فقه الأماني


الحلقة مفرغة

الحمد لله على تقديره، وحسن ما صرَّف من أموره، نحمده سبحانه على حسن صنعه، ونشكره على إعطائه ومنعه، يسخر للعبد وإن لم يشكُره، ويستُر الجهل على من يظهره، خوَّف من يجهل من عقابه، وأطمع العامل في ثوابه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذَّرها منه، حتى تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والذين ساروا على طريقه وسلكوا نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فعلى المسلمين -جميعاً- أن يتَّقوا الله سبحانه، ويعبدوه -جل شأنه- كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، ومن جعل بينه وبين عذاب الله وقاية فقد اتقاه: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] .

أيها الناس! للمرء مع نفسه في هذه الحياة أسرار وأطوار، وهو -ولا شك- منذ أن يبدأ مرحلة التمييز المبكر يبدأ تفاعلُه مع الحياة ومناحيها في أولى مراحلها، لا يثنيه عن ذلك براءة الطفولة، ولا غيب المستقبل، ولا صِفر السجل من ماضٍ مجرب، كل ذلك لا يثنيه ألبتة عن أن يستعجل المستقبل، ويملأ فراغه المبكر مشرئباً بكمٍ هائلٍ من الأماني والآمال، تلكم الأماني التي لا تخضع للهرم أو الشيب، كعجلة دائرة، لا يحول دونها إلا الموت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر ) رواه مسلم .

إن من أعجب ما في المرء! حرصه على كشف ما مُنِع منه، وتوقه الجارف إلى ما لم ينل، والكثرة الكاثرة منا مبتلاة بتضخم الأماني واستسمانها، ولربما لم يسعف الزمان على تحقيقها، أو قد تضعُف الآلة فيبقى المتمني في عذاب، وقد قيل: "لو أُمِرَ الناس بالجوع لصبروا، ولو نُهوا عن تفتيت البعر -أجلَّكم الله- لرغبوا فيه، وقالوا: ما نُهينا عنه إلا لشيء"، والمقولة المشهورة: "أحب شيء إلى الناس ما منع عنهم".

ولهذا لو قََعَد الإنسان في بيته شهراً برمته لم يصعب عليه، ولو قيل له: لا تخرج من بيتك يوماً لطال عليه ذلك اليوم.

وإن تعجبوا -عباد الله- فعجبٌ حرصُ المرء على التمني، والإلحاح على ربه على تحقيقه، بل كلما زاد تعويقه ازداد إلحاحه على ربه، ثم ينسى المرء أن ربه منعه ذلك، إما لمصلحة فرُبَّ مُعَجَّلٍ هو أذى، وإما لذنوبه فإن صاحب الذنب بعيدٌ من الإجابة.

وفي الجملة: فتدبير الحق سبحانه للمرء خيرٌ من تدبير المرء لنفسه، وقد يمنعه ما يتمنى ابتلاءًَ ليبلو صبره، فالله الله.. في الصبر الجميل، يرى صاحبُه عن قربٍ ما يسُر، ويعلم أن كل ما يجري أصلح له عطاءً كان أو منعاً.

الممدوح من التمني والمذموم

التمني -أيها المسلمون- مأخوذٌ من الأمنية، وجمعها أماني، وهو أعم من الترجي؛ لأن الترجي مخصوصٌ بالممكنات، والتمني أعم من ذلك، وقد عرَّفه أهلُه على أنه إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خيرٍ من غير أن تتعلق بحسدٍ فهي مطلوبة وإلا فهي مذمومة.

والناظر في واقع المسلمين اليوم في شبابهم وشيوخهم من جهة الأمنيات والتطلعات المطروحة، لن يجد كثيراً يسرُّه، إذ يرى نفسه بين خليطٍ ممتزجٍ امتزاج المعبوب المقسور من التناقضات والمتعارضات، مما يجعله لا يبعد النجعة إذا أوقع حدسه في تصنيف عقول كثيرٍ منهم، وقد قيل: لتعرف حجم عقل المرء سَلْه عن أمنيته، وأحسن هؤلاء مَن قَصَر أمنيتَه على أمورٍ جبلية، كبنتٍ عضَلَها أبوها ظلماً فتتمنى الزواج، أو ربِّ أسرة مُناه أن يرى ما يسره ممن يعول، أو كزارعٍ يكدح، وتاجرٍ يسافر، ومريضٍ يتداوى بالعلقم، فالأول لحصاده، والثاني لربحه، والثالث لشفائه... وهلمَّ جرَّاً.

