ثمَّة صراع طائفي ومذهبي في منطقتنا
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
شئنا أم أبينا، أحببنا أم كرهنا، فإن الأحداث الدائرة في سوريا اليوم دفعت إلى الواجهة بعض أبعاد الصراع المتحكمة في خلفية المشهد، والتي يسعى كثيرون إلى التقليل من حجمها وأثرها في تكييف وصياغة المعادلة في المنطقة ككل.
صحيح أن الكفاح الشعبي السوري ضد نظام طاغ وباغ ومجرم يندرج ضمن سياق ما تعورف عليه بـ(الربيع العربي)، فالسوريون كغيرهم من الشعوب العربية عانوا وذاقوا -كما لا يزال الحال في جلّ الفضاء العربي- الأمرّين تحت نظام حكم شمولي وقمعي ومتخلف، غير أن ما يميز الحالة السورية عن مثيلاتها العربية هو أن المعادلة الطائفية والمذهبية أطلت برأسها سريعا في سياقه، ورأينا الاصطفافات في المنطقة تقوم على أساس من هذه المعادلة.
فإيران التي هللت ورحبت بقطار (الربيع العربي) المنطلق من تونس مرورا بمصر وليبيا واليمن، ادعت أن هذا (الربيع) ما هو إلا امتداد لـ(ربيع) ثورتها عام 1979، متباهية في ذلك بالدور الإلهامي -الذي زعمته- لتلك الثورة التي أسقطت نظام الشاه، ومع أننا لا نجادل في عظمة تلك الثورة الشعبية التي أسقطت نظام الشاه الطاغوتي والعميل للإمبريالية الغربية في فضاء المنطقة، إلا أن زعم إيران ذاك فيه كثير من العسف والتجني، فكثير من شباب الثورات العربية اليوم لم يكن قد ولد أصلا عندما أطاحت ثورة إيران بشاهها.
بل إن جيل الثورات العربية اليوم عاصر وعرف إيران أكثر بأدوارها المقيتة في كل من العراق وأفغانستان والبحرين واليمن وسوريا، كما أنه -وللأمانة- عاصر بعض الأدوار المشرفة لها، كما في دعم مقاومتيْ الشعبين الفلسطيني واللبناني، وإن لم تخلُ بعض هذه الأدوار المشرفة من حسابات طائفية وسياسية كما في لبنان عبر دعمها لحزب الله الشيعي، وحسابات سياسية في دعم المقاومة الفلسطينية في غزة التي عادت لتعاقبها بسبب رفض حماس الوقوف مع نظام الأسد في قمعه للشعب السوري.
ومن الضروري هنا التنبيه والتذكير بأن جلّ جماهير الأمة المسلمة بسنيّيها وشيعتها وقفت مع حزب الله خلال تصديه للعدوان الإسرائيلي عام 2006، ولم تلق غالبية تلك الجماهير بالاً يذكر لبعض تلك الفتاوى الصدئة التي صدرت من قبل قلة من المشايخ السنيين وحرمت مجرد التعاطف مع حزب الله على أساس أنه حزب (رافضي).
غير أن حزب الله وإيران من ورائه انحازا لحضن الطائفة على حساب حضن الأمة عندما خيّرا بين الاثنين في سوريا، وبالتالي فإنه لم يعد بمقدور إيران ولا حزب الله التخندق وراء ذريعة مقاومة إسرائيل في لبنان ودعم المقاومة الفلسطينية، والتصدي للسياسات الإسرائيلية والأميركية في المنطقة، كما أن نظام الأسد لم يعد بمقدوره التلفع بذريعة (النظام الممانع) لتبرير مجازره بحق شعبه.
وبرز علوُّ الحس الطائفي والمذهبي لدى إيران وحزب الله -بل والشيعة عموما- في المنطقة عندما تناقض موقفهم مما جرى ويجري في البحرين -حيث ثمة حراك شيعي ضد النظام السني الحاكم هناك- مع ما يجري اليوم في سوريا.
