الإقبال على الله وضوابطه[1-2]


الحلقة مفرغة

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، تقدست أسماؤك، وتعالت صفاتك، ولا إله إلا أنت سبحانك.

أيها الأحبة في الله! نسأل الله سبحانه وتعالى -وقد جمعنا في هذا المكان الطيب الطاهر- أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرزقنا علماً، وأن يزيدنا بعلمنا عملاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أيها الأحبة في الله! الموضوع الذي أشار الشيخ -جزاه الله خيراً- إليه وهو (الإقبال على الله سبحانه وتعالى أسبابه وضوابطه) من الموضوعات التي يجدر بطلبة العلم والدعاة والمسلمين عموماً أن يتحدثوا عنها خاصة في مثل هذه الأيام، فالعالم كله يعيش والحمد لله ظاهرة واضحة جلية بينة في عودة الناس إلى ظلال الإيمان، وأصفياء الهدى، ورحاب الدين، الدين السماوي الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

والناس ما بين مستبشر بهذه العودة وهذا الإقبال، يبالغ فيعطيها أكثر من حجمها، وما بين منكر ومحارب ومحاد لها، وأجدر الناس بمعرفة الأمر على حقيقته هم دعاة وشباب الإسلام الذين يعلمون أن الله سبحانه وتعالى قد كلفهم بحمل رسالتهم في هذه الحياة، وأن هذا الإقبال الذي يتحدث عنه القاصي والداني قبولاً أو رفضاً، تأييداً أو رداً، إنما هو في النهاية شيء مما وعد الله به المؤمنين من النصر والتمكين، والعلو والظهور في هذه الحياة.

فلنحاول في هذه اللحظات أن نلقي شيئاً من الضوء على هذه القضية المهمة، مؤصلين ذلك قدر الإمكان تأصيلاً شرعياً، يستدل ويستظل ويستنير بهدي الكتاب والسنة، ثم نحاول -أيها الأحبة في الله- بعد ذلك أن نتلمس خطانا في هذا الطريق، وأن نتجنب المزالق التي قد يضعها في طريقنا أعداؤنا من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، الذين يبذلون جهودهم الخبيثة من أجل الحيلولة بين الإسلام والمسلمين.

إن هذه القضية -أيها الأحبة في الله- ليست من القضايا الجديدة على واقع المسلمين، فإن التالي لكتاب الله سبحانه وتعالى، والمتبع لهدي نبيه صلى الله عليه وسلم على وعد من الله سبحانه وتعالى بأن هذا الدين سيبقى ظاهراً منتصراً، وإذا ظن الناس في بعض الأزمنة والدهور أن شأنه قد انتهى، وأن دوره قد انقضى، فما ذاك إلا إرهاصات لدور جديد يبدؤه هذا الدين في هذه الحياة، يحدثنا عن ذلك كتاب الله سبحانه وتعالى فيقول: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] .

فهذا الدين مبدؤه من الله سبحانه وتعالى، هو الذي شرعه وأنزله، وكلف به، وأتمه سبحانه وتعالى، ليس للأنبياء والمرسلين إلا دور التبليغ والبيان والإيضاح، أما مصدر هذا الدين العظيم فهو فاطر الأرض والسماوات، وإذا استمد غير المسلمين توجهاتهم وعقائدهم وأفكارهم وتصوراتهم، وأنظمة حياتهم من فلسفات بشرية، وأنظمة وضعية، وقوانين ناقصة محكومة بقصور الإنسان الذي لا يتجاوز زمانه ولا مكانه، فإن المسلمين ينهلون من دين خالد تحدث الله سبحانه وتعالى عنه، فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] .

والذي أنزل هذا الدين هو الذي وعد سبحانه وتعالى بأنه سيظهره على جميع الأديان والمبادئ والمناهج، ظهوراً كاملاً شاملاً جليلاً واضحاً، حتى وإن كره ذلك أعداء الإسلام، وخططوا دون ذلك، وبذلوا الجهود دون ذلك، فلن يغلب الله سبحانه وتعالى أحد، بل الله هو الغالب سبحانه وتعالى، وتأتي الآيات تؤكد هذا المعنى مرة بعد أخرى، فيقول الحق سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .

ويخطر على البال في هذه اللحظات كلمة لأحد علماء الإسلام عندما قال له أحد أحبار اليهود أو النصارى في الأندلس أيام أن كانت تستظل بظل الإسلام، يقول: ألا تزعمون أن التوراة والإنجيل نزلت من الله سبحانه وتعالى؟ قال: بلى، قال: وتزعمون أن كتابكم نزل من الله سبحانه وتعالى؟ قال: بلى. قال: فلماذا جوزتم أن يقع التحريف والتغيير والتبديل في التوراة والإنجيل، ولم تجوزوا ذلك في الكتاب الذي بين أيديكم؟ فتفكر ذلك العالم المسلم ملياً ثم قال: إن الله سبحانه وتعالى وكل حفظ التوراة والإنجيل إلى البشر، فهي في أصلها من الله، لكنها في حفظها أوكلت إلى البشر، فجاز عليها نقص وتقصير البشر، فوقع فيها التحريف والتبديل والتغيير، أما قال سبحانه وتعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44] أما هذا الدين فقد وكل الله حفظه إلى نفسه سبحانه وتعالى، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .

أمران يترتب عليهما النصر من الله سبحانه وتعالى

إذاً أيها الأحبة في الله! فالأمر الذي نلاحظه في هذا الزمن، والذي أتى بعد أن يئس بعض الناس من عودة الأجيال إلى دين الله، هو في الحقيقة تأكيد وتنفيذ وتحقيق لوعد رباني تكفل الله سبحانه وتعالى به، يقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ... الآية [النور:55] هذا وعد من الله سبحانه وتعالى رتبه على أمرين فقط: على حصول الإيمان والعمل الصالح، والتوجه الصادق إلى الله سبحانه وتعالى إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] .

لا يستدعي الأمر وجود قوى مادية أخرى، وإذا كان ذلك ضروري فسييسره الله سبحانه وتعالى، لا يستدعي الأمر زيادة تدبير وتخطيط وتنفيذ، إلا ما يقتضيه مجرد الإيمان والعمل لهذا الدين، هذا شرط وذاك جوابه، وهذا وعد وتلك نتيجته، هذه مقدمة وتلك خاتمتها، إيمان وعملٌ صالح يأتي بعد ذلك ظهور الدين الإسلامي في هذه الأرض، والتمكين لأهله.

ثم يحدثنا القرآن الكريم عن أن هذه سنة كونية لا تتخلف ولا تتبدل، حصلت في أجيال إثر أجيال، وستبقى تحصل ما بقيت هذه الحياة، كلما وجد المؤمنون الذين يعملون الصالحات تحقق لهم وعد الله سبحانه وتعالى، ويقول سبحانه وتعالى مبيناً أن إعراض الناس عن دين الله لا يعني أن دين الله قد ضاع، ولا أن هذا الدين قد انتهى وتلاشى، إنما الناس هم الذين سيخسرون ويذهبون، يفقدون السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، والتوفيق الإلهي الرباني في الدنيا والآخرة، أما دين الله وقد تكفل الله بحفظه، فسيبعث الله له أقواماً آخرين يحملونه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] .

إذاً أيها الأحبة في الله! فالأمر الذي نلاحظه في هذا الزمن، والذي أتى بعد أن يئس بعض الناس من عودة الأجيال إلى دين الله، هو في الحقيقة تأكيد وتنفيذ وتحقيق لوعد رباني تكفل الله سبحانه وتعالى به، يقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ... الآية [النور:55] هذا وعد من الله سبحانه وتعالى رتبه على أمرين فقط: على حصول الإيمان والعمل الصالح، والتوجه الصادق إلى الله سبحانه وتعالى إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] .

لا يستدعي الأمر وجود قوى مادية أخرى، وإذا كان ذلك ضروري فسييسره الله سبحانه وتعالى، لا يستدعي الأمر زيادة تدبير وتخطيط وتنفيذ، إلا ما يقتضيه مجرد الإيمان والعمل لهذا الدين، هذا شرط وذاك جوابه، وهذا وعد وتلك نتيجته، هذه مقدمة وتلك خاتمتها، إيمان وعملٌ صالح يأتي بعد ذلك ظهور الدين الإسلامي في هذه الأرض، والتمكين لأهله.

ثم يحدثنا القرآن الكريم عن أن هذه سنة كونية لا تتخلف ولا تتبدل، حصلت في أجيال إثر أجيال، وستبقى تحصل ما بقيت هذه الحياة، كلما وجد المؤمنون الذين يعملون الصالحات تحقق لهم وعد الله سبحانه وتعالى، ويقول سبحانه وتعالى مبيناً أن إعراض الناس عن دين الله لا يعني أن دين الله قد ضاع، ولا أن هذا الدين قد انتهى وتلاشى، إنما الناس هم الذين سيخسرون ويذهبون، يفقدون السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، والتوفيق الإلهي الرباني في الدنيا والآخرة، أما دين الله وقد تكفل الله بحفظه، فسيبعث الله له أقواماً آخرين يحملونه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] .

إذاً أيها الأحبة في الله! فنحن في أشد الحاجة إلى أن نلتجئ إلى دين الله سبحانه وتعالى، وليس دين الله هو الذي يحتاج إلينا وإلى جهدنا وجهودنا، فنحن عندما نعمل ونبذل وندعو ونجاهد وننفق ونقيم حياتنا على مقتضى دين الله، ليس لأن دين الله في حاجة لنا، ولكن لأننا نحن في أشد الحاجة إلى دين الله سبحانه وتعالى.

