شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء - حديث 76-77


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

بقي عندنا من حصة الحلقة الماضية حديث واحد، وهو حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ).

تخريج الحديث وكلام أهل العلم فيه

والحديث كما ذكر المصنف أخرجه أحمد وضعفه البخاري، وقد أخرج هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم الترمذي في سننه والبيهقي والبزار وغيرهم.

وفي بعض طرقه أنها رضي الله عنها قالت ذلك ثم ضحكت، إشارة إلى أن المرأة التي حدثت معها هذه القصة هي نفسها رضي الله عنها وأرضاها.

وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث تصحيحاً أو تضعيفاً، فقد رواه الترمذي كما أسلفت، وأشار إلى ضعفه، وأنه لا يصح في هذا الباب حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم، يعني: حديث القبلة وأنها لا تنقض الوضوء، وقبل أن أسترسل في ذكر بعض من ضعفوه، أسأل الإخوة: لو أردنا أن نقف على مزيد من الكلام عن هذا الحديث الذي قال فيه الترمذي : لا يصح فيه شيء عن النبي صلي الله عليه وسلم، أين نجد مظنة ذلك فيما مضى معنا من الإشارة إلى بعض الكتب والمصنفات؟ أشرت سابقاً إلى كتاب قد يتوقع الطالب أنه يوجد فيه بحث في هذا الموضوع، ما دام الترمذي قال: لا يصح فيه شيء.

نعم، المغني عن الحفظ والكتاب، ومن ثم كتاب فصل الخطاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب، وأشرت في أحد الدروس السابقة إلى أنه صدر أخيراً كتاب اسمه: جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب لأحد طلاب العلم المعاصرين، حقق في هذه النصوص وتعقب بعضها، فما قيل فيه: لا يصح فيه شيء .. لا يصح في هذا الباب شيء، فمن مظان وجوده هذا الكتاب.

فـالترمذي قال: لا يصح فيه شيء من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل الترمذي ضعفه البخاري رحمه الله، ويحيى بن معين، بل قال يحيى بن معين : احك عني أنه شبه لا شيء، وضعف الدارقطني أيضاً جميع طرقه، وضعفه البيهقي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم، بل أكثر أهل الحديث على تضعيفه، ونصوصهم في ذلك كثيرة.

وذهب آخرون إلى ثبوت هذا الحديث، وذلك لأنه ورد من طرق كثيرة، حتى ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتاب تلخيص الحبير أن البيهقي أورده في كتاب الخلافيات من عشر طرق، وضعفها كلها، وساق الزيلعي في نصب الراية له عشر طرق، ولعلها هي الطرق التي أشار إليها ابن حجر، وساق الدارقطني أيضاً في سننه طرقاً عديدة للحديث.

وذكر بعضهم له شواهد، ولكنها شواهد أشد ضعفاً منه، فلا ينتهض الحديث بها؛ ولذلك قوى هذا الحديث بعض أهل العلم، فقواه ابن عبد البر، وعبد الحق الإشبيلي ساق إحدى روايات الحديث التي رواها البزار، وقال: وهذا إسناد لا أعلم له علة، هذا كلام عبد الحق الإشبيلي في أحكامه .

وممن قوى الحديث الزيلعي فقد جود بعض أسانيده، كرواية ابن ماجه قال: هذا إسناد جيد، والنسائي في سننه لا أقول أنه قوى الحديث، بل ساق بعض طرقه، وقال: وهذا وإن كان مرسلاً فهو أصح شيء في الباب، أو كما قال رحمه الله.

وممن قواه الشوكاني والصنعاني، فإنه يفهم من كلام الشوكاني في نيل الأوطار، ومن كلام الصنعاني في سبل السلام أنهما يريان أن كثرة طرق الحديث تقويه، ومن المتأخرين أو المعاصرين قواه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي، وعلق تعليقات طوال على هذا الحديث، خلاصتها: أنه يرى تصحيحه واتصال إسناده ويثبته، ومن ثم يحتج به رحمه الله.