ولو لم يكن من التمني عندهم إلا دفع النشاط، وتخفيف الويلات لكفى، وكأنهم يُروُون بها على ظمأ، فإن تحققت فهي أحسن المنى، وإلا فهم يعيشون بها زمناً رغداً، وما كل ما يتمنى المرء يدركه!

والعيب هنا -أيها المسلمون- ليس في مبدأ التمني وطلبته فحسب! كلا. فالتمني جِبِلَّة جبل الله الخلق عليها؛ ولكن العيب هنا -كل العيب- في فوضى الأمنيات، والانحطاط الثقافي والمعرفي والروحي من نفوس الكثيرين، حتى إن أحدهم لََيَصل إلى درجة الأماني الدنيئة التي لا يقرها شرعٌ ولا عقل، وإنما طالتها لوثة الترويج الإعلامي المغلوط، وأمصال العولمة المعرفية، دونما سياجٍ للحشمة والعفاف، وما يحسن وما يقبح.

نَعَم! التمني مصدره ومحله القلب، وما يطلقه من طموحاتٍ ورغبات، وهذا لا يعفي المرء من تقييد همه، وأن محبة الإثم إثمٌ وإن لم يقع، وفي مثل هؤلاء يقول ابن الجوزي رحمه الله: نعوذ بالله من سِيَر هؤلاء الذين نعاشرهم، لا ترى منهم ذا همة عالية فيقتدي بها المقتدي، ولا صاحب ورعٍ فيستفيد منه الزاهد.

وعليكم بملاحظة سِيَر السلف وقد جاء عند الطبراني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يُحب معالي الأمور ويكره سفسافها } .

ومع ذلك -أيها المسلمون- فمن الناس جُحَّادٌ بالله الخالق، يعيشون بأنفسهم فحسب! تجدونهم أيأس الناس وأكفرهم ولا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] نظروا إلى الدنيا وإلى الناس وإلى حكمة الله بمنظارٍ أسود قاتمٍ، يرون الأرض غابة، والناس وحوشاً، والعيش عبئاً لا يُطاق، ليس للأماني الصادقة محلٌ في أفئدتهم حتى ولا جنة الخلد، فهم لا يبكون مَيْتاً، ولا يفرحون بمولود، ويرون أن الميت للدود والمولود لدود، وحاصلهم أن لا أمنية لديهم في أن يكون لهم أمنية، فعبروا عن قنوطهم وكفرهم بالله بما يبثونه من اللغط والخلط من خلال محادثاتٍ ومقالاتٍ في الصحافة تارة، ومن خلال روائياتٍ تاراتٍ وتارات، يُعدِمون بها انتماءهم للدين بالعدامة، ثم يشمِّتون أرواحهم لتفوح جيفهم فتخطفهم الطير أو تهوي بهم الريح إلى سراديب في شرق الوادي السحيق. والله المستعان!

ولا غَرْوَ -أيها المسلمون- في انتشار الأماني الكاذبة، والطموحات الساذجة، والتطلعات الدنيئة في هذه العصور المتأخرة التي ضعف فيها الوازع الديني الزاجر، ولله كم من أمنياتٍ كانت وستكون مولِّدة لأمنيةٍ أخرى هي على الضد من ذلك عند اختلال الموازين، يقف لها شَعر المرء المسلم!

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: {لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء }، يقول ابن عبد البر : "سيكون هذا لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين، أو ضعفه، أو خوف ذهابه".

