر الذي يزين له ويوقعه في بعض المعاصي والذنوب كما سنرى بعد قليل.
القسم الثالث: مثل بيت خرب، لا يوجد فيه شيء، ولا يحرسه أحد، قال: وهذا لا يفكر فيه اللصوص، فهم لا يجدون فيه شيءً ألبتة، وهذا مثل من ليس فيه خير أبداً.
الأول: مثل من ارتقى وكمل.
والثاني: مثل من فيه خير ولم يُقِم ما يحمي هذا الخير.
والثالث: من قد فرغ منه الشيطان والعياذ بالله.
ويحدثنا القرآن الكريم عن هذا التصوير العجيب البديع الذي يذكره الإمام ابن القيم رحمه الله، في ذلك الحوار الذي كان بين الله سبحانه وتعالى وبين الشيطان حين قال: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً [الإسراء:62-64] ثم يأتي في النهاية إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [الإسراء:65] هذا هو الصنف الأول.
هذا العدو ملحاحٌ لا ييئس، بل يحاول مرةً بعد أخرى أن يوقع الإنسان، فإن ظفر من الإنسان بغنيمة كبرى بمقاييسه، وإلا تنازل وطلب غنيمة أقل، فإن لقي ذلك وإلا تنازل وتنازل وتنازل، فهو لا ييئس أبداً ما دام الإنسان حياً، ولا يحتقر شيئاً يظفر به من هذا الإنسان، وإن كان يحاول -بادئ ذي بدء- أن يوقع الإنسان في قاصمة الظهر التي لا تقوم له بعدها قائمة.
دعوة الإنسان إلى الكفر
دعوة الإنسان إلى الابتداع
دعوة الإنسان إلى إتيان الكبائر
فإن لم يظفر بتخليد من يحاول معه في النار، حاول على الأقل أن يدخله النار.
دعوة الإنسان إلى ارتكاب الصغائر
دعوة الإنسان إلى الانشغال بالمباحات عن الطاعات
عجيب! يصبح العدو الماكر اللئيم فقيهاً، حريص على توازنك في هذه الحياة، وعلى أن لا تظلم إنساناً في هذه الحياة، وعلى أن لا تظلم نفسك فيها أيضاً.
إن لم يستطع أن يدخل الإنسان إلى النار حاول على الأقل أن يمنعه من الارتقاء إلى الدرجات العلى في الجنة.
دعوة الإنسان إلى الانشغال بالمفضول عن الفاضل
وإن كان من أهل المعاصي، شغله بالمعاصي والشهوات والرغبات والأهواء، حتى يضيِّع عليه صلاته، ويكسبه السيئات.
وإن كان من أهل المباحات، شغله بالدار .. بالمزرعة .. بالسيارة .. بالمشروع.
وإن كان من أهل الطاعات، أتاه من هذا الباب، فوسوس له وبدأ: إذا انتهيت من هذا الموقف، سأذهب وأقرأ جزئين من القرآن، وأحفظ عشرة أحاديث، وألقي محاضرة في مكان كذا، وأستمع لشريط كذا، وأفعل كذا وكذا، مشاريع خيِّرةً عجيبةً تغطي شهراً أو عاماً كاملاً من حياته، وهو يريد فقط أن يضيع عليك هذه العبادة الفاضلة.
فإذا وجد لديك من العزم ما يدخلك في العبادة الأخرى التي شغلك بها، والتي علم أنك لن تشغل إلاَّ بها، شغلك -أيضاً- عنها بغيرها، وهكذا يتنقل بالإنسان من موقعٍ إلى موقعٍ، حتى يقلل من أجره إن لم يستطع أن يحبط عمله.
ومداخله كثيرة -أيها الأحبة في الله-:
السمع: مدخل، والبصر: مدخل، والفرج: مدخل، والبطن: مدخل، واللسان: مدخل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) إذاً: هو عدو ليس بينك وبينه أسوارٌ محصَّنةٌ، بل يمكن أن يلج إلى داخلك ويصل إلى قلبك، وأنت تحتاج إلى سلاحٍ داخليٍ تحارب به هذا العدو، وتحتاج أن تتعرف -بادئ ذي بدء- إلى الأسباب التي يغري بها ويغرق حتى يسقط الإنسان من القمة الشامخة، سواء أوصله إلى أعلى السفوح أو إلى الهاويات السحيقة، أو جرحه بعض الجروح، وجعله يتدحرج على سفوح هذه القمة، ويمنعه من الوصول إليها مرة أخرى.
استمع المزيد من الدكتور عوض القرني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الإقبال على الله وضوابطه[1-2] | 2529 استماع |
الإيمان وأثره في الحياه | 2019 استماع |
العبودية لله | 1948 استماع |
عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد العبادة (1، 2) | 1779 استماع |
العبودية لله | 1476 استماع |
صور من حياة الصحابة | 1262 استماع |
القوة الضالعة في الأحداث الراهنة | 1211 استماع |
الاعتدال في المنهج | 1126 استماع |
سماحة الإسلام | 1107 استماع |
نظرة عقائدية للنظام العالمي الجديد (1، 2) | 269 استماع |