بل يحدثنا القرآن الكريم عن أن الذين يرتدون عن دين الله سبحانه وتعالى، أن الله سبحانه وتعالى سيستبدلهم بقوم آخرين، سيأتي الله سبحانه وتعالى بقوم يحبهم ويحبونه، والله سبحانه وتعالى هو الذي نقل الرسالة من أمة إلى أمة، أما كانت النبوة والرسالة في بني إسرائيل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم؟ وقد حدثنا القرآن في أكثر من موضع، أن الله قد فضلهم وشرفهم وكرمهم على العالمين، وعندما تولوا -وكان الأنبياء يسوسونهم ويقودون حياتهم- عندما تولوا عن دين الله وأعرضوا عنه لم يكن بينهم كما قال الفاروق لـسعد بن أبي وقاص : [يا سعد بن وهيب ! لا يغرنك أن يقال: خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بين الله وبين أحد نسب إلا بالتقوى] عندما تولوا لعنهم الله سبحانه وتعالى على ألسنة أنبيائه وفي كتبه، ونقل فضله ونعمته من هذه الأمة إلى أمة أخرى.

وقد حدثنا القرآن كثيراً عن بني إسرائيل وذكر قصصهم وأنبياء بني إسرائيل، وحدثنا عن نتيجة بني إسرائيل، ونهايتهم حين أعرضوا عن دين الله سبحانه وتعالى ليس ذلك عبثاً، وليس ذلك لتجزئة الأوقات، إنما لكي نتعظ ونعتبر، ولكي نأخذ العبرة والعظة، ثم تأتي آية الله سبحانه وتعالى العظيمة الباهرة، هذه الأمة التي حدثنا عنها كثيراً، وحدثنا عما نزل بها من العقاب بسبب إعراضها عن الله سبحانه وتعالى، فعندما تعرض أمة الإسلام عن دين الله تؤدب بأدب هذه الأمة التي تحدث عنها في كتاب الله كثيراً.

ويأتي اليهود ويحتلون جزءاً من بلاد المسلمين، ويحتلون مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذون أولى القبلتين وثالث الحرمين، وما كأننا حدثنا عنهم في القرآن، وهذا تأديب، لكن تأديب لمن بقي في قلوبهم ذرة من الإيمان، حتى يتيقظوا ويتنبهوا، هذه الأمة التي نحدث عنها كثيراً، ونحذر، ويبين لنا حالها، لم نؤدب بأي أمة من الأمم إلا بها هي فقط، لكي نعود إلى الله سبحانه وتعالى.

ويحدد القرآن مرة أخرى هذه الحقيقة اليقينية، والسنة الكونية التي لا تتخلف أبداً، فيقول سبحانه وتعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21] .

إذاً أيها الأحبة في الله! هذه الغلبة التي يتحدث عنها القرآن الكريم لو أخذت على أنها فقط في حياة الأنبياء والمرسلين لما تحققت الغلبة، كما عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد النبوة ثلاثة وعشرين عاماً، فلو كانت كما يفهمها بعض أهل الفهم الظاهري السطحي البسيط، أن هذه الغلبة فقط هي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أن الغلبة له ولرسوله لما تحقق هذا الوعد من الله سبحانه وتعالى، كم هي مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة بالنسبة لغيره؟ لكن الغلبة تتحقق بظهور دينه ورسالته من بعده، ظهوراً غالباً في هذه الحياة، حتى يتحقق فيه وعد الله، بأنه هو الغالب وهو الظاهر وهو المسيطر في هذه الحياة.

وهذا الظهور وهذه الغلبة وهذا الوعد من الله سبحانه وتعالى بأن الناس جيلاً بعد جيل سيفيئون إلى دين الله تتحقق بأمرين:

الأمر الأول: هو ظهور الحجة والبرهان، وهذا الدين في ذاته، وأن يعترف أعداء هذا الدين بأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد حصل هذا الاعتراف قديماً وحديثاً، وسيحصل ما بقي هذا الدين وبقيت هذه الحياة، اعترف به الذين حادوه وجحدوه وقاتلوه، اعترفوا بأنه هو الحق في ذاته، ولكن لأهوائهم وشهواتهم ورغباتهم التي سقطوا أمامها وسيطرت عليهم حادوا ونابذوا ما علموا أنه الحق.

