خطب ومحاضرات
الرجل الصفر
الحلقة مفرغة
من السنة في كل عمل مهم يقصد به وجه الله تعالى أن يستأنف بالدعاء، ومن المهم معرفة نشأة المذاهب، فالمذهب في الاصطلاح هو طريقة للتعامل مع النصوص ولم يكن موجوداً في العهد النبوي؛ لأن الدين مأخوذ من الوحي، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد العهد وحصلت تغيرات بدأ التابعون بالتفكير والتقعيد لهذه المذاهب، واشتهرت منها المذاهب الأربعة، ومنها المذهب الشافعي الذي أخذ بقواعد الفرائض على قول زيد بن ثابت حيث شهد له النبي بذلك فقال: أفرضكم زيد.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ..
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
هذه ليلة السبت الموافق للحادي عشر من شهر الله المحرم للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية الشريفة ..
والأصل أن يكون عنوان هذا اللقاء: (الخائفون) كما هو معلن، لكن نظراً لعدم اكتمال الموضوع ولبعض الظروف؛ سيكون هذا اللقاء بمشيئة الله بعنوان آخر وهو: (الرجل الصفر).
وأعني بالرجل الصفر ذلك الرجل الذي يتصف بالسلبية ودنو الهمة، ذلك الداء الخطير الذي أصاب الكثير من المسلمين وخاصة الشباب والفتيات، وكما أن هناك رجلاً صفراً، فإن هناك أيضاً امرأة صفراً، وكل ما قيل في هذا الموضوع يشمل الرجال والنساء معاً، إلا فيما يختص به الرجال من مجال، ولذلك على النساء أن ينتبهن وأن يتابعن مثل هذا الموضوع؛ فإنها تشارك الرجل في كل كلمة تقال فيه.
إنك إن بحثت عن شبابنا كأمة إسلامية، وجدتهم -وللأسف- على الأرصفة وفي الاستراحات وفي الصيد والرحلات، وعلى المدرجات الرياضية وخلف الشاشات؛ حتى بعض الصالحين -أيضاً- هم كذلك -وللأسف- ابتلوا بمثل هذه الأمور، فبدل أن يكونوا مشاعل هداية ودلال خير، فإذا بالتيار يجرفهم فيزعزع التزامهم وصلاحهم:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت |
وكانت على الآمال نفسي عزيزة فلما رأت عزمي على الترك ولّت |
وإذا بحثت عن فتياتنا ومهج قلوبنا، فإذا بهن في الأسواق خلف الخرق والأقمشة، أو خلف سماعات الهاتف يمزقن الفضيلة، أو مع مجلات وروايات تنشر الرذيلة، أو أمام الشاشات والأفلام حتى أصبحن بلا هوية وبلا هدف وبلا مبدأ ولا عزيمة ولا همة، شهوات في شهوات، ولذات في لذات، وآهات وزفرات وحسرات، إلا ما شاء الله من النخبة القليلة.
وإني لأعجب أيها الإخوة! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟! ألم يسألوا أنفسهم: هب أننا حصلنا على كل ما نريد،ثم ماذا؟ ألم يسألوا أنفسهم هذا السؤال: ثم ماذا في النهاية؟! الموت والحساب والعذاب، والقبر والصراط والنار.
إذا غامرت في شرف مـروم فلا تقنع بما دون النجوم |
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم |
إن الموت نهاية الجميع، لكن شتان بين من مات في أمر حقير، وبين من مات في أمر عظيم .. شتان بين من يموت وهو على طاعة الله، وبين من يموت وهو على معصية الله .. شتان بين من يموت وهو يحمل هم الإسلام ويحترق قلبه لصلاح المسلمين، وبين من يموت وهو يحمل هم شهوات الدنيا ولذاتها.
ألم يأن لشبابنا ولفتياتنا أن يعلموا حقيقة الحياة، والغاية التي من أجلها خلقوا؟
ألم يأن للران أن ينقشع عن القلوب، قبل أن يجمدها هاذم اللذات؟ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:16-17].
اللهم أحي قلوب المسلمين، اللهم أحي قلوب شبابنا وفتياتنا، اللهم أحي قلوب الشباب الصالحين، اللهم ردها إليك رداً جميلاً، اللهم انفعها وانفع بها يا حي يا قيوم!
