الأخفياء


الحلقة مفرغة

الصلاة تجمع أعمال القلب واللسان والجوارح؛ فلذلك كانت أفضل من غيرها من العبادات، ففرضها أفضل من فرضهن، ونفلها أفضل من نفلهن، وليس المقصود بالفضلية الإطلاق بأن يكون نفلها أفضل من فرض غيرها، بل المقصود أن كل جنس أفضل من جنسه فقط من أنواع القربات، فالصلوات الخمس أفضل من الفرائض الأخرى، ونوافل الصلاة أفضل من نوافل غيرها.

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .

أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وهذه ليلة الإثنين (23/10/ 1414هـ) وعنوان هذا اللقاء: (الأخفياء).

ولقد كنت قد تأملت ونظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد قوله: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ولقد تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (الخفي)، فما زالت تلك الهواجس والأفكار والأسئلة تدور في الخاطر المكدود، من هو هذا العبد الخفي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى؟!

فقلت: لربما أنهم الذين عرفوا ربهم، وعرفهم سبحانه وتعالى، فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، والله سبحانه وتعالى يعلم إسرارهم فكان خيراً لهم.

وقلت: ولربما أنهم الأنقياء الأتقياء، فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم؛ إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور، وهجمات الرياء، وطلب الثناء والمحمدة من الناس.

وقلت: فلربما أنهم هم الجنود المجهولون، الناصحون العاملون، الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة، فكم من ناصح.. ومن مرب.. وداع للحق لا يعرف، وكلمة.. ورسالة.. وشريط طار في كل مطار، فسارت به الركبان، كان خلفه أخفياء وأخفياء، فهنيئا لهم!

وقلت: فلربما أنهم أيضاً هم الساجدون الراكعون في الخلوات، فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء، وكم من دمعة بللت الأرض، وبهذه الدمعات وهذه السجدات حفظنا وحفظ أمننا، ورزقنا وسقانا ربنا.

وقلت: فلربما أن الأخفياء هم الذين يسعون في ظلمة الليل، ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال؛ ليفكوا بها كربة مكروب، وليفرجوا بها هم أرملة ضعيفة شريدة الحال كثيرة العيال.

وقلت: فلربما أن الأخفياء هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس، أو الذين لا يعرف أعمالهم الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يعرفهم، وكفى بالله شهيداً.. فهنيئاً لهم.

ثم قلت: وما الذي يمنع أن يكونوا أولئك جميعاً، وأن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء؟!

ولذلك ترددت كثيراً في الحديث عن هذا الموضوع، فما كان لمثلي أن يتحدث عن مثلهم، وأستغفر الله جل وعلا، ونحن أعرف بأنفسنا من جرأتنا مع قصورنا وتقصيرنا، وقد قالها عبد الله بن المبارك :

لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم     ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد!!

رحمك الله يا بن المبارك عندما قلت هذا البيت تعني به نفسك، فماذا نقول إذاً نحن عن أنفسنا؟!

ورحم الله القائل:

أحب الصالحين ولست منهم     وأرجو أن أنال بهم شفاعه

وأكره من سجيته المعاصي     وإن كنا سواء في البضاعه

أولاً: الأسوة والاقتداء بالأخفياء

كان الحديث عن الأخفياء؛ لأنني ولربما لأنك أيضاً نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونرى آثارهم ومصنفاتهم، ونرى أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتاً بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة .. فأسأل وتتساءل معي: ما هو السر في حياة أولئك الرجال؟!

والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا، ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر، فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى، وكان حبه وبغضه، وقوله وفعله وحركاته وسكناته ودقه وجله وسره وعلانيته لله.

يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي تُرفع، والكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب..

أما اليوم؛ فتعال وانظر لحالنا -يا أخي الكريم- كأفراد، فقلوبنا شذر مذر، ونفوسنا عجب وكبر، وأفعالنا تزين وإظهار، وأقوالنا لربما كانت طلباً للاشتهار.

همومنا في الملذات، وحديثنا في الشهوات، وصدق صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، إلا من رحم الله منا.

وانظر لحالنا كأمة .. ذل ومهانة وهوان واحتقار، ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر، ولكني أسوق لك دليلاً قريباً: في شهر رمضان؛ ثلاث مذابح للمسلمين، مذبحة السوق في سراييفو، ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين ، ومذبحة في السودان!

أكان يكون ذلك -يا أخي الحبيب- لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق؟! أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى: لا والله، لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين جميعا إلى الله جل وعلا:

رب وامعتصماه انطلقت     ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعـهم لكنها     لم تلامس نخوة المعتصم

إذاً.. فالسر في حياة أولئك هو: التوحيد لله.