ففي الحالة الأولى ندب الإعلام الإيراني والعراقي (المتشيع) وإعلام حزب الله على الجرائم والقمع الممارس بحق (الشعب البحريني)، في حين أخذ موقف المنافح والمدافع عن نظام بشار الأسد (النصيري العلوي) في سوريا.
لسنا ممن ينكر أن في البحرين ظلما وعسفا، ولكن أن يقارن ذلك بما يجري من مجازر وحشية ودموية في سوريا فإن هذا فيه نفاق صارخ.
أيضا، من حق السنة في البحرين وفي المنطقة عموما أن يخشوا أي صعود شيعي في دولهم، فدرس العراق ما بعد غزوه واحتلاله وتمكن الشيعة فيه حاضر وسافر لا يخطئه إلا فهم قاصر.
لقد اختار العراق المسيطـَر عليه شيعياً اليومَ أن ينكص بالعراق إلى الحقبة البويهية الشيعية التي أحكمت قبضتها على العراق من قبل (945-1062م)، فعملت على ضعضعت الخلافة العباسية السنية أكثر، وأيقظت فتن الصراع الطائفي والمذهبي في العراق، ولم تهدأ الأمور نسبيا في العراق إلا عندما أسقط السلاجقة -الأتراك السنة- حكم البويهيين.
عراق اليوم اقتفى أثر وروح الثورة الإيرانية من قبل التي تحولت من ثورة (إسلامية) ضد الفساد والطغيان والعمالة والارتهان للخارج، إلى ثورة تعلي من شأن الطائفة والمذهب على حساب الأمة والإسلام الجامع.
ويكفي أن نذكر هنا أن غالبية جماهير الأمة -والغالبية سنية بالطبع- وقفت إلى جانب ثورة آيات الله الشيعة ضد نظام الشاه السني المجرم والعميل للأجنبي.
لقد انحازت غالبية السنة تاريخيا لمفهوم الأمة والدين الجامع، في حين بقي الشيعة في الغالب الأعم أسارى منطق الطائفة وأوهام ثارات تاريخية تُحَمِّلُ السُنة أوزار الدماء الزكية للشهيدين، الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وابنه الحسين رضي الله عنه وأرضاه كذلك.
ويكفي أن نذكر هنا أن إيران كانت بغالبية سنية إلى أن قام إسماعيل الصفوي بتشييعها بحد السيف والقهر مطلع القرن السادس عشر الميلادي.
إن هذا المقال لا يهدف إلى استدعاء ثارات تاريخية، ولا إلى نكء جراح لم تندمل يوما، كما أنه لا يهدف لتأجيج نار التوتر الطائفي في المنطقة، ولكنها محاولة للتذكير بأن تاريخ العلاقات السنية الشيعية لم يكن في الغالب الأعم سلميا وهادئا، بغض النظر عن هوية المعتدي وهوية المعتدى عليه في كل مرحلة ومفصل زماني ومكاني.
والاصطفاف الجاري في سوريا وحول سوريا اليوم، هو في جزء كبير منه (فثمة معادلات دولية وإقليمية أخرى) اصطفاف طائفي ومذهبي، مع عدم إنكارنا أن ثمة مؤامرة تستهدف سوريا الدولة.
فما معنى أن يكون حلفاء سوريا الإقليميون هم إيران وعراق المالكي وحزب الله؟ وما معنى أن يتحول النظام في سوريا إلى سياسة التطهير الطائفي في المناطق المحيطة بجبال العلويين على الساحل السوري؟ وما معنى أن يركن النظام في قمعه لثورة الشعب السوري إلى قواته ومليشياته المسيطـَر عليها من قبل العلويين (النصيريين الشيعة).
هل نحن بحاجة إلى التذكير هنا بالتوتر الذي طبع علاقات نظام الأسد مع حكومة المالكي وإلى حدود أشهر قليلة قبل وصول رياح التغيير العربي إلى سوريا؟
في تلك الفترة كانت حكومة المالكي تشتكي من أن النظام السوري هو من يقف وراء التفجيرات التي كانت تهز العراق، وكاد عراق المالكي يقدم شكوى ضد سوريا أمام مجلس الأمن، وفجأة يتحول عراق المالكي إلى حليف إقليمي لنظام الأسد بعد أن كادت عواصف التغيير السورية تجتثه من جذوره.
