التراث العقائدي


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

السيد/ وزير الأوقاف والشئون الإسلامية.

إخواني الذين لبيتم دعوتنا لافتتاح المؤتمر الأول لجمعية إحياء التراث الإسلامي.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إخواني وأخواتي! بالنيابة عن جمعية إحياء التراث الإسلامي، أود أن أشكر السيد/ وزير الأوقاف والشئون الإسلامية على تفضله بافتتاح هذا المؤتمر، وأشكر الأخوة العلماء على تلبيتهم دعوة الجمعية لإلقاء المحاضرات، وأرحب بالإخوة الذين قدموا من خارج الكويت ومن داخلها لمشاركتنا هذا الحفل.

وبعد:

فإن المتابع لأحوال المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يرى أن العالم الإسلامي قد وصل الى درجة كبيرة من الشتات والوهن والضعف، فقد تمزقت أمة الإسلام وتفرقت كلمة المسلمين، وأصبحوا فريسة لأعدائهم من شرقيين وغربيين، يسومونهم المذلة في كل مكان، وها نحن نرى ونسمع كل يوم ما يحل بالمسلمين من نكبات، ففي فلسطين يشرد اليهود البقية الباقية من الشعب الفلسطيني، وفي أفغانستان يشرد الأعداء شعباً وأمة، وفي كل مكان يلحق المسلمين الذل والهوان، ولما كان آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وهو أن نربي جيلاً جديداً على الكتاب والسنة، وأن تسري في المسلمين روح جديدة تعيد للأمة شبابها ونظارتها، وإن كان هناك بحمد الله صحوة إسلامية مباركة في كل العالم الإسلامي، إلا أن جمعية إحياء التراث الإسلامي أيضاً قافلة جديدة تستهدف نشر تراث أمتنا الإسلامية الخالدة، وبعث علومها وأخلاقها وآدابها وعقيدتها؛ ليكون ذلك هادياً ومرشداً لشباب الأمة المتوجه نحو الدين؛ حتى لا تتفرق بهم السبل وتختلف عليهم الطرق.

وإن قيام جمعية إحياء التراث هو دليل جديد بحمد الله على أن أمتنا عازمة أن تصل حبل آخر هذه الأمة بماضيها المجيد، ليكون في الأمة أمثال خالد وأبي عبيدة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، الذين حملوا مشاعل النور والهداية، وراية المجد والعزة، فالإسلام لم يعد نقياً صافياً كما أنزل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أدخل فيه كثير مما ليس منه وخاصة في مجال العقيدة، ولعل الصفة الغالبة اليوم على أغلب المسلمين عدم وضوح العقيدة في أذهانهم، هذا إن لم تكن الصفة الغالبة عليهم الانحراف العقائدي، لذا لا بد من بيان ومعرفة العقيدة السليمة الصافية، كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم معرفة العقائد والأفكار الدخيلة على الإسلام، انطلاقاً من قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].

إنني ما انتدبت إلى الحديث في موضوع من الموضوعات إلا وأحسست أن من حق الذين انتدبوني والذين يسمعون لي أن أعطي الموضوع حقه، فأنا أعلم كم من الوقت يبذله الذين يحضرون لمثل هذه المؤتمرات والمحاضرات، وأعلم أن وقت الذين يحضرون هذه المحاضرات ثمين، فالوقت هو الحياة، وقد ازداد إحساسي بثقل المسئولية في هذا الموضوع الذي أتكلم فيه، إذ أنه موضوع خطير.

إن العقيدة هي الأساس التي تقوم عليه الأديان والمذاهب والمبادئ، وقد قيل قديماً: (الإنسان أسير أفكاره ومعتقداته) ولا زالت عقائد البشر هي التي تسيرهم، ومن خلالها ينظرون إلى الوجود والحياة والمجتمعات الإنسانية، وعلى أساسها يقيمون الأنظمة والقوانين، ويضعون القواعد والقيم والموازين.