وقد أخرج الحاكم عن أبي سلمة قال: [[عدتُ أبا هريرة فقلت: اللهم اشفِ أبا هريرة فقال: اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمُتْ، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمانٌ الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر، وليأتين أحدهم قبر أخيه، فيقول: ليتني مكانه ]] وهذا -أيها المسلمون- لا يُعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب } رواه البخاري وغيره؛ لأن هذا محمولٌ على زمانٍ لم تعم فيه الفتن والبلايا التي يكون الموت فيها أسلم من الحياة.

بعض الأماني الحسنة

عباد الله: للمقولة المشهورة دورٌ في تمييز الخبيث من الطيب، والزَّين من الشين، وبالضد تتميز الأشياء، وهذه ملامح موجزة سريعة عن بعض أماني السلف الحسان:

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لو كان عندي أحد ذهباً لأحببت ألا يأتي عليَّ ثلاثٌ وعندي منه دينارٌ إلا شيء أرصده في دينٍ عليَّ أجد من يقبله } رواه البخاري .

وذكر ابن قتيبة وابن عبد البر وابن خلكان أنه اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب : [[تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت؟ فقال: ولاية العراق وتزوُّج سكينة بنت الحسين ، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله ؛ فنال ذلك، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحْمَل عنه الحديث؛ فنال ذلك، وتمنى عبد الملك بن مروان الخلافة؛ فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة ]].

وذكر الطبراني والبيهقي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: [[إن فيَّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله فلَوَدِدْتُ أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حُكَّام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلِّي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع الغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة ]].

يقول ابن الجوزي -رحمه الله- مُحدِّثاً عن نفسه: "لقد بلغتُ السن وما بلغت ما تمنيت -وكان رحمه الله قد تمنى كثرة العلوم والمعارف- فأخذتُ أسأل الله تطويل العمر، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال، وكان هذا السؤال في ربيع الآخر من سنة (75هـ)، فإن مُدَّ لي أجل وبلغت ما أمَّلته، فسأُخبر ببلوغ آمالي، وإن لم يتفق فربي أعلم بالمصالح، فإنه لا يَمنع بخلاً، ولا حول ولا قوة إلا به".

وكان عمره -رحمه الله- آنذاك خمسة وستين عاماً، ثم مُدَّ في عمره اثنين وعشرين سنة أُخرى فكانت الوفاة سنة (97هـ) للهجرة حصل له من البركة في العلم والعمل الشيء الكثير.

ولا جرم -عباد الله- فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا تمنى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه } رواه عبد بن حميد ، وهو على شرط البخاري ومسلم .

هذه لمحاتٌ موجزة من تمني المعالي مع صدق وجد؛ لأن الحرمان بالكسل موكل، ومن ينصَب يصِب عن قريب غاية ما يتمنى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز } رواه مسلم . وقد جاء في الصحيح من حديث ربيعة بن كعب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال له: أعني على نفسك بكثرة السجود } رواه مسلم .

فالذي ينبغي لمتمني الخير ألَّا يقصر في شوطه، فإنْ سبق وحصل المقصود فهذا هو المراد، وإن كبا جواده مع اجتهاده لَمْ يُلَمْ.

سمع الفاروق -رضي الله تعالى عنه- قوماً من أهل اليمن يتمنون المال وهم قاعدون بالمسجد، فعلاهم بدرته، وقال: [[لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني! وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وإن الله يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] ]] .

ويا لَلَّه كم من متمنٍ بصدقٍ وجد نال ما تمنى بإذن الله، فإن لم ينله كله نال بعضه! ولقد أحسن من قال:

لأستسهلن الصعب أو أُدركَ المنى     فما انقادت الآمال إلا لصابر

التمني -أيها المسلمون- مأخوذٌ من الأمنية، وجمعها أماني، وهو أعم من الترجي؛ لأن الترجي مخصوصٌ بالممكنات، والتمني أعم من ذلك، وقد عرَّفه أهلُه على أنه إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خيرٍ من غير أن تتعلق بحسدٍ فهي مطلوبة وإلا فهي مذمومة.

