خطب ومحاضرات
القساوة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
اعلموا أيها الإخوة! أن القلوب قد تقسو، وأن الأرواح قد تجف، وإذا قست القلوب وجفت الأرواح فقد المرء خيراً كثيراً؛ ولذلك سمى علماؤنا من السلف الصالح الأبواب والكتب التي تجمع الآيات والأحاديث التي تزيل قساوة القلوب وترقق الأرواح: (بالرقائق).
فقلما تجد كتاباً من كتب الحديث إلا وتجد فيه باباً للرقائق، فيذكرون فيه قيمة هذه الدنيا وسرعة زوالها، ويذكرون فيه الموت وأهواله، والقبر وفتنته وعذابه، ويذكرون البعث والنشور والجنة والنار، وما جاء في ذلك من الأخبار الصادقة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يديم تذكير أصحابه بهذه الحقائق، فترق قلوبهم، وتدمع أعينهم، وتخشع أنفسهم، ويخبتون إلى ربهم تبارك وتعالى.
وقد وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً يحدث أصحابه فقال: (أيها الناس! إنكم تحشرون حفاةً عراةً غرلاً)، ثم قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].
أيها الناس! اذكروا يوماً ترجعون فيه إلى الله تبارك وتعالى، فتبعثون فيه من قبوركم كما ولدتكم أمهاتكم، فقد جئتم إلى الدنيا لا تملكون ثوباً أو نعلاً، بل جئتم فرادى، وكذلك تبعثون، فتبعثون حفاةً ليس في أرجلكم نعال، عراةً ليس على أجسادكم ما يواري سوءاتكم، غرلاً كما خلقكم الله غير مختونين.
ثم قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، فمصير هذه الدنيا إلى زوال، ومصير البشر إلى فناء، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].
ثم بعد الفناء بعث ونشور، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، بل إن هذه الأرض الثابتة الراسية، وتلك الجبال الشم الشامخة، وهذه النجوم التي تنتثر في صفحة السماء، وهذه الشمس التي تشرق في كل يوم، وهذا القمر الذي يضيء سماءكم، كل ذلك يصير إلى زوال.
أما الأرض والجبال فتحملان وتدكان دكة واحدة، كما قال تعالى: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة:14] فتصبح الجبال كثيباً مهيلاً كالرمل الناعم بعد أن كانت صلبةً قاسيةً لا تؤثر فيها المعاول ولا الفئوس.
ثم تنسف وتزول فتصبح هباء منثوراً، كما قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:105-108].
يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ثم تصبح الأرض مستوية، فلا ترى فيها جبالاً عاليةً ولا وديان ووهاداً، بل تصبح أرضاً مستوية بارزة ظاهرة، وعندها لا يستطيع الإنسان أن يختفي تحت صخرة أو تحت شجرة أو في غار، قال تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا [إبراهيم:21] فالجميع ظاهرون وبارزون.
أما الشمس فإنها تكور وتلف ويذهب ضوءها، وتنكدر نجوم السماء فتنتثر نجومها وينفرط عقدها، كما قال سبحانه: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ [الانفطار:2] فتنتثر كواكب السماء وتتساقط، فينفرط هذا العقد الذي يربطها، وتطمس النجوم ويذهب ضوءها.
حدث عظيم، وأهوال مرعبة، وليس الخبر كالمعاينة، فنحن عندما نسمع الحديث قد يؤثر فينا تأثيراً قوياً أو تأثيراً ضعيفاً، ولكن الذين يشاهدون الحدث يذهلون كأنما هم سكارى، كما أخبر الحق تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].
مع أن الأم أحن ما تكون على طفلها إذا كان رضيعاً، ومع ذلك فهي تذهل عنه، وتسقط الحامل حملها لشدة الرعب والفزع، ويشيب الطفل الصغير الذي لم يبلغ السنة من عمره، كما قال تعالى: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل:17-18].
وفي ذلك اليوم يجمع الله الأولين والآخرين، فينادي إسرافيل في الصور كما قال سبحانه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [ق:41] فيقول: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة إن الله يأمركن أن تجتمعن، فتجتمع العظام ثم تكسى لحماً، ثم تخرج كما قال سبحانه: يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق:44].
فعندما ينادي المنادي ترى العجب الأعظم حينما ينبت إنسان من هنا كالنبات بل أسرع منه، كما قال تعالى: فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51]، وقال: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ [طه:108] فيجيبونه لا يتخلف أو يعتذر منهم أحد كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95]، كتاب عند الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأعدها.
حتى إن الإنسان الذي مات في الصحراء فأكلت لحمه الطيور، وأخذت منه السباع، وغيبت بقيته الأرض، يعيده الله تبارك وتعالى إذا شاء حياً كما كان، فيعيده جسداً سوياً، ثم ينفخ في الصور فتعود إليه الروح كما قال تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].