أيعقل أن يصل الأمر بمسلم -أو بمسلمة- يحمل في قلبه (لا إله إلا الله) إلى مثل هذا الحد من الغفلة والضياع والحيرة والتردد؟
أيها الأخ الحبيب! أيتها الأخت الغالية! إن لـ( لا إله إلا الله ) نوراً في القلب، فهل انطفأ هذا النور؟
اسمع لكلام ابن القيم الجميل يوم أن قال: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوةً وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفةً وحالاً، وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهةً ولا شهوةً ولا ذنباً إلا أحرقه.
وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها. فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه، استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فأقول إلى كل من ابتلي بهذا الداء أو بشيء منه -أقصد السلبية ودنو الهمة-: أهدي هذه الكلمات وهذه التوجيهات، سائلاً المولى عز وجل أن ينفع بها الجميع، وأن يجعلها خالصة لوجهه، مع علمي أن الهمم والعزائم تتفاوت، فلا نريد من أحد إلا ما يقدر عليه ويستطيع، لكن على شرط أن يعلم أن بيده الكثير وأنه قادر على خير وفير، متى؟ إذا علم أنه يحمل لا إله إلا الله في قلبه، وأنه على المبدأ الحق، وأن الله معه يحفظه ويرعاه، وأن الجنة موعده إن توفاه، فإن عاش عاش عزيزاً وإن مات مات شهيداً، عندها أقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم |
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم |
ولقد جعلت لهذا الداء مظاهر وأسباباً وعلاجاً، على اختصار شديد وتقصير أكيد، فما هو إلا وجهة نظر واجتهاد بشر يعتريه الصواب والخطأ، أسأل الله عز وجل أن يغفر لي الخطأ وأن يلهمني الصواب، فما أردت إلا الإصلاح وما توفيقي إلا بالله.
من أهم مظاهر السلبية ودنو الهمة أو من أهم صفات ذلك الرجل الصفر أو المرأة الصفر:
الخمول والكسل
بل انظر لحاله مع الفرائض والتثاقل فيها حتى أصبحت حاله شبيهة بحال المنافقين الذين قال الله عنهم: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].. وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54].
فكيف حاله مع قضايا المسلمين والاهتمام بها؟ وكيف يحمل همّ هذا الدين والدعوة إلى الله عز وجل؟ (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل) هكذا كان صلى الله عليه وسلم يردد هذا الدعاء علاجاً لهذه الظاهرة.
الرضا بالدون مع القدرة على ما هو أفضل وأحسن
ولم أر في عيوب الناس عيبـا كنقص القادرين على التمام |
والله أيها الأحبة! إني على ثقة أن في شبابنا وفتياتنا ورجالنا ونسائنا خيراً كثيراً، وأن في وسعهم وطاقاتهم الكثير الكثير، ولكن السلبية تلك الداء العضال -أعاذنا الله وإياكم منها- إن الله يربي المؤمنين على التطلع إلى أعلى المقامات، فيقول سبحانه على لسانهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
انظر وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] لم يقل سبحانه وتعالى: واجعلنا من المتقين! ولكنها تربية على الهمة العالية والعزيمة الصادقة وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
إن الله عز وجل يريد منك أيها الأخ الحبيب! ويريد منك أيتها المسلمة! أن تكون ذا همة عالية، لا أن تكون من المتقين فقط، بل أن تكون إماماً للمتقين، وأن تكوني إمامة للمتقيات، هكذا يريد الله عز وجل أن يربي هذه النفوس، واسمع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى) لماذا هذا الأمر؟! (فاسألوه الفردوس الأعلى) لأن المسلم صاحب مبدأ، وهو على الحق فإن عاش عاش عزيزاً، وإن مات مات شهيداً، والله معه مؤيداً وحافظاً، والجنة مستقره وموعده.
إذاً: فهو يملك جميع المقومات لأن يكون سيداً على وجه هذه الأرض، وأن يكون إماماً للمتقين، فما الذي يردك أيها الأخ الحبيب؟! ما الذي يردك وأنت على عزة حياً كنت أو ميتاً؟ هكذا يربي الله، وهكذا يربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وأمته، أن يسألوا الله الفردوس الأعلى، إن أقصى همة أحدنا إذا ذكرت الجنة أن يسأل الله الجنة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يربي فينا التطلع إلى أعلى المقامات، وعدم الرضا بالأمور الدنية، ولذلك: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى) .