والواقع أن الحديث كما سبق جميع طرقه ضعيفة، وهي طرق كثيرة، فإذا نظرت إلى ضعف الطرق واحتمال الاضطراب فيها قلت: إنه ضعيف، وإذا نظرت إلى كثرة الطرق وتعددها فقد تميل إلى تصحيحه أو تحسينه، وإذا نظرت إلى من ضعفوه، وجدت أنهم أرسخ قدماً في العلم ممن صححوه، وحسبك بـالبخاري، أو يحيى بن معين، أو الترمذي، أو ابن حجر، أو البيهقي، أو غيرهم ممن ذكرت.

وعلى أي حال فإن المسألة التي ساق المصنف الحديث لها لا تتوقف عليه وحده، سواء صح أو لم يصح، وإن كان لو صح لاعتبر نصاً في الباب، لكن الأدلة موجودة من غيره.

ولذلك أخرج من الكلام على الحديث، وإن كنت أميل الآن إلى ضعفه.

حكم الوضوء من مس المرأة وأقوال العلماء فيه

أخرج إلى الكلام على المسألة المتعلقة بالحديث، وهي مسألة: الوضوء من مس المرأة، هل مس المرأة ينقض الوضوء أم لا ينقض؟

وهذه المسألة فيها أقوال: حتى ذكر ابن المنذر في كتابه الأوسط في الجزء الأول أن في المسألة خمسة أقوال: لكن المشهور من الأقوال ثلاثة، وهي التي ذكرها أكثر أهل العلم والمصنفون في الخلافيات:

القول الأول: مس المرأة ينقض الوضوء مطلقاً

القول الأول: أن مس المرأة ينقض مطلقاً، وما معنى قولنا: مطلقاً؟ يعني: سواء كان بشهوة أو بغير شهوة.

وهذا مذهب الإمام الشافعي، وحجته في ذلك قوله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

قرأ حمزة وخلف والكسائي من العشرة قرءوها أو لامستم ، بدون مد، وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

وقرأها الباقون: أو لامستم ، فقال هؤلاء: إن المقصود بقوله: أو لامستم هو اللمس، بدليل القراءة الثانية وهي قوله: أو لمستم ، فاللمس يطلق حقيقة في اللغة العربية على اللمس باليد، ولذلك جاء في الحديث: ( العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها اللمس ) وهو اللمس.

ونهى عن بيع الملامسة مثلاً، فهي تستعمل في اللمس باليد، وقالوا: إن هذا هو المقصود بالآية: أنها محمولة على اللمس باليد، فإذا لمس الإنسان امرأته بيده فعليه الوضوء، وهذا القول ثابت عن بعض الصحابة أيضاً، كـابن عمر، وابن مسعود، أنهم فسروا الآية بما دون الجماع كاللمس باليد.

وهذه أقوى حجة لهم في إيجاب الوضوء مطلقاً، إنما يجب أن يعلم أن قولهم أن لمس المرأة أو لمسها ينقض الوضوء، هل تدخل فيه كل امرأة أم أن المقصود شيئاً خاصاً؟

أذكر بالمناسبة أنني لقيت يوماً من الأيام أحد الطلاب من عمان، فكان يذكر حال أهله وأنهم شافعية ليسوا إباضية، بل هم من أهل السنة في بعض مناطق عمان لكنهم شافعية، فيقول: إنهم يجدون حرجاً شديداً في لمس المرأة؛ لأن لمس المرأة عندهم ناقض مطلقاً، فيقول: يأتي أبي فيتوضأ ثم يريد أن يخرج للصلاة فتقابله أمي لتعطيه العقال ليلبسه مثلاً أو العمامة، فإذا أخذه منها مس طرف يده طرف يدها فأعاد الوضوء، ثم تناوله أحياناً في أيام الأعياد والمناسبات ما يلبسونه من سلاح وغيره، فتلمس يده فيعيد الوضوء، فيقول: إنه قد يعيد الوضوء في الوقت الواحد أربع أو خمس مرات فيتبرم من ذلك.