ولم يزل المستبدون والطغاة يتلاعبون بعقائد الناس؛ لتتيسر لهم السيطرة عليهم، فعلى الرغم من أنني كتبت في موضوع العقيدة عدة مؤلفات، إلا أن خطورة الموضوع الذي أتناوله تفرض علي أن أعود إلى التفكير فيه مرة أخرى، وأعود للنظر في التراث العقائدي وفي مصادره، ولقد نظرت في هذا التراث نظرتين:

نظرة في التراث الإنساني، ونظرة في التراث الإسلامي، وعشت مع المؤلفات التي تعرضت لعقيدة هذين التراثين وقتاً ليس بالقصير، ولقد رأيتني وأنا أجول بنظري وفكري في كتب التراث كرجل قابع فوق قمة جبل على شاطئ بحر لجي محيط، وأنا أنظر في عقائد أهل الملل والنحل في القديم والحديث، وكيف نشأت وتفرعت؟ ثم كيف تلاشت وفنيت؟.

فتخيلوا أنني ذلك الرجل الذي يشاهد أمواج البحر، فإذا هي لا تحصى كثرة، وهي تنشأ وتتلاشى، ثم تتعارض وتتصادم، وهي في ذلك كله لا تتوقف لحظة، بل كل الذي يحدث أن البحر قد يهدأ في بعض الأحيان فتكون الأمواج هادئة، وقد يثور فإذا بالأمواج كالظلل أو كالجبال، ولست مبالغاً في الوصف، بل هي الحقيقة التي أدركتها.

ومن طالع ما كتبه الكاتبون في تاريخ العقائد، وما كتبوه في تاريخ الفكر الإنساني، وما كتب في الملل والنحل يعلم صدق ما أقوله.

وإن كثرة المذاهب والعقائد والفرق جعلت الفكر الإنساني لا يدري أين يسير؟ وماذا يأخذ وماذا يدع؟ فالعقيدة لا تقوم كما نعلم على الشك والحيرة والتردد، بل تحتاج إلى اليقين الصادق الذي يقوم على الأدلة والبراهين، التي لا تجد النفس لها مدفعاً، والتي تأسر النفوس وتخضع لها العقول.

الفكر الإنساني لا يستطيع أن يقيم من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تأريخ الإنسان وواقعه أصولاً توقفه على اليقين المنافي للشك، والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يحسن العقل الإنساني النظر فيه.

إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه؛ لأنها نفسه، ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كل ما زاد بحثه عنها، فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها، فليس لها وزن ولا لون ولا حجم، ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية، فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها؟ لذلك قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] .

إذا كان هذا هو شأن الإنسان مع الروح التي تسري في كيانه، وهي سر حياته، فما بالكم في البحث العقلي المجرد عن خالق الوجود، وعن العوالم التي لا نراها ولا نشاهدها، وعن العوالم التي سيصير إليها الإنسان بعد الموت كالبرزخ واليوم الآخر؟ إن الإنسان لا يمكن أن يصل في أمرها إلى قرار، وسيبقى طيلة عمره حائراً متردداً.

ومتى لم يجد الإنسان برد اليقين في معرفة الحقائق التي يمكن أن يقيم عليها حياته، والتي يمكن أن تفسر له وجوده، وترسم له مساره في الحياة وغايته التي يرمي إليها، وتوضح له علاقته بالقوة التي أوجدته وأوجدت الكون، فإنه سيعيش في شقاء، وسيضل المسار في حين أنه يظن في بعض الأحيان أنه بلغ الغاية، وشارف المقصد، وأوشك أن يصل، ثم يكتشف أن ذلك وهم من الأوهام، ويفاجأ بالأجل وقد أدركه، ثم ينظر فلا يجد أنه قد حقق في رحلته ما كان يصبو إليه.

إقحام العقل فيما لا مجال له فيه لا يؤدي إلى نتيجة

ولن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي الوحي من الفلاسفة والمفكرين، ولكنني سأحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئاً ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا ورائه طويلاً.