التقيد بروتين الحياة وعدم التطلع إلى الجديد
اعتاد بعض المسلمين على نمط معين من الحياة ودرج عليه، فيثقل عليه المشاركة، ويصعب عليه العمل، وكلما حدث بأمر كان الرد منه سلباً، حتى أصبح المسكين لا قيمة له ولا ينظر إليه، ولا يسمع لكلمته، ربما مع سعة علمه وعلو مركزه رضي بالدون ورضي برتابة الحياة، حتى ملها هو بنفسه، وأصبح يعيش في هامش الحياة لا معنى له، فكيف تريد من الآخرين أن يحترموك أو يستجيبوا لك أو حتى يسمعوا كلمتك؟ مع ما أوتيت من علم ومن مركز مرموق، فإن الناس ينظرون إلى علو همتك، وينظرون إلى صدق كلمتك، وينظرون إلى عملك يا أيها الأخ الحبيب!.
إن بعض الناس إذا مات لا يبكيه أهله ومدينته فقط، بل تبكيه الأمة بكاملها؛ لأن الأمة فقدته، لم يفقده أهله لوحدهم، ولم تفقده مدينته لوحدها، بل فقدته الأمة بكاملها، كل الأمة تبكي عليه، من أجل أي شيء هذا؟ لأن الرجل كان رجلاً ممتازاً، كان رجلاً معطاءً، كان رجلاً عاملاً نشيطاً، وبعض الناس إذا مات بكاه أهله أياماً، وربما قالوا في قرارة أنفسهم: الحمد لله الذي أراحنا منه، فهو كلٌ عليهم، بل ربما ضاقت به نفسه التي بين جنبيه بهمومها وغمومها وقلقها ومرضها ونفسيتها، نفسه ربما ضاقت عليه، لماذا؟ لأنه لا همّ له إلا في شهواته وملذاته؛ فضاقت عليه نفسه، وضاق به أهله، وضاق به أهل مدينته، فكم من رجل وكم من امرأة، يتعوذ الناس من شره ومن شرها.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير |
ولكن الرزية فقد فذ يموت بموته خلق كثير |
وشتان بين هذا وذاك، فإن من الناس من همته في الثرى -أي: في التراب- وإن من الناس من همته في الثريا، ولذلك كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يردد هذه الأبيات الجميلة، واسمع له أيها المحب! واسمعي له أيتها الأخت الغالية، كان يقول رحمه الله:
إذا ما مات ذو علم وتقـوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه |
وموت الحاكم العدل المولـى بحكم الأرض منقصة ونقمه |
وموت فتى كثير الجود محل فإن بقاءه خصب ونعمه |
وموت العابد القوام ليل يناجي ربه في كل ظلمه |
وموت الفارس الضرغام هدم تشهدت له بالنصر عزمه |
فحسبك خمسة يبكى عليهـم وباقي الناس تخفيف ورحمه |
وباقي الخلق هم همج رعـاع وفي إيجادهم لله حكمه |
أترضى أن تكون من التخفيف والرحمة؟! أترضين أيتها الأخت المسلمة الغالية! أن تكوني من الهمج الرعاع؟!
والله لا نرضى نحن لمسلم أن يكون تخفيفاً ورحمة، فضلاً على أن يكون من الهمج الرعاع، كيف يرضى مسلم عاقل أن يقتله روتين الحياة ورتابتها؟ كيف يرضى مسلم عاقل أن تذهب الأيام والليالي والشهور والسنون وهو على حاله بدون تطور ولا تقدم؟!
اسأل نفسك: كم عمرك الآن؟ كم بلغت من العمر الآن؟ عشرون سنة؟ ثلاثون سنة، أربعون سنة؟
أسألك بالله هل أنت راض عن نفسك أيها الأخ الحبيب؟! ماذا قدمت خلال هذه السنوات؟ وهل أنت في تطور أم أنك ما زلت على حالك، وعلى ما أنت فيه منذ سنوات طويلة؟
إن المسلم العاقل صاحب المبدأ، وصاحب اليقين لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يقدم ما في وسعه، وحتى يتقدم، وحتى يكون غده أفضل من أمسه.
