التضحية


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تبارك سبحانه وتعالى ما عبدناه حق عبادته، وما شكرناه حق شكره، نحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه ومقدرته، الأرض جميعاً قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، لا يعلم جنوده سبحانه إلا هو، وسع كرسيه السماوات والأرض، قلوبنا بيده، وبين إصبعين من أصابعه التي تليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، خيره إلينا نازل، ومعاصينا صاعدة تترى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوا الله في السر قبل العلن، تجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية.

ليس من يقطع طرقاً بطلاً     إنما من يتق الله البطل.

معاشر المؤمنين! أتدرون من هم حزب الله المفلحون؟ أتعلمون من هم حزب الله المفلحون؟ أهم أكثر الناس أموالاً؟ أهم أعلاهم في المراتب والمناصب؟ أهم أكثر الناس ذرية وزوجات ونفيراً؟ حزب الله المفلحون يقول الله فيهم: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22].

تلك أعظم سمة لحزب الله، الذين يبذلون الغالي والرخيص والدم والنفيس لوجه الله جل وعلا، ويضحون بالمصالح، وأواصر القربى والعلاقات والروابط، ولو كانت علاقات الآباء بالأبناء، أو الآباء بالإخوان والأخوات، أو الآباء والأهل بالعشائر والأقارب، في سبيل مرضاة الله جل وعلا، وفي سبيل إعلاء دينه، ورفعة كلمته.

معاشر المؤمنين! يوم أن تبين اتجاه الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وتحدد موقفهم، وتميز مكانهم في أمم الأرض والبشرية، فكانوا صفاً وعوناً، وعدداً وعتاداً لحزب الله، سَعُد الدين بهم، وانتشرت الدعوة، وسمت العقيدة، وحكمت الشريعة، ورفرفت للتوحيد راية.

ولنعلم أيها الأحباب! أنه لن يصلح آخر هذه الأمة التي نحن فيها إلا بما صلح به أمر أولها، يقول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله) فهو الحجة والمحجة، والنور والهداية، والمشعل والنبراس، والقوة والقدوة، والشريعة المحكمة.

معاشر المؤمنين! أسوق هذه المقدمة لأمهد لسؤال أطرحه الآن بين أيديكم، وأقول: إن التضحية هي أساس عزة الأمة، ورفعة الهمة، وعلو الدين، وانتشار الدعوة والعقيدة، فما حضنا من هذه التضحية؟ وما دورنا في هذه التضحية؟ وما بذلنا وعطاؤنا في هذه التضحية التي رأينا أروع المثل، وأجل الصور، وأجمل المشاهد لها في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟

تعلمون أن نبينا وجيهٌ في قومه، بل من أشرف العرب أرومة، ومع ذلك يوضع سلى الجزور على ظهره، ويوضع الشوك في طريقه، فيضحي بهذه ويقبل المتاعب في سبيل دعوته، تعلمون أنه صلى الله عليه وسلم يحب مكة حباً شديداً، ومع ذلك خرج منها، وهو يقول: (والله إنك لأحب الديار إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك، ما خرجت).

أنت إلى الخارج أخرجتني     لولاك هذا العام لم أخرج

يدع هذه البلاد والأطلال والعشائر والأقارب، والمال والأواصر مودعاً مكة مهاجراً، عليه من ربه نور وهداية، وعصمة وحافظ، حتى يبلغ المدينة صلى الله عليه وسلم، فيضرب المثل الأروع في التضحية، فيلحقه أصحابه، صهيب الرومي لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً، ومضحياً بالأهل والمال والموطن والبيت والمنـزل، فتلحقه قريش، قالوا: يا صهيب ! ألم تأتنا فقيراً فغنيت بنا؟ فالتفت إليهم ذلك الجهبذ رضي الله عنه، قال: يا معشر قريش! تعلمون أني أنبلكم بالقوس والسهم، ومن لحق بي لا يخطئ السهم قلبه، ولكن إن شئتم شيئاً فأخبروني؟ قالوا: نريد مالك، قال: وإن دللتكم على مالي تتركوني؟ قالوا: نعم. قال: هو خلف الحائط في ضيعة بني فلان، فذهبوا وأخذوا ماله وتركوه يهاجر لله وفي سبيل الله.