وهانحن أيها الأحبة! حتى في زمن ضعف المسلمين، وفي كل عصر نرى الناس يقبلون على دين الله سبحانه وتعالى، ويتوجهون إليه، ويتوجه إلى دين الله من بلغوا أعلى التخصصات العلمية -كما سنرى بعد قليل- في زمن يقول الناس فيه: إن العلم هو إله عصرهم وزمانهم، وإذا بسدنة هذا الصنم الذي نصبه الناس لكي يعبدوه يدخلون في دين الله سبحانه وتعالى كما دخل سحرة فرعون، وخروا لله سبحانه وتعالى سجداً.

هذا الظهور الأول، وهو ظهور في ذات الدين، أي: يجعل من يبحث عن الحقيقة يعترف بأنه هو الحق المطلق الذي لا يأتيه ولا يخالطه الباطل، ولا يتطرق إليه الشك كما حدثنا الله سبحانه وتعالى عنه، وكما بلغه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم.

والظهور الآخر: هو ظهور أهل هذا الدين بالتمكين في الأرض الذي تحدثت عنه الآية قبل قليل، والاستخلاف في الأرض، وقيادة البشرية إلى نور الله سبحانه وتعالى وهديه، وهذه الحقيقة التي يحدثنا عنها القرآن الكريم، ويحدثنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم كما سنرى بعد قليل في أحاديث شتى، حصلت مرات ومرات في هذا التاريخ، لو أردنا أن نتحدث عن سير الأنبياء والمرسلين مع أممهم وأقوامهم لرأينا العجب العجاب، يأتي رجل ضعيف لا يملك شيئاً، ويصدع بهذا الدين وبهذا الحق، ويواجه سلطاناً قوياً، قد يدعي الربوبية وقد يدعي الألوهية، يملك الجنود والقوى المادية الرهيبة، ويواجهه هذا الإنسان الذي لا يملك إلا دعوة الحق يرددها، ولا يملك إلا أن يدعوهم إلى الدخول في دين الله سبحانه وتعالى، وبجميع المقاييس المادية يحكم الناس بأن الغلبة لذلك السلطان، معه الجيوش الجرارة، وراءه الأمم تتبعه، والحضارات العريقة والأجيال، والقوى المادية الرهيبة، والسلطان والجبروت، ولكن تكون النتيجة في النهاية أن النصر يكون لأنبياء الله سبحانه وتعالى ورسله.

النبي صلى الله عليه وسلم وانتصاره على قومه

وخذوا أي مثال من سير الأنبياء والمرسلين، وخذوا سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي كان يسمى في مجتمعه بالأمين الهادئ الوديع، الذي كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، والذي كان يذهب عن الناس ويختلي بنفسه في الغار، والذي لم يكن له صلة قوية لكي يشارك في أحداث الحياة، ويتنزل عليه هذا الوحي الإلهي، ويخرج لا يملك أي قوة في هذه الحياة، إلا أن يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله، وتقف الدنيا كلها في وجه هذا الرجل، يقف في وجهه الأقربون والأبعدون، وتلقى في طريقه جميع التهم، وتثار جميع العقبات، يحارب في سمعته، وينال من عرضه، ساحر مجنون كاهن شاعر، يفرق بين المرء وزوجه، ويؤذى في بدنه، ويؤذى أصحابه، وهو لا يملك إلا أن يقول لهم: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.

ومن يتوقع أن هذا الرجل وقد خرج في هجرته مشرداً طريداً تبذل الجوائز لمن يأتي برأسه، وعندما يلتقي بأعرابي يبحث عنه لكي ينال مائة ناقة، يقول له: (كيف بك يا سراقة ! إذا سورت بسواري كسرى؟) من الذي يتحدث بهذا؟! ومن الذي يقول هذا؟! إلا من سكبت في قلبه حقيقة الوحي الإلهي من رب العالمين، فيصبح يرى بنور الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] .

وتتدرج الأحداث حدثاً بعد حدث، ومرة بعد أخرى، وإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب الغلبة والنصر، وتتهاوى تحت أقدام تلاميذه وأصحابه الحفاة العراة العالة رعاء الشاء عروش الأكاسرة والقياصرة، ويعلي الله شأنهم، ويظهر دينهم، لم يأت صلى الله عليه وسلم بحضارة ومدنية جديدة، لم يقم المصانع، ولم يخترع الأسلحة، ولم يشتر أحدث الأسلحة، ولم يقم المزارع والسدود، أتت هذه كلها تبعاً بعد ذلك، إنما جاء بهذا الدين وحده، وأظهر الله به هذه الأمة بهذا الدين وحده، وجعلها سيدة الأمم في هذه الحياة.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقتاله لأهل الردة

وتتكرر هذه في تاريخ أمته بعده صلى الله عليه وسلم، فحين توفي صلى الله عليه وسلم ولحق بربه، وظن الناس الذين لم يفقهوا القضية فقهاً حقيقياً صادقاً أن الأمر هو أمر وقدرة وعبقرية محمد، فأجلب كثير من الناس بالردة عن دين الله سبحانه وتعالى، ويظهر ذلك الرجل الذي اصطفاه الله سبحانه وتعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلن تلك الكلمة الخالدة: [أينتقص الدين وأنا حيّ! والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة] وقال: [والله لأقاتلنهم ما استمسك سيفي في يدي حتى يظهر الله دينه، أو أنفرد بهذه السالفة] أي: هذه الرقبة، ويعلي الله سبحانه وتعالى دينه مرة أخرى.