كيف يمكننا تفسير ذلك؟ هل يمكننا هنا إغفال البعد الطائفي للمسألة؟
يقول البعض منا إن تصعيد التوتر السني/ الشيعي في المنطقة تقف وراءه قوى غربية -على رأسها الولايات المتحدة، فضلا عن إسرائيل- وأن ذلك يتم عبر أنظمة سنية في المنطقة حليفة للغرب.
هذا القول فيه الكثير من الصحة، وإن لم يستوعب كل أبعاد المسألة.
أيضا يقول ذلك البعض إنه ليس من مصلحة المنطقة ولا العرب ولا الإسلام والمسلمين أن ينفجر الصراع في داخل جسد الأمة، خصوصا ونحن نواجه تحديات خارجية وأخطارا محدقة بالأمة ككل، وهذا أيضا كلام صحيح ودقيق.
أبعد من ذلك يجادل ذلك البعض بأن التصعيد مع إيران يهدف بالدرجة الأولى لإضعافها وحرف الانتباه عن العدوان الإسرائيلي في المنطقة، وهذا أيضا نسلم به، ولكن ما يغفله ذلك البعض هو أن إيران والشيعة عموما في المنطقة لا يتركون لنا مجالا لإحباط هذه المؤامرات ضدنا وضدهم، وضد منطقتنا العربية والإسلامية ككل.
إنهم يعيشون سكرات (هزيمة) عدوهم التاريخي (السنة).
إن جماهير السنة لا تثق ببعض الأنظمة الفاسدة المتدثرة بلبوس (سني) زائف، ولكنها أيضا لا تكاد تجد فرصة لالتقاط الأنفاس لتوجيه طاقتها نحو العدو الحقيقي للأمة وأدواته في المنطقة، وعجز الأمة عن التقاط أنفاسها عائد في جزء منه لاستعجال جزء واسع من التيار الشيعي في المنطقة لالتقاط ثمار نصره الوهمي على التيار السني السائد في تاريخ الأمة والإسلام.
المسألة ببساطة لا تتعلق بدعم نظام ممانع في سوريا، بقدر ما أنها تتعلق بالحفاظ على نظام ينتمي للطائفة الشيعية وفرقها الكثيرة، والدليل هو أن النظام الشيعي المتحكم في العراق اليوم لا ينطبق عليه وصف (الممانع)، فهو قد نُصِّبَ حاكما في أغلب أجزاء العراق بعون من ( الشيطان الأكبر) الأميركي، حسب الأدبيات الإيرانية.
ومع ذلك فإن إيران تعتبره نظاما حليفا وقريبا منها، أوَ بعد ذلك شك في أن المسألة هي جزء من مشروع طائفي ومذهبي في المنطقة؟!
المشكلة ليست في وعي الأمة بجمهورها السني الأعم، لقد عشنا تاريخيا -وما زلنا- منطق وفسحة الأمة في مقابل تقوقع الآخر في ضيق وعنت الطائفة.
لقد وَسِعنا الكل تاريخيا -الآخر الديني والآخر المذهبي- بما لا ينفي وقوع مظالم هنا وهناك، ولكنهم ضاقوا بغيرهم تاريخا وحاضرا.
ومع احترامي لكثير من (مفكرينا) الذين أرهقونا بضرورة التنبه إلى المؤامرة الكبرى التي تستهدف الأمة بكل مكوناتها، فنعم، ثمة مؤامرة كبرى تستهدفنا جميعا وتتوسل في سبيل ذلك ضرب بعضنا ببعض واستنزاف بعضنا بعضا، ولكن ماذا نفعل والآخر المذهبي قد اغترَّ بوهم قوته اليوم وها هو يحمل السكين يوجه بها الطعنات لهذا الجسد؟!