فلما قدم صهيب على النبي صلى الله عليه وسلم، نظر إليه المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وقال: (ربح البيع أبا صهيب) باع المال والمسكن والموطن لله جل وعلا، قد بعتها لله والله اشترى.

هكذا ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة، تضحية لإقامة الدين، إن صهيباً يوم أن أراد الهجرة، فوقفت له قريش، لم يقل: ما ظننا أن الأمر فيه خسارة ومخاطرة، وأننا سنخرج فقراء عراة مساكين من أرضنا لأجل محمد ودولته ودعوته، بل قال: إن دللتكم على مالي تتركوني؟ لأنه يعلم أن همته أعلى، وهمتهم أخس وأدنى، فدلهم على ما يرغبون من حطام الدنيا ومتاعها الزائل.

وكان مصعب بن عمير أجمل قريش، وأنداهم، وأعطرهم، وأطيبهم، وأترفهم دلالاً، فلما خالط الإيمان بشاشة قلبه، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، بقي مطرقاً، جاءت أمه وقالت: يا مصعب ! أتريد زوجة حسناء أشغلت بالك؟ شتان بين هم أمه وهم ذلك البطل، لم تعلم أن همه أن يلحق بنبيه، وأن يكون جندياً من جنود دعوته، ولما علموا أن الأمر هكذا، كفر بالطواغيت، وإيمان بالربوبية، كفر بهذه المشاهد والمظاهر والأوثان، وإيمان بالسنة والعقيدة والدعوة.

قالوا: تحرم من نعيمك ومن ترفك، وما أنت فيه؟ فقدمها وبذلها لله، فلبس أخشن اللباس، وبقي زاهداً في ذلك كله، حتى إنه رضي الله عنه لما استشهد لم يجدوا ما يكفنونه به، فكفن بعباءة إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، وكان من أعطر وأثرى وأجمل وأترف شباب قريش، لماذا ضحيت بهذا يا مصعب بن عمير؟ كي تكون أول سفير للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل المدينة، ومن أوائل المعلمين لهم، ضحى بذلك كله، طلباً لما هو خير منه أجمع، ألا وهو الجنة.

عباد الله! دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأمة، إلى البذل في سبيل الله، وإلى غزو أعداء الله، وكان الأمر يتطلب تضحية بالمال، وتجهيزاً للجيش، وبذلاً للسلاح، فجاء أبو بكر بماله كله، ونثره بين يدي رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ماذا تركت لأهلك وولدك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، نِعم المدخر، ونِعم الكنز الذي أبقيته لهم يا أبا بكر وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ ... ماذا يفعلون بهم؟ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].

قيل لـعمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة: هلا تركت شيئاً للصبية والأولاد والذرية؟ فقال: إن كانوا صالحين فلن يضيعهم الله، وإن كانوا عصاة فلن أضع لهم مالاً يتقووا به على معصية الله، قال الراوي: فوالله لقد رأيت كل واحد منهم حمل على مائة بعير في سبيل الله بأحلاسها وأقتابها وسلاحها، لأن غناء الله عطاء لا ينقطع، ومدد لا ينتهي، وجود لا ساحل له.

فيا معاشر المؤمنين! هذه صور من التضحيات التي بذل فيها الآباء والأجداد، والقدوة والأسوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده بذلوا فيها أروع الأمثلة وأجل المثل، لكي نتعلم نحن التضحية في هذا الزمان.

تعرفون قصة أصحاب الأخدود، في خلاصتها أن ملكاً من الملوك السابقين ادعى الربوبية، وكان ساحره يسيطر ويوسوس ويزخرف للناس أفعالاً يعتقدون بها أن ذلك الملك إله لهم، فلما أوشك على فراق الدنيا وأحس بدنو الأجل، قال الساحر للملك: إني أشعر بدنو أجلي، فهلا طلبتم لي فتى ذكياً، نابهاً فطناً، أعلمه الصنعة حتى يبقى الأمر لك من بعدي.