فهل هذا الحكم يشمل مثلاً الأخت والأم والبنت، بحيث يجب الوضوء منها عند الشافعي، أم أنه خاص بالزوجة؟

هي التي ينتقض الوضوء بلمسها أو العكس؟ يعني: لو مس الإنسان أمه بيده هل الكلام هو في مس من لا يحرم نكاحها، أما ذوات المحارم فلا تدخل في الحكم، فلو لمس أمه أو أخته بيده فإنه لا ينتقض وضوءه.

وهذا حكاه ابن المنذر إجماعاً إلا ما يذكر من مذهب جديد للشافعي قال: ولا أظنه يثبت عنه.

إذاً: هم يقولون: إن مس المرأة كتقبيل الزوجة مثلاً أو لمسها باليد أنه ينقض الوضوء؛ بدليل هذه الآية أو لمستم ، أو لامستم وهذا حقيقة في لمسها باليد.

ربما يكون المعتمد في ذلك الإجماع والله أعلم، أو كونهم يعتبرون أن هذه الملامسة هي مظنة الشهوة غالباً، كما سبق في النوم أنه مظنة الحدث.

القول الثاني: مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً

القول الثاني: هو نقيض الأول: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، أي: سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وهذا مذهب أبي حنيفة وسفيان، ورواية عن الإمام أحمد، ونسبه الترمذي في سننه إلى غير واحد من الصحابة والتابعين، قال: وهو قول غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، أن اللمس أو المس لا ينقض مطلقاً، وحجة هؤلاء ما يلي:

أولاً: احتجوا بحديث الباب إن صح، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ )، وهو دليل على أن مجرد اللمس أو التقبيل أو ما أشبه ذلك لا ينقض الوضوء بمجرده، ودلالته على ذلك ظاهرة.

الدليل الثاني: ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي في قبلته، فإذا سجد غمزها فقبضت رجلها، وإذا قام بسطت رجلها، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ).

فالنبي صلى الله عليه وسلم لمس عائشة بيده وهو يصلي لتكف رجليها، فيسجد في الموضع نفسه ولم ينتقض وضوءه، بل فعله وهو في صلب الصلاة، وهذا دليل واضح على أن لمس المرأة بمجرده لا ينقض الوضوء.

وأما ما تكلفه بعض الشراح كالحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره من دعوى خصوصيته، أو أنه كان من وراء حائل، فقد تعقبه أهل العلم بأن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها.

أما دعوى الخصوصية فلا تثبت إلا بدليل، وأما كونه من وراء حائل فلابد أن يثبت ذلك، وإلا فالأصل أن يكون الأمر مستوياً سواء بحائل أو بغير حائل.

والدليل الثالث: هو ما رواه مسلم في صحيحه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: ( أنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فخرجت تلتمسه )، وكانت رضي الله عنها شديدة الحب له، وفيها ما في النساء من الغيرة، فلما فقدته قالت: آه لعله ذهب إلى بعض نسائه، أو إلى بعض إمائه .. إلى مارية أو غيرها، ( فذهبت تلتمسه فوجدته في المسجد يصلي وهو ساجد وقدماه منصوبتان، قالت: فوقعت يدي على قدمه أو على قدميه وهو ساجد وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك ).

فقد لامست يدها قدمي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ومع ذلك لم ينتقض وضوءه بهذا.

والدليل الرابع: ما رواه النسائي عنها رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يوتر مسها برجله )، وهذا دليل أيضاً على أن لمس المرأة باليد أو الرجل أو نحوها لا ينقض الوضوء.

الدليل الخامس: البراءة الأصلية، فإن الأصل أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، هذا هو الأصل، ولا يمكن الانتقال عن هذا الأصل إلى ضده من القول بأن مسها ناقض للوضوء إلا إذا ورد دليل شرعي صريح صحيح على ذلك، هذه أدلتهم.