والناظر في واقع المسلمين اليوم في شبابهم وشيوخهم من جهة الأمنيات والتطلعات المطروحة، لن يجد كثيراً يسرُّه، إذ يرى نفسه بين خليطٍ ممتزجٍ امتزاج المعبوب المقسور من التناقضات والمتعارضات، مما يجعله لا يبعد النجعة إذا أوقع حدسه في تصنيف عقول كثيرٍ منهم، وقد قيل: لتعرف حجم عقل المرء سَلْه عن أمنيته، وأحسن هؤلاء مَن قَصَر أمنيتَه على أمورٍ جبلية، كبنتٍ عضَلَها أبوها ظلماً فتتمنى الزواج، أو ربِّ أسرة مُناه أن يرى ما يسره ممن يعول، أو كزارعٍ يكدح، وتاجرٍ يسافر، ومريضٍ يتداوى بالعلقم، فالأول لحصاده، والثاني لربحه، والثالث لشفائه... وهلمَّ جرَّاً.

ولو لم يكن من التمني عندهم إلا دفع النشاط، وتخفيف الويلات لكفى، وكأنهم يُروُون بها على ظمأ، فإن تحققت فهي أحسن المنى، وإلا فهم يعيشون بها زمناً رغداً، وما كل ما يتمنى المرء يدركه!

والعيب هنا -أيها المسلمون- ليس في مبدأ التمني وطلبته فحسب! كلا. فالتمني جِبِلَّة جبل الله الخلق عليها؛ ولكن العيب هنا -كل العيب- في فوضى الأمنيات، والانحطاط الثقافي والمعرفي والروحي من نفوس الكثيرين، حتى إن أحدهم لََيَصل إلى درجة الأماني الدنيئة التي لا يقرها شرعٌ ولا عقل، وإنما طالتها لوثة الترويج الإعلامي المغلوط، وأمصال العولمة المعرفية، دونما سياجٍ للحشمة والعفاف، وما يحسن وما يقبح.

نَعَم! التمني مصدره ومحله القلب، وما يطلقه من طموحاتٍ ورغبات، وهذا لا يعفي المرء من تقييد همه، وأن محبة الإثم إثمٌ وإن لم يقع، وفي مثل هؤلاء يقول ابن الجوزي رحمه الله: نعوذ بالله من سِيَر هؤلاء الذين نعاشرهم، لا ترى منهم ذا همة عالية فيقتدي بها المقتدي، ولا صاحب ورعٍ فيستفيد منه الزاهد.

وعليكم بملاحظة سِيَر السلف وقد جاء عند الطبراني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يُحب معالي الأمور ويكره سفسافها } .

ومع ذلك -أيها المسلمون- فمن الناس جُحَّادٌ بالله الخالق، يعيشون بأنفسهم فحسب! تجدونهم أيأس الناس وأكفرهم ولا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] نظروا إلى الدنيا وإلى الناس وإلى حكمة الله بمنظارٍ أسود قاتمٍ، يرون الأرض غابة، والناس وحوشاً، والعيش عبئاً لا يُطاق، ليس للأماني الصادقة محلٌ في أفئدتهم حتى ولا جنة الخلد، فهم لا يبكون مَيْتاً، ولا يفرحون بمولود، ويرون أن الميت للدود والمولود لدود، وحاصلهم أن لا أمنية لديهم في أن يكون لهم أمنية، فعبروا عن قنوطهم وكفرهم بالله بما يبثونه من اللغط والخلط من خلال محادثاتٍ ومقالاتٍ في الصحافة تارة، ومن خلال روائياتٍ تاراتٍ وتارات، يُعدِمون بها انتماءهم للدين بالعدامة، ثم يشمِّتون أرواحهم لتفوح جيفهم فتخطفهم الطير أو تهوي بهم الريح إلى سراديب في شرق الوادي السحيق. والله المستعان!

ولا غَرْوَ -أيها المسلمون- في انتشار الأماني الكاذبة، والطموحات الساذجة، والتطلعات الدنيئة في هذه العصور المتأخرة التي ضعف فيها الوازع الديني الزاجر، ولله كم من أمنياتٍ كانت وستكون مولِّدة لأمنيةٍ أخرى هي على الضد من ذلك عند اختلال الموازين، يقف لها شَعر المرء المسلم!