فماذا حصل له؟ اختاروا فتى، وكان ذلك الفتى يتردد على الساحر ليتعلم منه السحر الذي يزخرف به على أعين البشر، فيعتقد ألوهية ذلك الملك، وكان في الطريق راهب يعترض لهذا الفتى، فيعلمه الدين الحق والوحدانية السليمة، فأصبح الفتى بين أمرين وتيارين وطرفين يتجاذبانه، فقال: الآن أختبر هذين الأمرين يوم أن مر والناس قد حشروا لسبع قد عاقهم في المضي في طريقهم، فأخذ حجراً، قال: اللهم إن كان ما يعلمني هذا الراهب حقاً، فأمت هذا السبع بهذا الحجر، ثم قال: بسم الله رب هذا الراهب، فرمى السبع بها، فمات، ومر الناس وكبروا.

ثم أعجب الناس والتفوا حوله، وجاءوا إليه، فأصبح يداويهم باسم رب الراهب وهو الله جل وعلا، فلما علم الملك أن سحره بطل.

إذا جاء موسى وألقـى العصا     فقد بطل السحر والساحر

لما علم أن سحره بطل وانتهى، وأن كيده كشف واضمحل، أمر طواغيته ورجاله أن يأخذوا الفتى فيصعدوا به أعلى شاهق الجبال، فيرموه ليتردى إلى قعرها وقاعها، فلما هووا به، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، وإنك أنت السميع العليم، فنزل على الأرض كأن سحابة حفظته وحملته، وكأن مضلة أو حافظاً قام به حتى وقف على قدميه، فعادوا وقبضوا عليه أخرى، وأخبروا الملك بشأنه، فقال: اذهبوا به إلى لجة البحر، وارموه بها، فلما ذهبوا ليرموه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، وإنك أنت السميع العليم، فاضطرب البحر بأمر خالق البحر، بأمر رب الأمواج، بأمر رب الأرضين والسماوات، فتقلب الموج بهم، فسقطوا في لجته، وبقي هو على القارب فعاد ناجياً وحده.

فلما أعيت الملك الحيلة في شأن هذا الفتى، قال: أخبرنا كيف الخلاص منك، وكيف القضاء عليك، وكيف فناؤك؟ قال: أتريد أن تتخلص مني؟ أنا أدلك، اجمع الناس في صعيد واحد، ثم خذ سهماً من كنانتي، فإذا وضعته في كبد القوس، فارفع صوتك، وقل: بسم الله رب الغلام، وعند ذلك لن يخطئ السهم فؤادي، وسأخر صريعاً أمامك وأمام الناس.

فظن ذلك المخدوع أنها هزيمة للفتى ونصرة للوثنية والطاغوتية، فجمع الناس جميعاً في صعيد واحد، وصلب الفتى على جذع شجرة، ثم جر الوتر حتى اشتد أنينه، ثم انطلق السهم في كبد الفتى وفؤاده، بعد أن قال الملك بصوت مرتفع: بسم الله رب الغلام، فلما سقط الفتى، صاح الناس كلهم آمنا بالله رب الغلام.

إنها تضحية بالفؤاد وبالدم، وبالروح والنفس، حتى تعيش الأمة، فلابد أن تراق الدماء، وأن تنثر الأشلاء، وأن تذهب الملذات في سبيل رفعة الأمم، ويقظة الشعوب، ونهضة الأمة، ووعي الشباب الذي خدر كثيراً.

فيا عباد الله! هذه كلها أمثال دلت على أن الدين لا ينتشر إلا بتضحية، ودلت على أن العقيدة لا تسمو إلا ببذل، ولا تثبت إلا بإيثار وتفان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث، الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، الحمد لله على مننه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.

أيها الأحبة! لو سردنا الأمثلة على تضحيات الصحابة والتابعين وعلماء الأمة المخلصين، لما وسع ذلك أياماً وليالي، ولكن حسبنا أن نشير إلى ما يحرك الهمة، ويرفع الأمة من الضعف والخمود والهوان الذي أصاب كثيراً من أبنائها.