فصعقة تميت، وصعقة تحيي، ثم يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ويجمع الله الأولين والآخرين: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ [الواقعة:49-50] فيجمع الأولون من آدم إلى آخر رجل وجد على ظهر هذه الأرض، ثم يوقفون بين يدي الله تبارك وتعالى فيحاسبهم على ما قدموا، أذلاء، ناكسي رءوسهم، خاشعين، خائفين، جاحظة عيونهم، لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:43]، فلا يدرون ماذا يراد بهم، ولا يستطيعون نطقاً أو كلاماً، فالحقيقة فوق كل شيء.
وكلنا ذلك الرجل الذي سيكون هناك، وكلنا سيقف ذلك الموقف، وكلنا سيمر بيوم عسير، قال الله تعالى: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52]، ويقول الكافرون في ذلك اليوم وهم يخرجون من الأجداث: هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:8] أي: هذا يوم شديد، فمهما كانت الدنيا حلوةًً، وزهرتها جميلة، وأيامها طويلةًًً، فلن تساوي في ذلك اليوم شيئاً.
فيظن الناس أنهم ما لبثوا فيها إلا أياماً أو يوماً، ويظنون أنها لمحة بالنسبة لذلك اليوم الطويل الرهيب، فلمثل ذلك اليوم فليعد الناس، يوم يحتاج فيه إلى الزاد، فإما أن يكسوك إيمانك وعملك الصالح وينجيك وإما أن يوبقك.
جاء في الحديث: (إن كل إنسان يبعث على ما مات عليه)، فإن مت على الإيمان والتقى والصلاح والجهاد والصبر والطاعة بعثت كذلك، فمن مات في الحج مثلاً فإنه يبعث من قبره ملبياً، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يموت على المعاصي يبعث عليها، كذلك قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].
ومن منع زكاة ماله فإنه يعذب به، فتجعل له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره ويقال له: هذا ما كنزت، وهذا الذي بخلت به وهو حق الله تبارك وتعالى، فيعذب به في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وكذلك الجبابرة الطغاة الظلمة الفجرة الذين يسفكون دماء العباد ويتكبرون عليهم، ويستكبرون عن اتباع الحق الذي أنزل من السماء، يحشرون أمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الذين يديمون المشي إلى الصلوات في الظلمات فإنهم يحشرون ولهم نور عظيم، كما يخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك الذين يتحابون في الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والذين ينفقون على العباد ويفرجون كرباتهم يفرج الله كرباتهم في ذلك اليوم: (ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
قد جاء في الحديث: (أن رجلاً كان يداين الناس، فسئل يوم القيامة: هل لك من حسنة؟ قال: يا رب! كنت أداين الناس فأقول لعمالي: تجاوزوا عن هذا لعل الله أن يتجاوز عنا يوم القيامة، فيقول الحق: أنا أحق من يسر؛ تجاوزوا عنه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الذين يعدلون وينصفون من أنفسهم في أولادهم وأزواجهم وجيرانهم وأهليهم ومن تحت يدهم، على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين.
وأما الذين يغدرون ولا يوفون فإنه لكل واحد منهم لواء ويقال: هذه غدرة فلان في يوم كذا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك اليوم يظهر المخفي ويفضح المستور.
ويؤتى بآكلي أموال المسلمين حاملين ما غلوه وأكلوه، كما يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرجل يأتي بالبعير على رقبته وله رغاء فيقول: يا محمد! أغثني أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك.
وكذلك الذي يحمل فرساً على رقبته وله حمحمة، والذي يحمل بقرة ولها خوار، والذي يحمل شاةً، وكذلك الذي يغل الذهب والفضة فإنه يحمله على ظهره، كما قال تعالى: يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [الأنعام:31].
فهؤلاء الذين يتصرفون في أموال المسلمين من غير قيد أو ضابط، ومن دون خشية لله تبارك وتعالى، يعذبون يوم القيامة بهذه الأموال التي اكتسبوها وأخذوها بغير حق.
ولو ذهبت تتصفح كتاب الله فلن تجد صفحةً خاليةً من ذكر الآخرة، ولو تصفحت الكتب التي جمعت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فلن تجد باباً إلا وفيه حديث أو أحاديث تحدثك عما سيكون لك في قبرك وفي بعثك ونشورك، ثم المصير النهائي.
وحسبك بهذا ذكرى لمن كان له قلب، ولمن كانت نفسه حية، ولمن كان يخشى أن يقف بين يدي الله تبارك وتعالى.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
استمع المزيد من الدكتور عمر الأشقر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
النجاة من الفتن | 2408 استماع |
كيف تستعيد الأمة مكانتها | 2297 استماع |
فتاوى عن الجماعات الإسلامية والجهاد | 2286 استماع |
أضواء العمل الإسلامي | 2212 استماع |
اليوم الآخر | 2190 استماع |
الانحراف عن المسيرة الإسلامية | 2160 استماع |
إخلاص النية | 2160 استماع |
مع آيات في كتاب الله | 2140 استماع |
أسباب الجريمة وعلاجها | 2123 استماع |
قيمة الاهتمام في زيادة الإيمان | 2104 استماع |