صلاح الدين الأيوبي وانتصاره على الصليبيين

لو أردنا أن نتنقل في التاريخ الإسلامي لرأينا العجب العجاب، ففي أيام هجمة الصليبيين المنكرة بعد أن احتلوا جزءاً واسعاً من بلاد الشام، بل احتلوا ربما بلاد الشام قاطبة، وأصبحوا يفكرون في الوصول إلى الحجاز ، وظهر نور الدين زنكي عليه رحمة الله، وما كان أقوى الأمراء في زمانه ولا أقوى السلاطين، لكن الحقيقة التي لا يجادل فيها اثنان من أهل التاريخ أنه كان أصلح الأمراء والسلاطين في زمنه عليه رحمة الله، ويكون من ثمرات ذلك السلطان الصالح خروج تلميذ له آخر هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله، فيصفي ذلك العضو المريض الذي دخل في جسم الأمة المسلمة، يبتر الدولة الفاطمية من أرض مصر ، ثم يتوجه فيحقق الله سبحانه وتعالى على يديه النصر، ويخرج الصليبيين بعد أن مكثوا أكثر من مائة عام في بلاد الشام .

صلاح الدين الأيوبي -أيها الأحبة في الله- لم يفعل شيئاً جديداً، إنما جمع الناس على كلمة لا إله إلا الله، وكان قلبه يحترق على دين الله، كان يقول له جلساؤه: ما لك لا تتبسم؟ فيقول: إني لأستحي من الله أن أتبسم ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم في يد النصارى.

شيخ الإسلام ابن تيمية مجدد الإسلام

شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، وقد جاء في فترة تاريخية سوداء مظلمة في حياة الأمة، تمزقت الأمة أمماً شتى، وسيطرت عليها البدع التي دخلت من شرق ومن غرب، وأبعد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وبدأ هذا الرجل يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بفعله وقوله وكتابه وجهاده وعمله، ويحاول أن يرد الناس إلى دين الله سبحانه وتعالى، مجرداً من كل قوة إلا من قوة الإيمان والحق الذي يحمله على كاهليه ويدعو إليه، وتنتهي تلك الظلمات، ويبقى ذلك النور متجدداً، لقد مات شيخ الإسلام في السجن ضعيفاً ومجرداً من كل قوة، لكن هاهي آثاره بين أيدينا، وهاهم تلاميذه أجيال الإسلام من بعده يتربون على دعوته التي جددها كما جددها قبله كثير من أئمة الإسلام.

لو أردنا أن نسأل الناس من الذي كان يحكم بلاد الإسلام في عهد ابن تيمية ؟ لما عرف ذلك إلا المتخصصون، ولو أردت أن تسأل عوام الناس عن دعوة ابن تيمية وحياته، لأجابك عن ذلك حتى ربما الأطفال، إنه الظهور الذي حدثنا الله سبحانه وتعالى عنه، والذي حفظ الله به سبحانه وتعالى هذا الدين، هذه هي -أيها الأحبة- بعض الأمثلة، ولو أردنا أن نتحدث لطال بنا الحديث.

العز بن عبد السلام وقوته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

العز بن عبد السلام عليه رحمة الله أحد علماء الإسلام، وكان بعد زمن صلاح الدين الأيوبي ، وقبل شيخ الإسلام ابن تيمية ، لما جاء بعض السلاطين في بلاد الشام، وتحالف مع الصليبيين على سلطان مصر، وكلهم من المسلمين سلطان الشام وسلطان مصر ، وتحالف سلطان الشام مع الصليبيين على سلطان مصر على أن يتنازل لهما عن بعض مدن بلاد الشام، فيقوم العز بن عبد السلام وله قبل ذلك جهود معروفة مشكورة في تربية الأمة وردها إلى دين الله، فيقوم يخطب في الجامع الأموي، ويعلن أن المسلمين لا يجوز لهم أن يطيعوا هذا الحاكم الذي باع دين الله سبحانه وتعالى، وباع أرض المسلمين، فيأمر الحاكم باعتقاله، وعندما يعتقله ويرى الناس قد ضجوا، يرسل إليه بعض خاصته، فيعرضون على الشيخ ويقولون: إن السلطان يرضى منك بأن تقبل يده أمام العامة، ويلقي عنك هذه القيود ويطلقك.

فيقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتليتم به، والله ما أرضى أن يقبل هذا قدمي فضلاً عن أن أقبل أنا كفه، فيضطرون لإطلاقه ويذهب إلى أرض مصر، وأول ما ينـزل فيها، يأتي وإذا بالخمر يباع علناً في أرض مصر، فينتظر الفرصة لكي يلتقي بسلطان مصر فلا يجد عليه طريقاً، وعندما يخرج سلطان مصر في موكبه ويوم العيد، وأمام الناس وفي زينته، وكان لا يجرؤ أحد على أن يكلمه، يقف على قارعة الطريق ثم ينادي بأعلى صوته: يا أيوب! وكان اسمه السلطان أيوب، ويلغي الألقاب كلها، يناديه باسمه مجرداً، فيقف ذلك السلطان، ويسل الحرس سيوفهم، ويلتفت الناس من هذا الذي تجرأ على أن ينادي على السلطان بهذه الصفة، فيقول له العز بن عبد السلام مرة أخرى: ماذا تقول لله سبحانه وتعالى إذا لقيته وقد استخلفك في أرضه فعصيته، وسمحت بأن يباع الخمر في أرضك؟ فيقول: من هذا؟ فيقولون: هذا العز بن عبد السلام ، فيقول: لقد كان ذلك من السلطان الذي قبلي، قال: أتقول كما قال الأولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] .

قال: وبماذا تأمر يا شيخ؟ قال: أن تأمر بإزالته في هذا الوقت، فيأمر بإزالته، ثم يقع مرة أخرى شيء من المنكر، فيقوم هذا العالم فينكر على السلطان في مصر ، ويأمره وينهاه، فيغلظ له في القول، فيأخذ أثاثه على حماره ويخرج، فتجلب مصر كلها في أثر العز بن عبد السلام ، كل قرية تنادي القرية الأخرى، وكل حي ينادي الحي الآخر، فيسمع السلطان الجلبة، فيقول: ماذا حصل؟ فيقولون: خرج العز بن عبد السلام بملكك على حماره، فيقول: اذهبوا إليه سلوه ماذا يريد؟ قال العز بن عبد السلام : لن أعود من مكاني هذا حتى يغير المنكر الذي قام في أرض مصر .

العز بن عبد السلام كان من ثمار دعوته ومن تلاميذه المظفر قطز الذي هزم الله على يديه التتار في موقعة عين جالوت ، حين اكتسحوا العالم الإسلامي من حدود الصين إلى أن وصلوا إلى بلاد الشام، ودمروا مئات المدن وقتلوا الملايين، قتلوا في بغداد وحدها أكثر من مليون ونصف أو مليونين من المسلمين، وانتهت الجيوش الجرارة، جيوش كانت تُعد مئات الألوف، ولقيهم المظفر قطز في جيش قليل عدته قليلة من المماليك، وكان في رمضان وكان صائماً -تربية إيمانية صادقة، رباه وأعده عليها العز بن عبد السلام - وعندما خشي الهزيمة ما صاح ولا جزع على نفسه، إنما جزع على دينه، فألقى خوذته ورمى درعه، وصاح في وسط الجيش: وا إسلاماه! وا إسلاماه! فكان النصر الذي أنزله الله سبحانه وتعالى عليه.

أيها الأحبة! هذه بعض الأمثلة التي تؤكد لنا أن ما وعد الله سبحانه وتعالى به قد وقع في تاريخ أمتنا، بل قد وقع في تاريخ الرسالات كلها.

وخذوا أي مثال من سير الأنبياء والمرسلين، وخذوا سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي كان يسمى في مجتمعه بالأمين الهادئ الوديع، الذي كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، والذي كان يذهب عن الناس ويختلي بنفسه في الغار، والذي لم يكن له صلة قوية لكي يشارك في أحداث الحياة، ويتنزل عليه هذا الوحي الإلهي، ويخرج لا يملك أي قوة في هذه الحياة، إلا أن يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله، وتقف الدنيا كلها في وجه هذا الرجل، يقف في وجهه الأقربون والأبعدون، وتلقى في طريقه جميع التهم، وتثار جميع العقبات، يحارب في سمعته، وينال من عرضه، ساحر مجنون كاهن شاعر، يفرق بين المرء وزوجه، ويؤذى في بدنه، ويؤذى أصحابه، وهو لا يملك إلا أن يقول لهم: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.