وليس التوحيد قولاً فكلنا يقول: لا إله إلا الله، ولكنه التوحيد القلبي ؛ يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم.

ثانياً: لأهمية الإخلاص وخطر الرياء

ثم أيضاً سبب آخر ومهم جداً للحديث عن الأخفياء -فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة-: إن فقدت الأعمال والأقوال -أياً كان نوعها- خلوص النية لله جل وعلا؛ انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله.

ألم تسمع! لذلك الحديث المفزع للقلوب؛ الذي كلما أراد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لأصحابه وقع مغشياً عليه، يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربع لهول ذلك الحديث المفزع: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله)!

أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحط المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله.

وهذا الحديث لما سمعه معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: [قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بعدهم، أو فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية رضي الله عنه وأرضاه بكاءً شديداً، يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك!]

انظروا صحابة رسول الله يخشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟!

يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال: [صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

لأنهم فعلوا ذلك ليقال: قارئ! وليقال: متصدق! وليقال: جريء! ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء والتسميع، بأن يقول فلان: سمعت وعلمت وسألت وجئت وذهبت؛ مسمعاً للناس بأفعاله عياذاً بالله.

فالتزم رعاك الله! التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية، كحب الظهور، أو التفوق على الأقران، أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة، أو طلب لمحمدة وثناء الناس، فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متى شابت النية.

ولذلك كان النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المقسطين، جعلني الله وإياك منهم.

لأهمية الإخلاص، ولخطر الرياء، ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا، ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء بحد سواء، ولإقبال الناس عموماً على العبادات، وحرصهم على الخيرات -والحمد لله- مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة، كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال والعبادات عليهم سدى من حيث لا يشعرون، وكان لزاماً أن نتحدث في مثل هذا الموضوع.

وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس، لذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيراً وتنبيهاً وتحذيراً لشدة الحاجة إليه.

كان الحديث عن الأخفياء؛ لأنني ولربما لأنك أيضاً نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونرى آثارهم ومصنفاتهم، ونرى أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتاً بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة .. فأسأل وتتساءل معي: ما هو السر في حياة أولئك الرجال؟!

والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا، ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر، فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى، وكان حبه وبغضه، وقوله وفعله وحركاته وسكناته ودقه وجله وسره وعلانيته لله.

يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي تُرفع، والكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب..

أما اليوم؛ فتعال وانظر لحالنا -يا أخي الكريم- كأفراد، فقلوبنا شذر مذر، ونفوسنا عجب وكبر، وأفعالنا تزين وإظهار، وأقوالنا لربما كانت طلباً للاشتهار.

همومنا في الملذات، وحديثنا في الشهوات، وصدق صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، إلا من رحم الله منا.

وانظر لحالنا كأمة .. ذل ومهانة وهوان واحتقار، ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر، ولكني أسوق لك دليلاً قريباً: في شهر رمضان؛ ثلاث مذابح للمسلمين، مذبحة السوق في سراييفو، ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين ، ومذبحة في السودان!

أكان يكون ذلك -يا أخي الحبيب- لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق؟! أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى: لا والله، لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين جميعا إلى الله جل وعلا:

رب وامعتصماه انطلقت     ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعـهم لكنها     لم تلامس نخوة المعتصم

إذاً.. فالسر في حياة أولئك هو: التوحيد لله.

وليس التوحيد قولاً فكلنا يقول: لا إله إلا الله، ولكنه التوحيد القلبي ؛ يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم.

ثم أيضاً سبب آخر ومهم جداً للحديث عن الأخفياء -فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة-: إن فقدت الأعمال والأقوال -أياً كان نوعها- خلوص النية لله جل وعلا؛ انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله.

ألم تسمع! لذلك الحديث المفزع للقلوب؛ الذي كلما أراد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لأصحابه وقع مغشياً عليه، يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربع لهول ذلك الحديث المفزع: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله)!

أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحط المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله.

وهذا الحديث لما سمعه معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: [قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بعدهم، أو فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية رضي الله عنه وأرضاه بكاءً شديداً، يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك!]

انظروا صحابة رسول الله يخشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟!

يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال: [صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

لأنهم فعلوا ذلك ليقال: قارئ! وليقال: متصدق! وليقال: جريء! ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء والتسميع، بأن يقول فلان: سمعت وعلمت وسألت وجئت وذهبت؛ مسمعاً للناس بأفعاله عياذاً بالله.

فالتزم رعاك الله! التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية، كحب الظهور، أو التفوق على الأقران، أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة، أو طلب لمحمدة وثناء الناس، فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متى شابت النية.

ولذلك كان النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المقسطين، جعلني الله وإياك منهم.