أكثر من ذلك، ينبغي أن نعترف بأن من بين (مفكرينا) اليوم من اشترتهم إيران عبر فتح مراكز دراسات لهم وعبر تمويلهم وتلميعهم، هذا لا يعني أن أنظمة سنية أخرى لا تقوم بذات الأدوار التخريبية، ومحاولة السطو على وعينا وفكرنا وثوراتنا، ولكن هذه الأنظمة لا تدعي أنها أنظمة رسالية ثورية كما تفعل إيران، ولا بد أن يأتي يوم يلفظها فيه الجسد ذاتيا، كما لفظ ويلفظ بعضها الآن.
ولكن في حالة إيران والتشيع عموما فإنهما يعيشان بموازاة هذا الجسد كما أنهما يعيشان فيه، وبالتالي فإن مسألة التعامل معهما أكثر صعوبة في حال اختارا إحداث التخريب والأذى.
وعودة إلى موضوعة المؤامرة الكبرى على الأمة، وهي كما سبق القول حقيقة قائمة، وتوظف للأسف الحساسيات الطائفية والمذهبية في صراعها مع هذه الأمة، فلقد عشنا من قبل هذا في تاريخنا.
فحين كانت الأمة تتصدى للغزو الصليبي كان إسقاط (الخلافة الفاطمية) الإسماعيلية الشيعية الفاسدة الحاكمة لمصر شرطا موازيا ومعادلا لإسقاط (ممالك المدن) السنية الضعيفة والمهترئة، وذلك في أفق توحيد الصف الإسلامي للتصدي لذلك الغزو الصليبي وهزيمته لاحقا.
أيضا، حين كانت الدولة العثمانية تتصدى لمحاولات التوسع الأوروبي الاستعماري في السواحل العربية والإسلامية في القرن السادس عشر الميلادي، فإنها أيضا اضطرت لتأديب الدولة الصفوية الشيعية في إيران التي سعت للتحالف مع الأجنبي المعتدي.
وهنا قد يقول قائل: "وماذا عن الدولة المملوكية السنية التي اصطدمت بالدولة العثمانية في ذات الوقت ، وحاولت التحالف مع الصفويين ضد العثمانيين؟" مرة أخرى! ما انطبق على المماليك من قبل، هو ما تسعى الثورات العربية للقيام به اليوم من تطهير فناء البيت من كل الفاسدين والطغاة والمرتهنين للخارج، ولكن الذي يعيش في فناء البيت ويملك امتدادات خارجية يبقى يشكل خطرًا أكبر.
أعلم أن هذا المقال قد يجيء بمثابة صب للزيت على نار مشتعلة، ولكننا لا نريد أن ننسى أن ثمة نارًا مشتعلة أصلا، وأن من أشعلها ومن ينميها هو الطرف الآخر، وأنها قادرة على الاستمرار والتوسع حتى دون زيتنا.
فهل ندين من يساهم مضطرًا في توسعة نطاق النار أكثر قليلا، وننسى من أطلق شرارتها الأولى ويحرص على توسعتها لتحرق الأخضر واليابس؟!
إذا كان في التاريخ من عبرة، فعلينا أن نعتبر بأننا لم نحسم نصرًا تاريخيًا دون تطهير بيتنا أولا وتأمينه..، وإذا كان في التاريخ من حكمة فإن على الشيعة أن يستوعبوا أنهم وإن علت لهم يد ردحًا من زمن فإنها لا تلبث أن تنكسر إن امتدت إلى حضن الأمة المتسع للجميع.
فيكفي إخوتنا من الشيعة عويلاً على أحداث تاريخية إما افتعلت وإما ضخمت..، وكفى إساءات لرموز الإسلام من الصحابة وزوجات الرسول الطاهرات العفيفات..، وكفى إيضاعًا خلال الأمة..، وكفاهم دعمًا لنظام بشار الأسد المجرم..، لا لشيء إلا لأنه ينتمي لإحدى الفرق الشيعية!
أسامة أبو أرشيد