فهذا الرازي وهو أحد هؤلاء، وقد عانى في مسيره كثيراً من العنت، ثم يعلن أخيراً أنه لم يصل إلى شيء، وكان قد ابتعد عن المنهج القرآني النبوي، وجرى وراء نتائج العقول الإنسانية، فلم تقده الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ووجد في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب، إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه ( أقسام اللذات ) أشم منها رائحة النواح والحزن الصاعد من قلب مكلوم، فقد قال:

نهاية إقدام العقول عقـــال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وغاية دنيانا أذى ووبــال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فاطر:10] ، وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ويختم حديثه قائلا: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

ويصور لنا كذلك عبد الكريم الشهرستاني ، وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علم الملل والنحل، حال أصحاب الكلام في علوم العقائد، في مقدمة كتابه ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) فيقول:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سـن نادم

ولا أنسى الجويني ، وهو الذي كان يدعى بـ(إمام الحرمين) وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، ولما حضره الموت إذا به ينظر في مساره في الحياة، وينظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، فلقد أضاع الكثير من عمره في مسار لم يصله إلى مراده، لقد كان يخوض في بحر خضم من أفكار وعقائد وموازين لا يقر قلب من خاضها على قرار، فإذا به يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول:

لقد دخلت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.

وهذا عالم آخر من علماء الكلام، يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئاً، فيعلن ذلك لمن حوله ويقول:

اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئاً.

الوحي هادٍ للعقل الإنساني العاجز

إن الله العليم القدير الحكيم هو الذي خلقنا، وهو أعلم بنا من أنفسنا، فهو يعلم أننا بحاجة إلى معرفته لأنه خالقنا، ويعلم أن نفوسنا لا يمكن أن يقر لها قرار ما لم تعرف الذي خلقها، وما لم تعرف الطريق إليه، ويعلم كذلك أن العقل الإنساني الذي وهبه لنا لا يمكن أن يصل بنفسه إلى معرفة صفات وأسماء خالقه وإلهه، ولا يعلم كيف يعبده.

فتكفل لأبينا آدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض أن يمد ذريته من بعده بالنور والهدى، وهو الوحي الذي يعرفهم بربهم، وبالحقائق الكبرى التي لا بد لهم منها، وتكفل أيضاً لمن اتبع نوره المنزل على الأنبياء بالخلاص من الضلال الذي يعيش فيه البشر، وبالنجاة من الشقاء الذي تتردى فيه القلوب والنفوس، وقد توعد الرافضين لوحيه وهداه بالحياة الضنكة الشقية في الدنيا، وفي الآخرة توعده بحياة أشد ضنكاً وشقاء.

قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].

وقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].

ولقد بقيت البشرية بعد أن هبط آدم إلى الأرض، وتكاثرت ذريته على التوحيد، فكان الناس أمة واحدة، ولكن البشر فيما بعد ضلوا في إلههم ومعبودهم، فعبدوا من دونه أولياء؛ فاتخذوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، فكانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، فأرسل الله لهم أول رسله، وهو نوح عليه السلام، فأنذرهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما يعبد من دونه، فآمن له قليل واستكبر منهم الكثير، فأهلكهم الله تعالى.

ولن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي الوحي من الفلاسفة والمفكرين، ولكنني سأحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئاً ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا ورائه طويلاً.

فهذا الرازي وهو أحد هؤلاء، وقد عانى في مسيره كثيراً من العنت، ثم يعلن أخيراً أنه لم يصل إلى شيء، وكان قد ابتعد عن المنهج القرآني النبوي، وجرى وراء نتائج العقول الإنسانية، فلم تقده الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ووجد في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب، إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه ( أقسام اللذات ) أشم منها رائحة النواح والحزن الصاعد من قلب مكلوم، فقد قال:

نهاية إقدام العقول عقـــال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وغاية دنيانا أذى ووبــال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فاطر:10] ، وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ويختم حديثه قائلا: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

ويصور لنا كذلك عبد الكريم الشهرستاني ، وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علم الملل والنحل، حال أصحاب الكلام في علوم العقائد، في مقدمة كتابه ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) فيقول:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سـن نادم

ولا أنسى الجويني ، وهو الذي كان يدعى بـ(إمام الحرمين) وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، ولما حضره الموت إذا به ينظر في مساره في الحياة، وينظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، فلقد أضاع الكثير من عمره في مسار لم يصله إلى مراده، لقد كان يخوض في بحر خضم من أفكار وعقائد وموازين لا يقر قلب من خاضها على قرار، فإذا به يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول:

لقد دخلت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.