القول الثالث: مس المرأة ينقض الوضوء إذا كان بشهوة

أما القول الثالث: فهو قول الإمام مالك والفقهاء السبعة -فقهاء أهل المدينة - وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد : القول بالتفصيل، أن مس المرأة إن كان بشهوة نقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينقض.

ولعلهم يلحقون هذا بنظائره من الأفعال التي إذا فعلها الإنسان بشهوة نقضت، باعتبار أن الشهوة نوع من الحرارة التي في النفس فيطفئها الوضوء، ولذلك يقول بعضهم أيضاً في مس الذكر كما سيأتي إن شاء الله في الجلسة القادمة: أنه إن كان بشهوة كان ناقضاً للوضوء، فيجعلون لهذا نظائر كثيرة في الشريعة كما فصله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، فيفصل هؤلاء بين المس بشهوة وبغير شهوة.

القول الراجح: عدم انتقاض الوضوء من لمس المرأة إلا عند خروج المذي

وإذا نظرت في هذه الأقوال فإن الذي يظهر والله تعالى أعلم بالصواب أن القول الأوسط هو الأقوى، وأن مجرد لمس المرأة باليد أو تقبيلها أو ما أشبه ذلك لا ينقض الوضوء بمجرده إلا أن يخرج من الإنسان مذي، فحينئذ ينتقض الوضوء بالمذي كما سبق، أما مجرد اللمس فلا ينقض الوضوء.

وذلك -أولاً- لقوة أدلة هذا القول كما سبق، فهي أدلة صحيحة؛ بعضها في الصحيحين، وبعضها خارج الصحيحين كحديث النسائي، ولكن قال فيه ابن حجر : إسناده صحيح كما في التلخيص، وحديثه الثالث في مسلم، وهي واضحة في الدلالة على المقصود، فأدلة هذا القول قوية.

الوجه الثاني: أنه معترض بالبراءة الأصلية كما سبق، ولنفترض أنه لم يثبت لدينا الآن أي حديث يدل على أن لمس المرأة لا ينقض، ولا حديث يدل على أن لمسها ينقض، فلو لم يرد حديث في هذا الباب ولا في ذاك، فماذا نقول في لمس المرأة هل ينقض الوضوء؟

لا ينقض؛ لأن الأصل عدم النقض، ولا يمكن أن نجعل شيئاً من الأشياء ناقضاً للوضوء مبطلاً لحكمه الثابت في الشرع إلا بدليل، فإن الإنسان إذا توضأ وضوءاً شرعياً كما سبق تفصيله، حينئذ نقول: إنه أصبح متوضئاً، له أن يصلي ويفعل الأشياء التي تحتاج إلى وضوء، ولا يبطل هذا الحكم إلا بدليل شرعي.

فمثلاً: ثبت بالدليل الشرعي أنه إذا تبول أو تغوط أو أمذى مثلاً انتقض الوضوء، فإذا فعل هذه الأشياء قلنا: بطل الوضوء بالدليل الشرعي، لكن لو فعل أمراً آخر لم يجدوا دليلاً على أنه ينقض الوضوء، فحينئذ لا يمكن أن يقول أحد: انتقض وضوءك من باب التحكم، وهذا المقصود بالبراءة الأصلية، وهي مأخذ قوي في هذا الباب إضافة إلى الأدلة.

والوجه الثالث في تقوية القول بعدم النقض هو: ضعف أدلة الآخرين، فإنه لا يتبين لمن قال بالتفريق بين الشهوة وغيرها وجه قوي أو دليل صحيح، وكذلك من قالوا بأنه ينقض مطلقاً لا يصح استدلالهم، فإن غاية ما استدلوا به الآية كما سبق، وهي قوله: أو لامستم في قراءة، وقوله: (أو لمستم) في القراءة الأخرى.