لأهمية الإخلاص، ولخطر الرياء، ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا، ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء بحد سواء، ولإقبال الناس عموماً على العبادات، وحرصهم على الخيرات -والحمد لله- مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة، كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال والعبادات عليهم سدى من حيث لا يشعرون، وكان لزاماً أن نتحدث في مثل هذا الموضوع.

وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس، لذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيراً وتنبيهاً وتحذيراً لشدة الحاجة إليه.

الخفاء منهج شرعي، لذلك اسمع -أيها المحب- لقول الحق عز وجل في الصدقة: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] فهو خير لكم! فهذه الآية كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ظاهرة في تفضيل صدقة السر وإخفائها.

ويقول سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].

ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه) انظر لدقة الخفاء في هذه الصدقة، فقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وقال أيضاً الحافظ ابن حجر : وهو من أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة.

وفي الحديث نفسه صورة أخرى يذكرها صلى الله عليه وسلم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

ثم حديث الرجل الذي تصدق ليلاً على سارق وعلى زانية وعلى غني وهو لا يعلم بحالهم، والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ، ووجه الدلالة من هذا الحديث على أن الخفاء منهج شرعي، هو: أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فأصبحوا يتحدثون) بل وقع في لفظ صريح كما في مسلم بقوله صلى الله عليه وسلم على لسان الرجل: (لأتصدقن الليلة) فدل ذلك على أن صدقته كانت سراً في الليل، إذ لو كانت هذه الصدقة بالجهر نهاراً لما خفي عنه حال الغني، بخلاف حال الزانية والسارق، فالغني ظاهر حاله، فلذلك كانت الصدقة سراً في الليل.

وأيضاً حديث صلاة النافلة في البيوت، فمن حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وإسناده صحيح.

وروى الطبراني من حديث صهيب بن النعمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع).

انظر الشاهد: (حيث يراه الناس)، إذاً فالاختفاء عن أعين الناس في صلاة النافلة لا شك أنه أفضل.

ومن حديث جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، كما أخرج البخاري ومسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به).

ومن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره) أخرجه أحمد في مسنده والطبراني والبيهقي وإسناده صحيح.

-الخفاء عند السلف :

وذكر الذهبي في السير في ترجمة عبد الله بن داود الخريـبي، أنه رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يستحبون -أي: السلف الصالح - أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها!!

وذكر الإمام وكيع بن الجراح في كتابه الزهد، والإمام هناد بن السري في كتاب الزهد أيضاً أن الزبير بن العوام قال: [من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل].

وسنذكر بمشيئة الله صوراً عديدةً لحياة كثير من السلف تدل على أن هذا الأمر كان منهجاً لهم، وكانوا يحرصون عليه ويتمسكون به.

قد يقول قائل بعد سماع ما تقدم: وهل نخفي أعمالنا دائما فلا نظهر منها شيئاً أبداً؟!

الإجابة على هذا السؤال يتفضل بها شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين عندما قال: فصل: قوله ولا مشاهداً لأحد فيكون متزيناً بالمراءاة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا فيه تفصيل أيضاً؛ وهو أن المشاهدة -والمشاهدة يقصد بها مشاهدة الناس لك أثناء العمل- فالعمل لغير الله نوعان: أولاً: مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه -تبعث على العمل أو تقوي هذا العمل- فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة، كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضاً من الآفات والحجب، أي: كما أن المشاهدة التي تجعلك تقطع العمل بتاتاً أيضاً هي من الآفات والحجب.

ثم يقول: ومشاهدة -أي أخرى- لا تبعث عليه ولا تعين الباعث، بل لا فرق عنده -أي: صاحبها- بين وجودها وعدمها، لا يهمه يراه الناس أو لا يراه، فهذه لا تدخله في التزين والمراءاة، ولا سيما عند المصلحة الراجحة في المشاهدة إذا كان هناك مصلحة راجحة.

يقول ابن القيم : إما حفظاً ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها، أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة، أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك فتكون محسناً إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص، أو قصداً منك للاقتداء وتعريف الجاهل، فهذا رياء محمود، والله عند نية القلب وقصده.

ثم يقول رحمه الله تعالى: فالرياء المذموم أن يكون الباعث قصد التعظيم والمدح، والرغبة فيما عند من ترائيه، أو الرهبة منه، وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحو ذلك؛ فليس في هذه المشاهد رياء، بل قد يتصدق العبد رياءً وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر.

مثال ذلك يقول ابن القيم : رجل مضرور سأل قوماً ما هو محتاج إليه فعلم رجلٌ منهم أنه إن أعطاه سراً حيث لا يراه أحد لن يقتدي به أحد، ولم يحصل له سوى تلك العطية، وأنه إن أعطاه جهراً، اقتدي به واتبع، وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية، فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين، فهذه مراءاة محمودة، حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء، وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين . اهـ.