معاشر المؤمنين! إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاوضه سهيل بن عمرو على صلح الحديبية، قال سهيل: يا محمد! إنا نفاوضك على ما يلي، وذكر بنود الصلح والاتفاقية، وكان منها: أن من مفر من مكة إلى محمد من أصحاب محمد يرده محمد إلى قريش، ومن ذهب من المدينة إلى قريش فإن النبي لا يسترده، فرضي بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن الله جاعل له ولأصحابه من هذا فرجاً ومخرجاً، فلما وقعت هذه الاتفاقية، جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في أغلاله، فاراً من سجون قريش، فما بلغ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عد إلى قومك.

قال: يا رسول الله! أتتركني لهم يفتنوني في ديني، فقال صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يعلم أن الفرج من الله له ولأصحابه: (سيجعل الله لك فرجا) ووقعت هذه الاتفاقية، التي ظاهرها هزيمة للمسلمين، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فهرب أبو بصير رضي الله عنه إلى النبي من مكة إلى المدينة ، فأرسلت قريش رجلين ليحضرا أبا بصير هذا الذي هرب، فلما جاءوا إلى الرسول عليه الصاة والسلام، قالوا: إنا نطلب أبا بصير أن ترده معنا، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اذهب مع القوم، قال: يا رسول الله! يفتنونني، قال: سيجعل الله لك فرجاً ومخرجاً، وإنا قد أعطينا القوم عهداً وميثاقاً) فلما عاد أبو بصير معهم، والأسى يتبع الأسى، والدمع يتبع الدمع، ليس خوفاً ولا هلعاً ولا جزعاً، بل على فراق النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن أبا بصير من أذكى رجاله، وكان يقول: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه جيش) ذهب السفيران بـأبي بصير يعودان به إلى قريش، ولما كان في الطريق، إذ بواحد من هذين السفيرين، يهز سيفاً في يده، يقول: والله لأجعلن هذا السيف يشبع من دمائهم طوال الليل واليوم، ينتظر موقعة يقابل فيها النبي وأصحابه.

فالتفت أبو بصير ، قال: إن سيفك هذا لجيد، أفلا تريني، فصدق ذلك الرجل، وأراه السيف فاختطفه أبو بصير بخفة قوة المؤمن، وقطع به رأسه، وهرب الآخر، فعاد أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي: (يا أبا بصير ! اذهب حيث شئت) فذهب على ساحل البحر، وجلس على طريق قريش، فما مرت قافلة إلا ونال منها غنيمة وحظاً عظيماً، حتى أرسلت قريش مبعوثاً يناشد النبي ويرجوه أن يلغي هذا الأمر من اتفاقية الحديبية.

ضحى ذلك الصحابي، واستجاب لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: هاأنا أهاجر إليك فتردني، أو هاأنا أترك القوم مؤمناً فتطردني، بل ضحى لعلمه أن الله مع نبيه، وأن الوحي حق، وأن الإله لن يضيع أمته وجنود دعوته.

كذلك الإمام أحمد بن حنبل نازعوه على مسألة والله لو فتنا فيها هذا الزمان، لأفتى الكثير ولا أقول الكل، بمئات أمثالها، كيف وقد فتنوا بما هو صريح الدلالة في القرآن والسنة، فأفتوا بما يرضي القوم ويتبع أهواءهم، وفتن الإمام أحمد بالقول بخلق القرآن، هل هو منزل أم مخلوق؟ فقال: منزل، وقال ابن أبي دؤاد : إنه لمخلوق، وثبت الإمام أحمد على الفتنة، وضحى بلذته ونعيمه، وما كان يعيش لذة نعتقدها نحن في المراكب والمفارش والطعام والشراب، بل لذة الأنس والخلوة، ومع ذلك ما زادته إلا أنساً وخلوة بالله.