وهذا عالم آخر من علماء الكلام، يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئاً، فيعلن ذلك لمن حوله ويقول:

اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئاً.

إن الله العليم القدير الحكيم هو الذي خلقنا، وهو أعلم بنا من أنفسنا، فهو يعلم أننا بحاجة إلى معرفته لأنه خالقنا، ويعلم أن نفوسنا لا يمكن أن يقر لها قرار ما لم تعرف الذي خلقها، وما لم تعرف الطريق إليه، ويعلم كذلك أن العقل الإنساني الذي وهبه لنا لا يمكن أن يصل بنفسه إلى معرفة صفات وأسماء خالقه وإلهه، ولا يعلم كيف يعبده.

فتكفل لأبينا آدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض أن يمد ذريته من بعده بالنور والهدى، وهو الوحي الذي يعرفهم بربهم، وبالحقائق الكبرى التي لا بد لهم منها، وتكفل أيضاً لمن اتبع نوره المنزل على الأنبياء بالخلاص من الضلال الذي يعيش فيه البشر، وبالنجاة من الشقاء الذي تتردى فيه القلوب والنفوس، وقد توعد الرافضين لوحيه وهداه بالحياة الضنكة الشقية في الدنيا، وفي الآخرة توعده بحياة أشد ضنكاً وشقاء.

قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].

وقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].

ولقد بقيت البشرية بعد أن هبط آدم إلى الأرض، وتكاثرت ذريته على التوحيد، فكان الناس أمة واحدة، ولكن البشر فيما بعد ضلوا في إلههم ومعبودهم، فعبدوا من دونه أولياء؛ فاتخذوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، فكانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، فأرسل الله لهم أول رسله، وهو نوح عليه السلام، فأنذرهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما يعبد من دونه، فآمن له قليل واستكبر منهم الكثير، فأهلكهم الله تعالى.

وكثير من الأمم عبر تاريخ البشرية عبدوا الأصنام، ولهم في ذلك فلسفات وضلالات، فبعضهم يزعم أن هذه الأصنام محل تتلبس به الأرواح التي يعبدونها، وبعضهم ليس له حجة إلا أن الآباء يمجدونها ويقدسونها.

الشرك عند الصابئة

إن الصابئة: هم الذين كانوا يسكنون في بداية أمرهم في وسط العراق، ثم سكنوا شماله، وكانوا يدعون أن الله خلق الأفلاك والكواكب، ووكل إليها تدبير أمر العالم من الخير والشر والصحة والمرض؛ ولذا فإنه يجب على البشر تعظيمها وعبادتها.

ومنهم من يزعم أن الكواكب التي في الفلك ملائكة، وبنوا بيوتاً لهذه الكواكب لعبادتها، وجعلوا فيها الهياكل، وقد جادلهم إبراهيم عليه السلام فيما يعبدونه من أصنام، كما أنه ناقشهم أيضاً في عبادة الشمس والقمر والنجوم.

قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:51-56].

وقال في موضع آخر: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:69-82] .

الشرك في التراث العقائدي عند الهنود

وفي بلاد أخرى كالهند عبد الناس هناك الأشجار والأحجار والثعابين والفئران، وقال فلاسفتهم بوحدة الوجود.

وكانت عندهم الديانة البرهمية التي تزعم أن طبقة البراهمة خلقوا من رأس الإله (براهمان)، وأن طبقة الجند خلقوا من منكبيه وذراعيه، والزراع والتجار والعمال من فخذيه، والأرقاء من قدميه، ومنعوا ارتفاع الإنسان إلى طبقة فوق طبقته، وقال فلاسفتهم بالتناسخ، وهو أن روح الإنسان بعد الموت قد تحل في ابنه أو أخته أو أخيه أو في إنسان آخر، أو حتى في خنزير أو كلب، ولهم في ذلك فلسفات يضيق الوقت عن ذكرها.