والجواب على استدلالهم بهذه الآية من وجوه:

الوجه الأول: أن هذه الآية فسرها حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس كما جاء عنه بسند صحيح أن المقصود فيها الجماع، وكذلك ثبت هذا التفسير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في كتاب الأوسط لـابن المنذر والطبري وابن أبي شيبة وغيرهم، فالمقصود باللمس أو الملامسة الجماع.

الوجه الثاني الذي يجاب عنه: أن الملامسة جاءت في القرآن الكريم في مواضع عديدة، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].

وقوله: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237].

وقوله: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236].

ففي هذه الآيات ورد المس، من قبل أن تمسوهن ، ومن المعلوم أن إنساناً لو عقد على امرأة مثلاً ثم لمسها بيده في حضرة أناس آخرين، ثم طلقها دون أن يخلو بها، فإنه إن كان قد فرض لها مهراً فلها نصفه؛ لقوله: فنصف ما فرضتم ، وإن لم يكن فرض لها مهراً متعها؛ لقوله: ومتعوهن .

وقد ذكر ابن المنذر الإجماع على هذا، وهذا مصير إلى أن المقصود بقوله: ما لم تمسوهن وما أشبهه في الآيات الأخر: أن المقصود فيه الجماع وليس اللمس باليد، أو نقول أنه ليس المقصود فيه اللمس باليد، فهذا يدفع استدلالهم بهذه الآية على ما ذكروا.

وهناك وجه ثالث قوي في بيان معنى الآية، ذكره أيضاً ابن المنذر في الأوسط، وذكره الصنعاني في سبل السلام، وهو أنك لو تأملت سياق الآية لوجدتها تدل على أن المقصود بالملامسة الجماع؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في أول الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6].

فذكر أولاً الوضوء، والوضوء يكون من الحدث الأصغر، ثم ذكر ثانياً الجنابة وأن منها الغسل، فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6]، فكما أنه في أول الآية ذكر الطهارة الصغرى ثم الطهارة الكبرى، كذلك ثنَّى بذكر الطهارة الصغرى ثم الطهارة الكبرى.

فقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [المائدة:6] قوله: أو جاء أحد منكم من الغائط ، هذا إيماء إلى الطهارة الصغرى.

ثم قال: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] هذا إيماء إلى الطهارة الكبرى.

فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6] ولذلك يكون التيمم من الأحداث صغيرها وكبيرها، على ما هو مبسوط في موضعه، وبذلك ينسجم سياق الآية أولها مع آخرها، وأنها ذكرت في أول الآية الطهارة الصغرى ثم الكبرى، ثم ثنى بذكر الطهارة الصغرى ثم الكبرى أيضاً، فيكون معنى: أو لامستم الجماع.

وبذلك يتبين أن لا دلالة في الآية على وجوب الوضوء من لمس المرأة، هذا ما يتعلق بحديث عائشة رضي الله عنها.

والحديث كما ذكر المصنف أخرجه أحمد وضعفه البخاري، وقد أخرج هذا الحديث جمع من أهل العلم، منهم الترمذي في سننه والبيهقي والبزار وغيرهم.

وفي بعض طرقه أنها رضي الله عنها قالت ذلك ثم ضحكت، إشارة إلى أن المرأة التي حدثت معها هذه القصة هي نفسها رضي الله عنها وأرضاها.

وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث تصحيحاً أو تضعيفاً، فقد رواه الترمذي كما أسلفت، وأشار إلى ضعفه، وأنه لا يصح في هذا الباب حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم، يعني: حديث القبلة وأنها لا تنقض الوضوء، وقبل أن أسترسل في ذكر بعض من ضعفوه، أسأل الإخوة: لو أردنا أن نقف على مزيد من الكلام عن هذا الحديث الذي قال فيه الترمذي : لا يصح فيه شيء عن النبي صلي الله عليه وسلم، أين نجد مظنة ذلك فيما مضى معنا من الإشارة إلى بعض الكتب والمصنفات؟ أشرت سابقاً إلى كتاب قد يتوقع الطالب أنه يوجد فيه بحث في هذا الموضوع، ما دام الترمذي قال: لا يصح فيه شيء.