اسمع لـابن الجوزي وهو يقول رحمه الله تعالى: ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة وهم لها سابقون، وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم، فهم يحتقرونها مع التمام، ويعتذرون من التقصير، ومنهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك، ومنهم من لا يرى ما عمل أصلاً؛ لأنه يرى عمله ونفسه لسيده.
وبالعكس من المذكور عن أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل والشره والشهوات، فلئن ارتدوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من الأسف والحسرة، ومن تلمح صبر يوسف عليه السلام، وعجلة ماعز -أي في التوبة- بان له الفرق وفهم الربح من الخسران، ولقد تأملت نيل الدر من البحر، فرأيته بعد معاناة الشدائد، ومن تفكر فيما ذكرته -مثلاً- بانت له أمثال، فالموفق من إذا تلمح قصر الموسم المعمول فيه، وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له، انتهب -أي: حرص- حتى اللحظة، وزاحم على كل فضيلة، فإنها إذا فاتت فلا وجه لاستدراكها، أوليس في الحديث يقال للرجل: (اقرأ وارق فمنزلك عند آخر آية تقرؤها) فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل حفظ القرآن عاجلاً. انتهى كلامه رحمه الله.
الاستجابة للنفس الأمارة بالسوء
فأعجبتنا أنفسنا وأعمالنا، فرضينا بما نحن عليه، وأعلنا الاكتفاء وعدم المزيد، فكانت النتيجة: السلبية ودنو الهمة، وعدم التطلع لما هو أفضل وأحسن، وربما نظر أحدنا إلى من هو دونه في العبادات فأعجبته نفسه، وتقاعس عن الكثير من أبواب الخير.
واسمع لشعر هذا الكناس وعزته، قال الأصمعي: مررت بكناس -يكنس الشوارع- في البصرة ينشد يقول:
فإياك والسكنى بأرض مذلـة تعد مسيئاً فيها إن كنت محسنا |
ونفسك أكرمها وإن ضـاق مسكـن عليك بها فاطلب لنفسك مسكنا |
هذا الذي يقوله الكناس، فقلت -أي: الأصمعي -: والله لن يبقى بعد هذا مذلة، وأي مذلة بعد الكنس ؟ فقال الكناس: والله لكنس ألف مرة، أحسن من القيام على باب مثلك.
هكذا تكون عزة المسلم أياً كان ذلك العمل الذي يقوم به، مادام أنه يقوم به لله عز وجل.
كثرة الجلسات وضياع الأوقات
إنك لتتألم أشد الألم وأنت تعلم أن في تلك الجلسات أعداداً هائلة من أصحاب الطاقات والمواهب والعقول والأفكار، يلتقون على الأقل في الأسبوع مرة واحدة، أي: في السنة ما يقرب من ثمان وأربعين لقاء، واللقاء الواحد لا يقل عن خمس ساعات، ربما تزيد أو تقل، فما هي النتيجة؟ بماذا خرجوا بعد هذه الاجتماعات الطويلة؟ وماذا قدموا لأنفسهم؟ وماذا قدموا لعقيدتهم؟ وما هي حصيلة العلم التي كسبوها من هذه الجلسات؟ والموضوع يحتاج لا شك إلى دراسة وتأمل وتوجيه مفيد لاستغلال مثل هذه الجلسات، ومثل هذه الدوريات والاجتماعات.
لكن هذه إشارة سريعة لنعلم حجم السلبية في مجتمعنا المسلم، وبالتالي حجم الخسارة لكثير من طاقاتنا ومواهبنا وعقولنا وأفكارنا، بل لأوقاتنا حتى وأعمارنا، فقد نمى إلى علمي أن هناك شباباً لهم جلسات ودوريات في كل يوم، حتى أصبحت همه وشغله الشاغل، فلماذا هذا التنصل من الواجبات؟ ولماذا هذا الهروب من الواقع؟ أيعقل أنهم لا يعلمون أنهم مسئولون عن هذا الواقع المرير للأمة الإسلامية؟ أيعقل أيها الأحبة! أن هذه الأعداد الغفيرة التي تجلس على الأرصفة وفي المجالس وفي الدوريات والاستراحات وغيرها، أنهم لا يعلمون أنهم مسئولون أمام الله عز وجل عن هذا الواقع المرير عن حال الأمة الإسلامية؟!