وعلقوا رجله بالسقف ورأسه يتدلى، تحتقن الدماء في وجهه، وكانوا يقولون له: يا أبا عبد الله ! يا أحمد بن حنبل ! ما تقول في القرآن؟ فيقول: كلام الله منـزل غير مخلوق، فقال الأمير: ألقوه أرضاً واجلدوه بالسياط، يا أبا عبد الله ! ماذا تقول في القرآن؟ فيقول: منـزل وليس بمخلوق، ولما بلغ الأمر منه مبلغاً، مد يده وقد ألقي على وجهه في الأرض يجلد، فقال الخليفة: أبا عبد الله ! أتدعو عليَّ؟ لأنه يعلم أن الإمام أحمد لا يدعو على السلاطين، بل يدعو لهم بالهداية، قال: أبا عبد الله أتدعو عليّ؟ قال: لا. وإنما أدعو ربي ألا تنكشف عورتي وأنتم تجلدوني.

وصبر على ذلك، إنها تضحية لكي تثبت العقيدة نقية واضحة سليمة من أن تدنسها أفكار المعتزلة، أو أن يدخل بها ما لا يليق أو ينبغي لها.

بعد هذا كله أسألكم أنتم الآن بماذا ضحيتم؟ أي أضحية قدمتم لدين الله جل وعلا؟ هل سمعتم بواحد قدم ذات يوم راتبه كله، وقال: هذا للمجاهدين في سبيل الله، ولو مرة في العمر، هل فعلناها يا إخوان؟ هل سمعنا أن شاباً من طلبة العلم أو من أمثالنا الضعفاء الفقراء، الذين يظن الناس بهم خيراً وهم أضعف الناس إلى الله جل وعلا، جعل شهراً يجوب البلاد يدعو إلى الله جل وعلا في كل سنة؟

جزء من التضحية لا نجده ولا نراه، هل سمعتم أن امرأة تصدقت بمهرها للمجاهدين في سبيل الله، أو لإعلاء كلمة الله، أو لنصرة دين الله، أين التضحيات؟ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أبايعك على الإسلام بشرط ألا أجاهد ولا أتصدق، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة؟!) الجهاد والصدقة يا عباد الله! والدعوة والبذل، والتضحية والإيثار في سبيل الدين.

إننا نعيش أمناً وثراءً ونعماً لا يحصيها إلا الله، ثمرة تضحيات سلفت، ولأجل دوامها لا بد أن نضحي، وإن كان حجم التضحيات في هذا الزمان لن يبلغ ما بلغه الأوائل إلا ما شاء الله، ولكن أين من يضحي منا؟ أين من يبذل؟ أين من يجعل بذل الجهاد والدعوة هماً يومياً كالطعام والغداء والفطور والعشاء؟ لا والله يا عباد الله! إني أدعوكم بدعوة الله لكم أن تتعلموا التضحية والإيثار بساعة من أربع وعشرين ساعة، اجعلوها لله جل وعلا، بيوم من شهر واحد، اجعلوها لله جل وعلا، بأسبوع من سنة كاملة، فرغوها للدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، واجعلوا صنيديقاً، ولا أقول خزينة، اجعلوه في مجالس بيوتكم، وكلما زل الإنسان بزلة، فليتصدق كفارة عن الزلة، وليتصدق نماءً للمال، وليبذل نشراً للدعوة، وبقاء وعوناً على حفظ العقيدة، وفي نهاية كل شهر كل يقدم خزينة صندوقه لوجه الله.

لو كان المسلمون على هذا المستوى من البذل لدينهم، والله لاستطاعوا أن يغرقوا الأعداء وأن يهلكوهم، ولكن لله في ذلك حكمة وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] فما أنتم فاعلون يا عباد الله؟! الدين يحتاج إلى تضحية، والعقيدة تحتاج إلى بذل، وهما خياران إما موت وإما حياة، هما أمران إما حياة بعقيدة، وإما جبن وشح وهوى وبعد عن التضحية، وبقاء على الذلة والهوان، نحن في نعمة نريد أن نحفظها بالتضحيات.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.