نعم، المغني عن الحفظ والكتاب، ومن ثم كتاب فصل الخطاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب، وأشرت في أحد الدروس السابقة إلى أنه صدر أخيراً كتاب اسمه: جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب لأحد طلاب العلم المعاصرين، حقق في هذه النصوص وتعقب بعضها، فما قيل فيه: لا يصح فيه شيء .. لا يصح في هذا الباب شيء، فمن مظان وجوده هذا الكتاب.

فـالترمذي قال: لا يصح فيه شيء من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل الترمذي ضعفه البخاري رحمه الله، ويحيى بن معين، بل قال يحيى بن معين : احك عني أنه شبه لا شيء، وضعف الدارقطني أيضاً جميع طرقه، وضعفه البيهقي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم، بل أكثر أهل الحديث على تضعيفه، ونصوصهم في ذلك كثيرة.

وذهب آخرون إلى ثبوت هذا الحديث، وذلك لأنه ورد من طرق كثيرة، حتى ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتاب تلخيص الحبير أن البيهقي أورده في كتاب الخلافيات من عشر طرق، وضعفها كلها، وساق الزيلعي في نصب الراية له عشر طرق، ولعلها هي الطرق التي أشار إليها ابن حجر، وساق الدارقطني أيضاً في سننه طرقاً عديدة للحديث.

وذكر بعضهم له شواهد، ولكنها شواهد أشد ضعفاً منه، فلا ينتهض الحديث بها؛ ولذلك قوى هذا الحديث بعض أهل العلم، فقواه ابن عبد البر، وعبد الحق الإشبيلي ساق إحدى روايات الحديث التي رواها البزار، وقال: وهذا إسناد لا أعلم له علة، هذا كلام عبد الحق الإشبيلي في أحكامه .

وممن قوى الحديث الزيلعي فقد جود بعض أسانيده، كرواية ابن ماجه قال: هذا إسناد جيد، والنسائي في سننه لا أقول أنه قوى الحديث، بل ساق بعض طرقه، وقال: وهذا وإن كان مرسلاً فهو أصح شيء في الباب، أو كما قال رحمه الله.

وممن قواه الشوكاني والصنعاني، فإنه يفهم من كلام الشوكاني في نيل الأوطار، ومن كلام الصنعاني في سبل السلام أنهما يريان أن كثرة طرق الحديث تقويه، ومن المتأخرين أو المعاصرين قواه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي، وعلق تعليقات طوال على هذا الحديث، خلاصتها: أنه يرى تصحيحه واتصال إسناده ويثبته، ومن ثم يحتج به رحمه الله.

والواقع أن الحديث كما سبق جميع طرقه ضعيفة، وهي طرق كثيرة، فإذا نظرت إلى ضعف الطرق واحتمال الاضطراب فيها قلت: إنه ضعيف، وإذا نظرت إلى كثرة الطرق وتعددها فقد تميل إلى تصحيحه أو تحسينه، وإذا نظرت إلى من ضعفوه، وجدت أنهم أرسخ قدماً في العلم ممن صححوه، وحسبك بـالبخاري، أو يحيى بن معين، أو الترمذي، أو ابن حجر، أو البيهقي، أو غيرهم ممن ذكرت.

وعلى أي حال فإن المسألة التي ساق المصنف الحديث لها لا تتوقف عليه وحده، سواء صح أو لم يصح، وإن كان لو صح لاعتبر نصاً في الباب، لكن الأدلة موجودة من غيره.

ولذلك أخرج من الكلام على الحديث، وإن كنت أميل الآن إلى ضعفه.