ومن يتوقع أن هذا الرجل وقد خرج في هجرته مشرداً طريداً تبذل الجوائز لمن يأتي برأسه، وعندما يلتقي بأعرابي يبحث عنه لكي ينال مائة ناقة، يقول له: (كيف بك يا سراقة ! إذا سورت بسواري كسرى؟) من الذي يتحدث بهذا؟! ومن الذي يقول هذا؟! إلا من سكبت في قلبه حقيقة الوحي الإلهي من رب العالمين، فيصبح يرى بنور الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] .

وتتدرج الأحداث حدثاً بعد حدث، ومرة بعد أخرى، وإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب الغلبة والنصر، وتتهاوى تحت أقدام تلاميذه وأصحابه الحفاة العراة العالة رعاء الشاء عروش الأكاسرة والقياصرة، ويعلي الله شأنهم، ويظهر دينهم، لم يأت صلى الله عليه وسلم بحضارة ومدنية جديدة، لم يقم المصانع، ولم يخترع الأسلحة، ولم يشتر أحدث الأسلحة، ولم يقم المزارع والسدود، أتت هذه كلها تبعاً بعد ذلك، إنما جاء بهذا الدين وحده، وأظهر الله به هذه الأمة بهذا الدين وحده، وجعلها سيدة الأمم في هذه الحياة.

وتتكرر هذه في تاريخ أمته بعده صلى الله عليه وسلم، فحين توفي صلى الله عليه وسلم ولحق بربه، وظن الناس الذين لم يفقهوا القضية فقهاً حقيقياً صادقاً أن الأمر هو أمر وقدرة وعبقرية محمد، فأجلب كثير من الناس بالردة عن دين الله سبحانه وتعالى، ويظهر ذلك الرجل الذي اصطفاه الله سبحانه وتعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلن تلك الكلمة الخالدة: [أينتقص الدين وأنا حيّ! والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة] وقال: [والله لأقاتلنهم ما استمسك سيفي في يدي حتى يظهر الله دينه، أو أنفرد بهذه السالفة] أي: هذه الرقبة، ويعلي الله سبحانه وتعالى دينه مرة أخرى.

لو أردنا أن نتنقل في التاريخ الإسلامي لرأينا العجب العجاب، ففي أيام هجمة الصليبيين المنكرة بعد أن احتلوا جزءاً واسعاً من بلاد الشام، بل احتلوا ربما بلاد الشام قاطبة، وأصبحوا يفكرون في الوصول إلى الحجاز ، وظهر نور الدين زنكي عليه رحمة الله، وما كان أقوى الأمراء في زمانه ولا أقوى السلاطين، لكن الحقيقة التي لا يجادل فيها اثنان من أهل التاريخ أنه كان أصلح الأمراء والسلاطين في زمنه عليه رحمة الله، ويكون من ثمرات ذلك السلطان الصالح خروج تلميذ له آخر هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله، فيصفي ذلك العضو المريض الذي دخل في جسم الأمة المسلمة، يبتر الدولة الفاطمية من أرض مصر ، ثم يتوجه فيحقق الله سبحانه وتعالى على يديه النصر، ويخرج الصليبيين بعد أن مكثوا أكثر من مائة عام في بلاد الشام .

صلاح الدين الأيوبي -أيها الأحبة في الله- لم يفعل شيئاً جديداً، إنما جمع الناس على كلمة لا إله إلا الله، وكان قلبه يحترق على دين الله، كان يقول له جلساؤه: ما لك لا تتبسم؟ فيقول: إني لأستحي من الله أن أتبسم ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم في يد النصارى.

شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، وقد جاء في فترة تاريخية سوداء مظلمة في حياة الأمة، تمزقت الأمة أمماً شتى، وسيطرت عليها البدع التي دخلت من شرق ومن غرب، وأبعد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وبدأ هذا الرجل يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بفعله وقوله وكتابه وجهاده وعمله، ويحاول أن يرد الناس إلى دين الله سبحانه وتعالى، مجرداً من كل قوة إلا من قوة الإيمان والحق الذي يحمله على كاهليه ويدعو إليه، وتنتهي تلك الظلمات، ويبقى ذلك النور متجدداً، لقد مات شيخ الإسلام في السجن ضعيفاً ومجرداً من كل قوة، لكن هاهي آثاره بين أيدينا، وهاهم تلاميذه أجيال الإسلام من بعده يتربون على دعوته التي جددها كما جددها قبله كثير من أئمة الإسلام.

لو أردنا أن نسأل الناس من الذي كان يحكم بلاد الإسلام في عهد ابن تيمية ؟ لما عرف ذلك إلا المتخصصون، ولو أردت أن تسأل عوام الناس عن دعوة ابن تيمية وحياته، لأجابك عن ذلك حتى ربما الأطفال، إنه الظهور الذي حدثنا الله سبحانه وتعالى عنه، والذي حفظ الله به سبحانه وتعالى هذا الدين، هذه هي -أيها الأحبة- بعض الأمثلة، ولو أردنا أن نتحدث لطال بنا الحديث.