وأله هؤلاء الناس البشر وعبدوهم من دون الله عندما زعموا أن الآلهة تحل في بعض البشر، أو أن بعض الملوك من نفس الآلهة، كما كان ملوك المصريين القدامى ينصبون أنفسهم آلهة تقدم لهم الهدايا والقرابين، ويُعبدون في المعابد، وقد قال فرعون لأهل مصر: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال لهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].

ولقد قامت في بلاد فارس ديانات كثيرة، ومن أقدمها عبادة (زرادتش) في القرن السابع قبل الميلاد، وقد ادعوا (زرادتش) إلهاً وضعوا حوله الأساطير.

ثم جاء (مانو ) بعد الميلاد بأكثر من مائتي عام وقال بقدم النور والظلمة وأنهما إلهان، وادعى مانو أن الجسد سجن للروح، ولا بد من تخليص الروح من سجنها وذلك بإبادة الجنس البشري، وهذه فلسفة من فلسفاتهم، فما كان من الملك -وقد سمع بدعواه- إلا أن أمر الجلاد أن يقص رأسه؛ ليخلص روحه من سجنها.

ثم جاء مزدك بالشيوعية، ونادى بأنه لا زواج، بل تباح النساء والأموال من غير ضابط، ونادى بإلغاء القوانين؛ بحجة أنها تحول بين الإنسان وبين ما يشتهي، وقال بألوهية النور والظلام، فكانت النيران لا تخبو من المعابد، وكان الفرس يسجدون لها.

الشرك في عقائد الفلاسفة

لقد برز على مر العصور فلاسفة كثيرون، بهروا الناس بسعة علمهم وقدراتهم العقلية الرائعة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من البيئات الوثنية التي عاشوا فيها، ولم يستطيعوا أن يضيئوا طريق البشرية بالهداية إلى الحق.

ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة: أفلاطون ، وأفلاطون هذا هو الذي قال بوجود أرباب من دون الله، وقد أراد بنظريته الشركية هذه أن يعلل ما يجري في العالم من شر وألم، فالخير عنده كله من العقل المطلق، والعدل كله من الهيولى مادة الخلق.

فالوجود عند أفلاطون طبقتان متقابلتان، فالعقل المطلق هو الخالق للخير، والهيولى مادة الخلق، وبين العقل المطلق والهيولى مخلوقات وهذه المخلوقات على درجات، تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل المطلق، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولى، وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب، وبعضها أنصاف أرباب، وبعضها نفوس بشرية، هذا هو كلام أفلاطون الفيلسوف الكبير كما يسمونه، وقد قال أفلاطون أيضاً بتناسخ الأرواح.

وادعى كثير من الفلاسفة أيضاً أن العالم قديم أزلي، ولذلك لم يستطع البشر أن يحصلوا على الهدى والنور من الفلاسفة.

إن الضلال في تاريخ البشرية كثير متشابك تشابك الطرق في صحراء ليس لها نهاية، وهو ضلال متداخل ملتو معوج، وقد استمر الوحي السماوي يواكب البشرية ويواكب الحياة الإنسانية، فما من أمة إلا خلا فيها نذير، والرسل الذين أرسلهم الله قد أوصلوا صوت الحق إلى جميع الأمم، ولكن البشر في كل العصور يرفضون الاستجابة للرسل، فنجدهم يقفون منهم موقف المعاند المكابر، ويكذبونهم ويتمردون على وحي السماء.

قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:44].

الشرك في التراث العقائدي عند اليهود

لقد كان موسى من الرسل العظام، أرسله الله لبني إسرائيل، وأنزل إليه شريعة التوراة، ولم يستطع كثير من بني إسرائيل أن يرتفعوا إلى مصاف المؤمنين، ولم يطيقوا البعد عن الخرافات والضلال والأوهام.