أخرج إلى الكلام على المسألة المتعلقة بالحديث، وهي مسألة: الوضوء من مس المرأة، هل مس المرأة ينقض الوضوء أم لا ينقض؟

وهذه المسألة فيها أقوال: حتى ذكر ابن المنذر في كتابه الأوسط في الجزء الأول أن في المسألة خمسة أقوال: لكن المشهور من الأقوال ثلاثة، وهي التي ذكرها أكثر أهل العلم والمصنفون في الخلافيات:

القول الأول: أن مس المرأة ينقض مطلقاً، وما معنى قولنا: مطلقاً؟ يعني: سواء كان بشهوة أو بغير شهوة.

وهذا مذهب الإمام الشافعي، وحجته في ذلك قوله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

قرأ حمزة وخلف والكسائي من العشرة قرءوها أو لامستم ، بدون مد، وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

وقرأها الباقون: أو لامستم ، فقال هؤلاء: إن المقصود بقوله: أو لامستم هو اللمس، بدليل القراءة الثانية وهي قوله: أو لمستم ، فاللمس يطلق حقيقة في اللغة العربية على اللمس باليد، ولذلك جاء في الحديث: ( العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها اللمس ) وهو اللمس.

ونهى عن بيع الملامسة مثلاً، فهي تستعمل في اللمس باليد، وقالوا: إن هذا هو المقصود بالآية: أنها محمولة على اللمس باليد، فإذا لمس الإنسان امرأته بيده فعليه الوضوء، وهذا القول ثابت عن بعض الصحابة أيضاً، كـابن عمر، وابن مسعود، أنهم فسروا الآية بما دون الجماع كاللمس باليد.

وهذه أقوى حجة لهم في إيجاب الوضوء مطلقاً، إنما يجب أن يعلم أن قولهم أن لمس المرأة أو لمسها ينقض الوضوء، هل تدخل فيه كل امرأة أم أن المقصود شيئاً خاصاً؟

أذكر بالمناسبة أنني لقيت يوماً من الأيام أحد الطلاب من عمان، فكان يذكر حال أهله وأنهم شافعية ليسوا إباضية، بل هم من أهل السنة في بعض مناطق عمان لكنهم شافعية، فيقول: إنهم يجدون حرجاً شديداً في لمس المرأة؛ لأن لمس المرأة عندهم ناقض مطلقاً، فيقول: يأتي أبي فيتوضأ ثم يريد أن يخرج للصلاة فتقابله أمي لتعطيه العقال ليلبسه مثلاً أو العمامة، فإذا أخذه منها مس طرف يده طرف يدها فأعاد الوضوء، ثم تناوله أحياناً في أيام الأعياد والمناسبات ما يلبسونه من سلاح وغيره، فتلمس يده فيعيد الوضوء، فيقول: إنه قد يعيد الوضوء في الوقت الواحد أربع أو خمس مرات فيتبرم من ذلك.

فهل هذا الحكم يشمل مثلاً الأخت والأم والبنت، بحيث يجب الوضوء منها عند الشافعي، أم أنه خاص بالزوجة؟

هي التي ينتقض الوضوء بلمسها أو العكس؟ يعني: لو مس الإنسان أمه بيده هل الكلام هو في مس من لا يحرم نكاحها، أما ذوات المحارم فلا تدخل في الحكم، فلو لمس أمه أو أخته بيده فإنه لا ينتقض وضوءه.

وهذا حكاه ابن المنذر إجماعاً إلا ما يذكر من مذهب جديد للشافعي قال: ولا أظنه يثبت عنه.

إذاً: هم يقولون: إن مس المرأة كتقبيل الزوجة مثلاً أو لمسها باليد أنه ينقض الوضوء؛ بدليل هذه الآية أو لمستم ، أو لامستم وهذا حقيقة في لمسها باليد.

ربما يكون المعتمد في ذلك الإجماع والله أعلم، أو كونهم يعتبرون أن هذه الملامسة هي مظنة الشهوة غالباً، كما سبق في النوم أنه مظنة الحدث.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4761 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4393 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4212 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4094 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4045 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4019 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3972 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3916 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3898 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3877 استماع