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: {لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء }، يقول ابن عبد البر : "سيكون هذا لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين، أو ضعفه، أو خوف ذهابه".

وقد أخرج الحاكم عن أبي سلمة قال: [[عدتُ أبا هريرة فقلت: اللهم اشفِ أبا هريرة فقال: اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمُتْ، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمانٌ الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر، وليأتين أحدهم قبر أخيه، فيقول: ليتني مكانه ]] وهذا -أيها المسلمون- لا يُعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب } رواه البخاري وغيره؛ لأن هذا محمولٌ على زمانٍ لم تعم فيه الفتن والبلايا التي يكون الموت فيها أسلم من الحياة.

عباد الله: للمقولة المشهورة دورٌ في تمييز الخبيث من الطيب، والزَّين من الشين، وبالضد تتميز الأشياء، وهذه ملامح موجزة سريعة عن بعض أماني السلف الحسان:

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لو كان عندي أحد ذهباً لأحببت ألا يأتي عليَّ ثلاثٌ وعندي منه دينارٌ إلا شيء أرصده في دينٍ عليَّ أجد من يقبله } رواه البخاري .

وذكر ابن قتيبة وابن عبد البر وابن خلكان أنه اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب : [[تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت؟ فقال: ولاية العراق وتزوُّج سكينة بنت الحسين ، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله ؛ فنال ذلك، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحْمَل عنه الحديث؛ فنال ذلك، وتمنى عبد الملك بن مروان الخلافة؛ فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة ]].

وذكر الطبراني والبيهقي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: [[إن فيَّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله فلَوَدِدْتُ أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حُكَّام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلِّي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع الغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة ]].

يقول ابن الجوزي -رحمه الله- مُحدِّثاً عن نفسه: "لقد بلغتُ السن وما بلغت ما تمنيت -وكان رحمه الله قد تمنى كثرة العلوم والمعارف- فأخذتُ أسأل الله تطويل العمر، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال، وكان هذا السؤال في ربيع الآخر من سنة (75هـ)، فإن مُدَّ لي أجل وبلغت ما أمَّلته، فسأُخبر ببلوغ آمالي، وإن لم يتفق فربي أعلم بالمصالح، فإنه لا يَمنع بخلاً، ولا حول ولا قوة إلا به".

وكان عمره -رحمه الله- آنذاك خمسة وستين عاماً، ثم مُدَّ في عمره اثنين وعشرين سنة أُخرى فكانت الوفاة سنة (97هـ) للهجرة حصل له من البركة في العلم والعمل الشيء الكثير.

ولا جرم -عباد الله- فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا تمنى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه } رواه عبد بن حميد ، وهو على شرط البخاري ومسلم .

هذه لمحاتٌ موجزة من تمني المعالي مع صدق وجد؛ لأن الحرمان بالكسل موكل، ومن ينصَب يصِب عن قريب غاية ما يتمنى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز } رواه مسلم . وقد جاء في الصحيح من حديث ربيعة بن كعب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال له: أعني على نفسك بكثرة السجود } رواه مسلم .

فالذي ينبغي لمتمني الخير ألَّا يقصر في شوطه، فإنْ سبق وحصل المقصود فهذا هو المراد، وإن كبا جواده مع اجتهاده لَمْ يُلَمْ.

سمع الفاروق -رضي الله تعالى عنه- قوماً من أهل اليمن يتمنون المال وهم قاعدون بالمسجد، فعلاهم بدرته، وقال: [[لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني! وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وإن الله يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] ]] .

ويا لَلَّه كم من متمنٍ بصدقٍ وجد نال ما تمنى بإذن الله، فإن لم ينله كله نال بعضه! ولقد أحسن من قال:

لأستسهلن الصعب أو أُدركَ المنى     فما انقادت الآمال إلا لصابر