لقد أنجاهم الله من فرعون فما كادت تخرج أقدامهم من البحر الذي شقه الله لهم حتى جاءوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لنبيهم: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، أي: اجعل لنا صنماً نعبده كما لهم صنم يعبدونه، وتركهم موسى تحت إمرة أخيه رسول الله هارون.

وفي التوراة المحرفة: أن الله يتعب! ونسبوا إلى الأنبياء الكبائر والفواحش! وضاعت العقيدة الصافية التي تصل الناس بربهم، وكتب علمائهم التلمود، فوجد في تلمودهم الشرك والوثنية، فلقد صوروا الله تبارك وتعالى في تلمودهم إنساناً يبكي، ويذنب فيستغفر ويكفر عن ذنبه.

وقد حدثنا الله عن تلاعب بني إسرائيل بالتوراة فقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79] .

وقال سبحانه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78].

الشرك في التراث العقائدي عند النصارى

ثم جاء عيسى بن مريم عليه السلام بالإنجيل فيه هدى ونور، يدعو إلى عبادة الله وحده والكفر بما يعبد من دونه، ولكن النصارى اختلفوا من بعده، ولم يمض وقت طويل حتى اختلفوا في كتابهم، فكثرت الأناجيل فإذا هي تزيد على السبعين في ذلك الوقت، واختلفوا كذلك في طبيعة المسيح: فمنهم من قال: هو عبد الله ورسوله، ومنهم من قال: هو الله أو ابن الله، ثم اختلفوا بعد ذلك أيضاً: فمن قائل: إن له طبيعتين: طبيعة إلهية، وطبيعة بشرية، ومن قائل: إن له طبيعة واحدة هي الألوهية وأن تجسده في الصورة البشرية لم يؤثر في ألوهيته.

وقد عقد قسطنطين الذي تنصر مجمعاً اسمه: (مجمع نوقيا) عام ثلاثمائة وخمسة وعشرين للميلاد، وعلى الرغم من كون الذين قالوا بألوهية المسيح كانوا قلة إلا أنهم هم الذين غلبوا في المجمع؛ لأن الحاكم يريد هذا، وكفروا من لا يقول بذلك.

وفي عام ثلاثمائة وواحد وثمانين استمع المجمع القسطنطيني الأول، وقرر إلهية روح القدس، ولعن الذين لا يقولون بألوهيته، وصارت الألوهية عند النصارى في ثلاثة أقانيم متداخلة: الأب، والابن، والروح القدس، وما مقالتهم هذه إلا مضاهاة لقول الذين كفروا من قبل، ومضاهاة للذين ألهوا البشر والمخلوقات وعبدوها من دون الله.

الشرك عند العرب قبل بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم

ثم قبيل البعثة النبوية المحمدية لم يبق في فجاج الأرض من نور الوحي إلا شموع خافتة باهتة، وهذه الشموع لا يكاد الناس يعرفون في ضوءها معالم الطريق، ولا تصلح لهدايتهم إلى الحق الخالص من الشوائب، وكان العالم كله كذلك ومنه الجزيرة العربية التي انتشرت فيها عبادة الأصنام والأوثان فكان العرب يعبدونها؛ لتقربهم إلى الله زلفى.

فجاء رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنور المبين، والصراط المستقيم والحق الأبلج، وفتح الله به العيون العمياء، والآذان الصماء، وأنار به القلوب وأظهر الله به الحق، وعرف الناس بربهم، وأقام العبادة على الحنيفية ملة إبراهيم، وبين للناس ما اختلفوا فيه، وبين الضلال الذي وقع فيه اليهود، وقال كلمة الحق في عيسى عليه السلام.

طروء الشرك والبدعة على هذه الأمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حفظ الله كتابه الذي أنزله، وهيأ الله صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فدونوا الكتاب ونشروه في الآفاق، وجمعوا عليه الأمة، وحفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثوها لمن جاء بعدهم، وبلغوا دعوة الله للعالمين، ونشروا هذا الدين، ولم يجد عدوهم إليهم سبيلاً.