قد يقول قائل منهم: ماذا باستطاعتنا أن نقدم؟
أقول: والله إن باستطاعتك الكثير لو فكرت أنت وأصحابك أن تستغلوا هذه الجلسات أولاً: لنفع أنفسكم، وثانياً: لنفع أولادكم وأهليكم، ثم بعد ذلك لنفع أمتكم، إن من فكر وجد، وإن من حرص وحمل الهمّ عرف كيف يعمل، أما الجلوس في المجالس وعلى الأرصفة والاستراحات والكلام والقيل والقال بما لا ينفع، فإن هذا ضياع للأعمار والأوقات والطاقات والمواهب والأفكار والعقول. والله أن كل فرد منا عليه حجم من المسئولية مهما كان:
لا تلم كفي إذا السيـف نبا صح مني العزم والدهر أبى |
مرحباً بالخطـب يبلونـي إذا كانت العلياء فيه السببا |
التهرب من الأعمال الجدية
كم من الناس إذا كلف بأمر قال: مشغول، وحقيقة أمره أنه غير مشغول، أو أنه مشغول بمثل هذه الجلسات ومثل هذه اللقاءات، أو الانشغال في شهوات النفس وملذاتها، أو التسويف والتأجيل وتأخير الأعمال والغفلة والنسيان المستمر لما كلف به، والأخطر من ذلك كله النقد المستمر لكل عمل إيجابي، وتضخيم الأخطاء، كل ذلك تبرير لعجزه وسلبيته القاتلة، بعض الناس لا يعمل، ويا ليته لم يعمل فقط، بل جعل نفسه راصداً لأعمال إخوانه، مرة بالنقد، ومرة بالجرح، ومرة بالتثبيط والتخذيل والتنصل للمشاركة والعمل، فكلما طلبناه في مكان، قال لنا: مشغول، وكلما كلفناه في مشاركة قال: لا أستطيع، بل كلما حدثناه في أمر كان لنا مثبطاً ومخذلاً.
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا |
وبالهمة العلياء ترقى إلى العـلا فمن كان أعلى همة كان أظهرا |
ولم يتأخر مـن أراد تقدمـا ولم يتقدم من أراد تأخرا |
إذاً فلكل شيء سبب، فإذا أردت أن تجعل نفسك في مكانها فلتتخذ ما ترضاه أنت لها.
تعطيل العقل
وتعطيل العقل موضوع يطول ولعلكم تسمعونه قريباً -إن شاء الله- بدرس خاص بهذا العنوان: تعطيل العقل.
تعطيل العقل وعدم التفكير، وإن فكر كثير من المسلمين والمسلمات واستخدم عقله فإذا هو يفكر فيما يحبه ويشتهيه كالرحلات والصيد والجلسات والملذات، وكأنها الهدف الذي خلق لها، فهبطت اهتماماته وسفلت غاياته، فلا قضايا المسلمين تشغله، ولا مصائبهم تحزنه، ولا شئونهم تعنيه، وإن حدث شيء من ذلك فعاطفة سرعان ما تبرد ثم تزول.
نرى كثيراً من الشباب والفتيات وكثيراً من المسلمين أصحاب عقول وأفكار، فعطلوها حتى أصبحوا أصفاراً على الشمال، فإما تقليد وإما تبعية للآخرين عمياء، وإما سكر للعقل بشهواته وحتى وإن كانت مباحة، هذا كلام للجميع، للرجال والنساء ملتزمين أو غير ملتزمين، فلكل حظ ونصيب من تعطيل عقله، ولعلي أقف هنا مشيراً إلى أن تحرص على أن تسمع ذلك الموضوع بعنوان: تعطيل العقل.