وينقل لنا الحافظ ابن حجر أيضاً في فتح الباري ، لما تكلم عن صدقة الفرض وصدقة النفل، وهل الأفضل إعلانهما أو إخفاءهما، قال رحمه الله تعالى ينقل عن الزين بن المنير: لو قيل إن ذلك يختلف -أي الإخفاء أو الإظهار- باختلاف الأحوال لما كان بعيداً، فإذا كان الإمام مثلاً جائراً ومال من وجبت عليه -أي: الزكاة صدقة الفرض- مخفياً؛ فالإسرار أولى، وإن كان المتطوع ممن يقتدى به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده، فالإظهار أولى. اهـ .

ومن هنا نعلم أنه ليس دائماً تخفى الأعمال، بل قد يظهر الإنسان أعماله لمصلحة راجحة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى.

يكثر في هذا الزمن الأخفياء، ولكنهم أخفياء من نوع آخر، أخفياء يختفون عن أعين الناس، ويحرصون كل الحرص ألا يطلع أحد من الناس على أعمالهم.

هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً) نعوذ بالله! يقول راوي الحديث ثوبان رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم!).

اسمع ثوبان الصحابي الجليل هو الذي يقول: (ألا نكون منهم ونحن لا نعلم)!! فرحمك الله يا ثوبان ورضي الله تعالى عنك!

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح.

وأخفياء من نوع آخر، وهم المقصرون الفاترون، أهل الخمول والكسل، فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله، فقلت له مثلاً: ماذا حفظت من القرآن؟! وهل تحرص على صيام النوافل أم لا؟!

أنت تريد الخير بنصحه وتريد مكاشفته بحاله حتى يرى حاله على حقيقتها، فتسأله هذه الأسئلة ليجيب هو على نفسه، وتقول له: ماذا قدمت للإسلام؟! وهل تنكر المنكرات؟! وهل.. وهل.. إلى غيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه؛ لأجابك هذا الشخص بقوله: هذا بيني وبين الله!! وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه؟؟!!

انظر هو الآن يظهر لنا الإخلاص، لكنه يخفي الحقيقة.. ما هي الحقيقة؟! أنه قصّر في أعماله وأنه قد لا يكون عنده شيء، ولا حفظ من القرآن شيئاً وإن حفظ فالقليل، قد لا يكون قدم للإسلام شيئاً وإن قدم فالقليل القليل، وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة، فبالتالي لا يملك حتى يبرئ ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك: هذا بيني وبين الله، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه؟!!

فانظر كيف وقع هذا المسكين، أظهر لنا الإخلاص وأخفى حقيقة النفس وتقصيرها، فوقع في الرياء من حيث لا يشعر، وما أكثر أولئك وللأسف، وهذا لا شك خداع للنفس، وتشبع بما لم يعط، وهكذا التصنع والتزين والتظاهر.

أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبداً أن يخفيها يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] فنعوذ بالله من حالهم، ونستغفر الله لحالنا.

ويقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، واسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يقول: [فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله]. ذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين.

وانتبه لهذه العقبات! والعقبات في طريق الأخفياء -يا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة- كثيرةٌ جداً.

فالحديث عن الرياء والعجب وغيرهما مما ينافي الإخلاص طويلٌ جداً، ولكني أسوق هنا عقبتين من هذه العقبات للاختصار:

العقبة الأولى: الرياء الخفي

هو ما ذكره أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء رحمه الله تعالى، حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي، قال: (وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها، كأنه يريد ثمن هذا السر الذي بينه وبين الله احترام الناس، وهو لم يظهر العمل والعمل خفي بينه وبين ربه، ولكنه -يريد مادام أنه عمل- نظر لنفسه فيريد أن يكسب هذه الأمور من الناس، فإن قصر الناس في هذه الأمور، إذن استبعد نفسه ونظر لحاله، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه... إلى آخر كلامه.

العقبة الثانية: ذم النفس عند الناس

صورة أخرى من العقبات في طريق الأخفياء، وهي ما أشار إليها ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه شرح حديث ما ذئبان جائعان قال: وهنا نكتة دقيقة، وهي: أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح ، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : [كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه!].

هو ما ذكره أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء رحمه الله تعالى، حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي، قال: (وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها، كأنه يريد ثمن هذا السر الذي بينه وبين الله احترام الناس، وهو لم يظهر العمل والعمل خفي بينه وبين ربه، ولكنه -يريد مادام أنه عمل- نظر لنفسه فيريد أن يكسب هذه الأمور من الناس، فإن قصر الناس في هذه الأمور، إذن استبعد نفسه ونظر لحاله، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه... إلى آخر كلامه.