ثم حدثت الفتنة وانقسمت الأمة، وعلى الرغم من أن الشمل قد التأم، واجتمع أمر الأمة على رجل منها، إلا أن الخلاف لم ينته، وعلى الرغم من أن الخلاف ابتدأ سياسياً، إلا أن الأطراف المتنازعة وصلت خلافها بالدين، ووجدت العقائد الكفرية والفلسفات الضالة التي كانت سائدة قبل الإسلام باباً تدخل منه إلى المسلمين في وقت الفرقة والاختلاف.

بدعة التشيع

فحدث أن غلا بعض الناس الذين يريدون إضلال العباد في علي بن أبي طالب ، وجعلوه أحق بالنبوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من زعم فيه الألوهية، ومنهم من عده أفضل الصحابة، واتخذوا هذا باباً لهدم الإسلام وسب الصحابة ومعاداتهم، ثم انقسم هؤلاء إلى فرق كثيرة: بعضها قريبة من الحق، وبعضها غالية، وبعضها بين ذلك، وأصبح لكل فرقة أصولها وعقائدها ومناهجها.

بدعة الخوارج

وسخط آخرون على علي بن أبي طالب ومعاوية وكفروهم وكفروا من تبعهم، ونسبوا فعلهم هذا إلى الدين، وقالوا: كل من ارتكب كبيرة فهو كافر، واستباحوا دماء مخالفيهم وأموالهم ونسائهم، فناقشهم الصحابة، ثم حاربوهم وكان هؤلاء هم الذين عرفوا في التاريخ باسم الخوارج، ولهم عقائد ومناهج وأفكار لا تزال تظهر بين الفينة والفينة إلى زماننا هذا.

بدعة القدرية والجهمية

وفي نهاية عهد الصحابة، خرج قوم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، فقام لهم الصحابة ونقضوا مقالتهم وأبطلوا شبهتهم، ثم بدأت المقالات الضالة المتلقاة من تلامذة اليهود والمشركين وطلاب الصابئة تنتشر في أوساط المسلمين.

فمن أوائل من عرف عنه ذلك: الجهم بن صفوان ، والجهم أخذ مقالته من الجعد بن درهم ، وهذا أخذ مقالته كما يقول ابن تيمية عن أبان بن صنعان ، وأخذها هذا الأخير عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي ، وكان الجعد بن درهم من أرض حران، وحران موطن الصابئة، وفيها بعض فلاسفتهم، ويذكر الإمام أحمد أن الجهم أخذ مقالته أيضاً عن بعض فلاسفة الهند.

والجهم صاحب ضلالة تنسب إليه، وأتباعه يسمون بـ:(الجهمية)، وهم ينفون صفات الرب وأسماءه، وشيخه الجعد بن درهم زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، وأعملوا في النصوص التي لا توافقهم مقاييس التأويل الذي قد يصل إلى درجة التحريف.

بدعة الاعتزال

وعندما عربت الفلسفات الرومية واليونانية ونقلت إلى اللغة العربية في حدود المائة الثانية زاد البلاء، وكثرت التيارات العقائدية والفكرية، وغزت عقول طوائف من المسلمين مثل: واصل بن عطاء وعمر بن عبيد .

فلقد نشأت الفرق المختلفة ومن أشهرها المعتزلة، وهي التي ابتدأ أمرها واصل بن عطاء ، وقد زعم المعتزلة أنهم يريدون أن يدافعوا عن الدين ضد الملحدين والنصارى والفلاسفة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، بل تبنوا نظريات وآراء أحدثت فرقاً بين المسلمين.

وتبنى بعض الخلفاء العباسيين وجهة نظرهم، وابتلي المسلمون في عصور هؤلاء الخلفاء الذين تبنوا الاعتزال، وعلماء المعتزلة الذين يسميهم المستشرقون اليوم (رجال الفكر، أو الأحرار) قاموا بالحجر على فكر المخالفين، وتكفير من لم يتبن أصولهم.