عقدة المستحيل ولا أستطيع
كم من المرات نضع بأنفسنا العقبات والعراقيل أمام كثير من مشاريعنا!! نحن بأنفسنا نصنع العقبات ونصنع العراقيل، والواقع يشهد بهذا، فلماذا عذر المستحيل وعذر عدم الاستطاعة وعدم القدرة هي الورقة التي نلوح بها دائماً، فنغلق نحن بأيدينا الأبواب في وجوهنا؟
والله يا أيها الإخوة! لو فكرنا وحاولنا لوجدنا أن كثيراً من العقبات والعراقيل التي تقف أمامنا إنما هي عراقيل وعقبات وهمية، وما هي إلا حيل نفسية، فكر جيداً وارجع لنفسك وحاسبها وستجد أننا بأنفسنا نعيق أنفسنا عن العمل، فكل أمر بمقدور البشر أن يفعله لا يمكن أبداً أن يكون مستحيلاً، وكل أمر بمقدورك أنت أيها الإنسان! أن تفعله لا يمكن أن يكون مستحيلاً أبداً.
سئل نابليون: كيف استطعت أن تولد الثقة في أفراد جيشك؟ فأجاب: كنت أرد بثلاث على ثلاث، من قال: لا أقدر، قلت له: حاول، ومن قال: لا أعرف، قلت له: تعلم، ومن قال: مستحيل، قلت له: جرب. هكذا إذاً.
فأقول لك: لا تيئس .. اجعل هذه الكلمة شعاراً لك لكل عمل تقوم به، فلكل مجتهد نصيب، وإن من أدمن قرع الباب ولج.
كن رابط الجأش وارفع راية الأمل وسر إلى الله في جد بلا هزل |
وإن شعرت بنقص فيك تعرفه فغذ روحك بالقرآن واكتمل |
وحارب النفس وامنعها غوايتها فالنفس تهوى الذي يدعو إلى الزلل |
قال ابن الجوزي: فصل: نشدان الكمال -أي: طلب الكمال-. قال فيه: "فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، فلو كانت النبوة تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية، ولو كانت تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن، أو تصور أن يكون -مثلاً- خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل. انتهى كلامه رحمه الله .
التثبيط والتيئيس للآخرين
فإن الرجل الصفر لا يكتفي -كما أسلفت- بعدم المشاركة، بل أصبح قاطع طريق، وعوناً للشيطان وحزبه، فتجده يخلق الأعذار والأسباب، وربما ألبسها الصبغة الشرعية لتبريره لعجزه وعدم مشاركته، وصدق الأحمر النحوي بقوله:
لنا صاحب مولع بالخلاف كثير الخطأ قليل الصواب |
ألج لجاجاً من الخنفساء وأزهى إذا ما مشى من غراب |
فليس لديه شجاعة الاعتراف بالخطأ والتقصير، وليس -أيضاً- لديه الاستعداد للعمل والمشاركة، ولكنه على أتم استعداد للنقد والتجريح، والثلب والتقبيح، فإلى الله وحده نشكو أمثال هؤلاء، ألا فليتق الله أولئك الإخوة الذين نصبوا أنفسهم مثبطين ومخذلين لإخوانهم، ونصبوا أنفسهم قاطعي طريق للأعمال الخيرية في كل مكان، ولذلك فنحن نقول لأمثالهم: كن عوناً لإخوانك، أو على الأقل اعمل ولو لوحدك، فإن الهدف واحد والغاية واحدة، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فما أجمل الصمت (فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت) وإن المثبط لإخوانه ليخشى عليه والله أن يبوء بإثمه وإثم الآخرين، وأذكر هنا بقول الحق عز وجل: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25] فلينتبه وليحذر أولئك النفر.
الضعف والفتور
وإخوان عهدتهم دروعا فكانوها ولكن للأعادي |
وخلتهم سهاماً راميات فكانوها ولكن في فؤادي |
وقالوا: قد صفت منا قلـوب لقد صدقوا ولكن عن ودادي |
ولكني أقول كما قال الآخر أيضاً:
عداتي لهم فضل علـيّ ومنـة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا |
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتهـا وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا |
والوقائع والأحداث والفتن هي التي تميز بين أناس وأناس، فإن لكل من الحق والباطل رجالاً، كما أن الحق يحمله رجال وينافحون عنه، فكذلك الفتن لها رجال يحملونها ويدعون الناس لها، ويتحملون كبرها، ولكن بين حملة الحق والصابرين عليه ودعاة الفتنة جمهور يتنازعهم الخير والشر، ومن هنا ينبغي الحذر من دعاة الفتن ومن يتأثر بهم من الرعاع، وضعاف النفوس وأتباع الهوى، وما أجمل ذلك القول لـعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الذي نقله الشاطبي في كتاب الاعتصام، فقال -أي: علي -: [إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، أف لحامل حق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، شغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به] إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى ورضي الله تعالى عنه.