العز بن عبد السلام عليه رحمة الله أحد علماء الإسلام، وكان بعد زمن صلاح الدين الأيوبي ، وقبل شيخ الإسلام ابن تيمية ، لما جاء بعض السلاطين في بلاد الشام، وتحالف مع الصليبيين على سلطان مصر، وكلهم من المسلمين سلطان الشام وسلطان مصر ، وتحالف سلطان الشام مع الصليبيين على سلطان مصر على أن يتنازل لهما عن بعض مدن بلاد الشام، فيقوم العز بن عبد السلام وله قبل ذلك جهود معروفة مشكورة في تربية الأمة وردها إلى دين الله، فيقوم يخطب في الجامع الأموي، ويعلن أن المسلمين لا يجوز لهم أن يطيعوا هذا الحاكم الذي باع دين الله سبحانه وتعالى، وباع أرض المسلمين، فيأمر الحاكم باعتقاله، وعندما يعتقله ويرى الناس قد ضجوا، يرسل إليه بعض خاصته، فيعرضون على الشيخ ويقولون: إن السلطان يرضى منك بأن تقبل يده أمام العامة، ويلقي عنك هذه القيود ويطلقك.

فيقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتليتم به، والله ما أرضى أن يقبل هذا قدمي فضلاً عن أن أقبل أنا كفه، فيضطرون لإطلاقه ويذهب إلى أرض مصر، وأول ما ينـزل فيها، يأتي وإذا بالخمر يباع علناً في أرض مصر، فينتظر الفرصة لكي يلتقي بسلطان مصر فلا يجد عليه طريقاً، وعندما يخرج سلطان مصر في موكبه ويوم العيد، وأمام الناس وفي زينته، وكان لا يجرؤ أحد على أن يكلمه، يقف على قارعة الطريق ثم ينادي بأعلى صوته: يا أيوب! وكان اسمه السلطان أيوب، ويلغي الألقاب كلها، يناديه باسمه مجرداً، فيقف ذلك السلطان، ويسل الحرس سيوفهم، ويلتفت الناس من هذا الذي تجرأ على أن ينادي على السلطان بهذه الصفة، فيقول له العز بن عبد السلام مرة أخرى: ماذا تقول لله سبحانه وتعالى إذا لقيته وقد استخلفك في أرضه فعصيته، وسمحت بأن يباع الخمر في أرضك؟ فيقول: من هذا؟ فيقولون: هذا العز بن عبد السلام ، فيقول: لقد كان ذلك من السلطان الذي قبلي، قال: أتقول كما قال الأولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] .

قال: وبماذا تأمر يا شيخ؟ قال: أن تأمر بإزالته في هذا الوقت، فيأمر بإزالته، ثم يقع مرة أخرى شيء من المنكر، فيقوم هذا العالم فينكر على السلطان في مصر ، ويأمره وينهاه، فيغلظ له في القول، فيأخذ أثاثه على حماره ويخرج، فتجلب مصر كلها في أثر العز بن عبد السلام ، كل قرية تنادي القرية الأخرى، وكل حي ينادي الحي الآخر، فيسمع السلطان الجلبة، فيقول: ماذا حصل؟ فيقولون: خرج العز بن عبد السلام بملكك على حماره، فيقول: اذهبوا إليه سلوه ماذا يريد؟ قال العز بن عبد السلام : لن أعود من مكاني هذا حتى يغير المنكر الذي قام في أرض مصر .

العز بن عبد السلام كان من ثمار دعوته ومن تلاميذه المظفر قطز الذي هزم الله على يديه التتار في موقعة عين جالوت ، حين اكتسحوا العالم الإسلامي من حدود الصين إلى أن وصلوا إلى بلاد الشام، ودمروا مئات المدن وقتلوا الملايين، قتلوا في بغداد وحدها أكثر من مليون ونصف أو مليونين من المسلمين، وانتهت الجيوش الجرارة، جيوش كانت تُعد مئات الألوف، ولقيهم المظفر قطز في جيش قليل عدته قليلة من المماليك، وكان في رمضان وكان صائماً -تربية إيمانية صادقة، رباه وأعده عليها العز بن عبد السلام - وعندما خشي الهزيمة ما صاح ولا جزع على نفسه، إنما جزع على دينه، فألقى خوذته ورمى درعه، وصاح في وسط الجيش: وا إسلاماه! وا إسلاماه! فكان النصر الذي أنزله الله سبحانه وتعالى عليه.

أيها الأحبة! هذه بعض الأمثلة التي تؤكد لنا أن ما وعد الله سبحانه وتعالى به قد وقع في تاريخ أمتنا، بل قد وقع في تاريخ الرسالات كلها.