وقالوا: لا يكون هناك توحيد إلا إذا نفينا صفات الخالق خشية الوقوع في التجسيم.

وزعموا بناء على ذلك أن القرآن ليس كلام الله، وهذه الفتنة هي التي حدثت في عهد المأمون والخلفاء الذين بعده، ووقف في وجهها الإمام أحمد كما هو معروف.

وزعموا أيضاً أن العدل يقتضي أن العبد هو خالق فعله ليس الله هو خالق أفعال العباد، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر في الدنيا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما في الآخرة فهو كافر مخلد في النار، وقد وقف في وجههم العلماء الأجلاء، وقد ترك المعتزلة تراثاً ضخماً يشرح أصولهم ونظرياتهم، ومن أوسعها كتاب: المغني، للقاضي عبد الجبار المعتزلي ، وكتاب شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار أيضاً، وهما مطبوعان.

ولقد أفل نجم المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المتوكل ، ولكنهم صبغوا الفكر الإسلامي بكثير من نظرياتهم ومعتقداتهم، ومن الذين هدموا مذهب المعتزلة بعض الذين نشئوا على الفكر المعتزلي من أمثال أبي الحسن الأشعري المتوفى في سنة ثلاثمائة وأربعة وعشرين هجرية، وقد بقي معتزلياً أربعين عاماً، ثم رجع إلى مذهب السلف، وعلى الرغم من أن أبا الحسن الأشعري اقترب إلى مذهب السلف فيما ذهبوا إليه إلى حد كبير، إلا أنه لم يتخلص من أساليب المعتزلة وقواعدهم العقلية ومصطلحاتهم، وهذه الطريقة تؤدي بصاحبها إلى نتائج مخالفة لعقائد الأوائل مهما ادعى أصحابها أنهم يسيرون على نهج السلف، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقبل المعتزلة والأشاعرة وبعدهم نشأت فرق كثيرة كالمرجئة والماتريدية والكلابية وغيرهم، وكل فرقة من هذه الفرق لها بعض المعتقدات التي تخالف بها غيرها، ووراء كل معتقد من هذه المعتقدات فلسفات وتأويلات.

ونلاحظ أن كل الفرق المخالفة لمنهج السلف قد غلت في تقدير العقل وقدمت حكمه على حكم الشرع، واستعملت الموازين والمقاييس العقلية في محاكمة القضايا الغيبية، وابتعدت هذه الفرق عن الكتاب والسنة بنسب متفاوتة، ولجأ كثير من أهل هذه الفرق إلى تأويل النصوص التي لا توافق آرائهم ومعتقداتهم، فغاب عن كثير من هذه الفرق الكثير من حقائق الإسلام.

فلقد اختلف علماء الكلام في الصفات الإلهية، وفي الصلة بينها وبين ذات الله، وفي إمكان رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة، وفي مسألة العدل والجور، ومسألة القضاء والقدر، ولم يغادروا مسألة كبيرة أو صغيرة إلا اختلفوا فيها كثيراً أو قليلاً، وقد تعامل المتكلمون مع صفات الله كما لو كانت صفات الإنسان فأنكروها.

ونحن اليوم ورثنا عن المدارس الفكرية والعقائدية شيئاً كثيراً من الأفكار والمعتقدات، وسارت في أيامنا هذه معتقدات جديدة في الشرق والغرب غزت ديارنا وعقولنا ومناهجنا، فماذا نفعل وكيف نتصرف معها؟


استمع المزيد من الدكتور عمر الأشقر - عنوان الحلقة اسٌتمع
النجاة من الفتن 2410 استماع
كيف تستعيد الأمة مكانتها 2299 استماع
فتاوى عن الجماعات الإسلامية والجهاد 2292 استماع
أضواء العمل الإسلامي 2213 استماع
اليوم الآخر 2191 استماع
الانحراف عن المسيرة الإسلامية 2162 استماع
إخلاص النية 2162 استماع
مع آيات في كتاب الله 2141 استماع
أسباب الجريمة وعلاجها 2125 استماع
قيمة الاهتمام في زيادة الإيمان 2105 استماع