هذه عشرة مظاهر من مظاهر الرجل الصفر.
أولاً: الخمول والكسل: الرجل الصفر أو المرأة الصفر لا يكلف نفسه القيام بشيء، حتى في مصالحه الشخصية، بل ربما في ضروريات حياته كالدراسة أو الوظيفة أو حتى بيته وطلباته، فماذا نقول إذن في حاله مع العبادات والطاعات من قيام ليل، وصلاة وتر، ومن السنن الرواتب، ومن صيام النفل، وقراءة القرآن وغيرها من العبادات ومن النوافل؟
بل انظر لحاله مع الفرائض والتثاقل فيها حتى أصبحت حاله شبيهة بحال المنافقين الذين قال الله عنهم: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].. وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54].
فكيف حاله مع قضايا المسلمين والاهتمام بها؟ وكيف يحمل همّ هذا الدين والدعوة إلى الله عز وجل؟ (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل) هكذا كان صلى الله عليه وسلم يردد هذا الدعاء علاجاً لهذه الظاهرة.
ثانياً: من مظاهر الرجل الصفر: الرضا بالدون مع القدرة على ما هو أفضل وأحسن، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر : من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء .
ولم أر في عيوب الناس عيبـا كنقص القادرين على التمام |
والله أيها الأحبة! إني على ثقة أن في شبابنا وفتياتنا ورجالنا ونسائنا خيراً كثيراً، وأن في وسعهم وطاقاتهم الكثير الكثير، ولكن السلبية تلك الداء العضال -أعاذنا الله وإياكم منها- إن الله يربي المؤمنين على التطلع إلى أعلى المقامات، فيقول سبحانه على لسانهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
انظر وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] لم يقل سبحانه وتعالى: واجعلنا من المتقين! ولكنها تربية على الهمة العالية والعزيمة الصادقة وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
إن الله عز وجل يريد منك أيها الأخ الحبيب! ويريد منك أيتها المسلمة! أن تكون ذا همة عالية، لا أن تكون من المتقين فقط، بل أن تكون إماماً للمتقين، وأن تكوني إمامة للمتقيات، هكذا يريد الله عز وجل أن يربي هذه النفوس، واسمع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى) لماذا هذا الأمر؟! (فاسألوه الفردوس الأعلى) لأن المسلم صاحب مبدأ، وهو على الحق فإن عاش عاش عزيزاً، وإن مات مات شهيداً، والله معه مؤيداً وحافظاً، والجنة مستقره وموعده.
إذاً: فهو يملك جميع المقومات لأن يكون سيداً على وجه هذه الأرض، وأن يكون إماماً للمتقين، فما الذي يردك أيها الأخ الحبيب؟! ما الذي يردك وأنت على عزة حياً كنت أو ميتاً؟ هكذا يربي الله، وهكذا يربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وأمته، أن يسألوا الله الفردوس الأعلى، إن أقصى همة أحدنا إذا ذكرت الجنة أن يسأل الله الجنة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يربي فينا التطلع إلى أعلى المقامات، وعدم الرضا بالأمور الدنية، ولذلك: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى) .
استمع المزيد من الشيخ إبراهيم الدويش - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المحرومون | 2930 استماع |
سهام للصيد | 2610 استماع |
توبة صايم | 2608 استماع |
اذهبوا بنا نصلح بينهم | 2607 استماع |
من كنوز الحج ... | 2478 استماع |
موعظة السبع البواقى | 2465 استماع |
بحر الحب | 2407 استماع |
بشائر ومبشرات | 2350 استماع |
السحر الحلال | 2347 استماع |
أهمية أداء الزكاة | 2338 استماع |